Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إعلانات رمضان والدراما... صراع الهامش والمتن

تعصف بقواعد صناعة الإعلام وفنونه وتضرب عرض الحائط بالرسائل التي يفترض تمريرها للناس

إعلانات رمضان 2023 (مواقع التواصل)

ملخص

الصراع الطبقي والأخلاقي الإعلاني المحموم مكون رئيس في #رمضان، حيث البعض يشجب ويندد بمحتوى إعلانات يرى أنها تجافي #الأخلاق، والبعض الآخر يطالب بلجان مشاهدة لمنع ما يهدد #السلم_الاجتماعي

إعلانات رمضان هذا العام تعصف بقواعد صناعة الإعلام وفنونه، كما ضربت عرض الحائط بالرسائل التي يفترض تمريرها للناس، ألا وهي "التقشف حتى نعبر الأزمة"، و"كتف في كتف"، كما أنها ترسيخ لقاعدة تحويل الإعلان (30 ثانية) إلى أغنية (من دقيقتين أو ثلاث أو أربع)، وهو ما يصفه متخصصون في الإعلانات بـ"الهبل الرسمي".

الظاهرة لم تعد تقتصر على مكون جدلي جديد، أو تحليل شعبي عميق، أو حتى تقييم فني عتيد لمئات الإعلانات الرمضانية التي تتنافس على استلاب اهتمام المتلقي وعقله وقلبه، ومن ثم جيبه، طيلة أيام الشهر. تحولت الظاهرة التي بدأت قبل نحو عقدين لتناطح الجرعة الدرامية الكلاسيكية بكم مذهل من الإعلانات السريعة إلى منظومة كبيرة ثقيلة تفرض نفسها مكوناً رمضانياً في كل بيت، حيث الشد والجذب، والمتابعة والمقاطعة، والثناء والهجاء على هذا الإعلان، وذاك.

أرض المعركة الشعبية

نظرة سريعة إلى أرض المعركة الشعبية، حيث الأثير العنكبوتي العامر بقضايا الصراع ونقاط النقاش الشعبية في كل كبيرة وصغيرة من شؤون الحياة تشي بأن نسبة كبيرة من النشاط الشعبي العنكبوتي يصول ويجول في محيط الإعلانات الرمضانية.

هذا النشاط المحموم يعكس قدرة الإعلانات الرمضانية على الاستقلال بنفسها وإعلان ساحتها منطقة محررة ذات حكم ذاتي منفصلة تماماً عن الراية الأم التي ولدت في كنفها، ألا وهي المسلسلات والبرامج الرمضانية.

ليس هذا فقط، بل تميل الكفة الشعبية النقدية أحياناً، تحت وطأة الغزو الإعلاني الهادر والتطور في المحتوى الدائر، إلى الإغراق في الإعلان على حساب الدراما التي كانت حتى الأمس القريب الطبق الأساسي والمكون الاستراتيجي في شهر رمضان.

رمضان موسم خير ورخاء على القنوات التلفزيونية ومالكيها، سواء كانت الدولة أو رجال الأعمال، إذ تنهمر السماء بسيول من الإعلانات وطوفان من الأموال التي طال انتظارها بقية أشهر السنة، لا سيما بعد تحولات وتقلبات السوق بسبب أزمة الوباء، وعلى رغم أنف الأزمة الاقتصادية العالمية الضاغطة وحرب روسيا في أوكرانيا في القلب منها، هذا الانهمار يحمل في طياته هذا العام ملامح جديدة ومؤشرات يبدو أنها فريدة ومثيرة، وفي أقوال أخرى غريبة وهجينة.

ثالوث النقد الشعبي

رد الفعل الشعبي المصري الهادر كعادته في شأن المحتوى التلفزيوني الرمضاني، الذي أصبحت الإعلانات تشكل جزءاً لا يتجزأ منه، يدور في معظمه حول ثالوث لا يتغير إلا قليلاً: روعة أغنية الإعلان أو رداءتها مع تقييم لمظهر الـ"موديلز" من منطلق الفضيلة أو الأناقة، وتحريك الإعلان لمشاعر المتلقي، لا سيما مع شيوع الدق على نوستالجيا "زمان" في السنوات القليلة الماضية، والهاجس الطبقي، حيث غضبة على إعلانات المنتجات التي لا يقوى ولا يحلم الفقراء باقتنائها، والعكس صحيح أيضاً، حيث استهجان مخملي من إعلانات المنتجات الشعبية التي تعتبرها الطبقات المخملية تدنياً في الذوق وإشاعة للقبح وترويجاً للبخس.

الصراع الطبقي والأخلاقي الإعلاني المحموم، على رغم أنف الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي نالت من الجميع، بات مكوناً رئيساً في شهر رمضان من كل عام. البعض يشجب ويندد بمحتوى إعلانات يرى أنها تجافي الذوق العام والأخلاق، والبعض الآخر يطالب بلجان مشاهدة لمحتوى الإعلانات ومنع ما يهدد السلم الاجتماعي أو يفتت التلاحم الطبقي درءاً للأحقاد الاجتماعية.

من السمن إلى الهدر

الرصد السريع للتاريخ الحديث لإعلانات رمضان يشير إلى مسيرة بدأت بإعلانات السمن النباتي الرخيص المزود بنكهة السمن "البلدي" (وهو المنتج الذي يصدع الأطباء والاختصاصيون الرؤوس على الشاشات نفسها بالتحذير من آثاره الخطرة على الصحة وتسببه في أمراض تفتك بالبشر)، وكذلك كريمات تفتيح البشرة (التي ترسخ للعنصرية وترسيخ فكرة سمو أصحاب البشرة الفاتحة وتدني أصحاب البشرة الداكنة)، ومرت بمسابقات المنظفات التي تعد المشاركين بجنيهات ذهبية ورحلات عمرة وحج مليونية مع قليل من إعلانات عقارية ومشروبات غازية، وتصل إلى محطتها الملتبسة الحالية، حيث خليط هادر غامض يتراوح بين بنوك وطنية ومنتجعات عقارية وشركات اتصالات مليارية لا تروج لمنتج بالمعنى المعروف بقدر ما تقدم نفسها باعتبارها "عملاً فنياً" غير محدد الهدف.

الهدف من الإعلان، أي إعلان، هو تعريف المستهلك بخدمة أو منتج ما، وذلك عبر توفير المعلومات اللازمة عنه، لا سيما المميزات والفوائد التي يمكن أن تعود على المشتري في حال اتخذ قرار الشراء، والغاية من الإعلان تكون بناء أو خلق انطباع إيجابي وصورة جيدة عن المنتج أو الشركة أو الخدمة المعلن عنها.

كما أن الأصل في الإعلان هو جذب اهتمام المتلقي أو الجمهور المستهدف للاهتمام بالمنتج، وبعد إثارة الاهتمام يعمل الإعلان على إقناع المتلقي باتخاذ قرار الشراء، لذلك يقوم جانب كبير من الإعلان على استخدام مفاتيح علم النفس للتأثير في الطريقة التي يفكر بها المتلقي.

انقلب إلى الضد

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا العام، وجد المتلقي نفسه في حيرة من أمره وهو جالس على كنبته متابعاً للإعلانات التي لم تعد فواصل في المسلسلات، بل باتت المسلسلات فواصل في الغزو الإعلاني. وقد اتفق فقهاء الإعلان على أن متوسط طول الإعلان التلفزيوني هو 30 ثانية، لكن يمكن أن يكون 10 أو 20 أو 40 أو 60 ثانية (أي دقيقة) كحد أقصى. وما زاد على الحد انقلب إلى الضد.

وعلى رغم وجهات نظر يتبناها بعض من اختصاصيي الإعلانات التلفزيونية وتشير إلى أن طول مدة الإعلان لدرجة تصل إلى دقيقة أو دقيقة ونصف الدقيقة قد تحمل مميزات، حيث الإعلانات الطويلة تعمل بمثابة روابط للذاكرة بشكل أفضل من القصيرة، كما أنها تعزز ذاكرة الصورة لدى المتلقي بشكل أكبر، فإن الإعلانات الرمضانية التي وصلت مدة بعضها هذا العام إلى ثلاث دقائق، ويزيد، قد تأتي بنتائج عكسية.

صابون وبيت يرى البحر

ملايين المصريين نشأوا وترعرعوا على إعلانات رمضانية لا تزيد مدتها على 30 أو 40 ثانية، وربما دقيقة تركز على المنتج، سواء كان صابون غسالة يغسل أكثر بياضاً، أو مرقة دجاج تحول أبسط الأطعمة إلى أطايبها، أو حتى شقة سكنية "ترى البحر" على رغم أنها تبعد عنه أميالاً، لذلك تبدو الصرعة الرمضانية الحالية من إعلانات أشبه بالأفلام الوثائقية متناهية الصغر، أو الاستعراضات الراقصة المفعمة بالملابس والحركات والأماكن، أو مقاطع تنمية بشرية تخبر الجمهور المتلقي أنه مهما تعثر وسقط وهوى وضاع حلمه وتبدد أمله وفقد طموحه، فإنه بالإرادة والعزيمة قادر على الوقوف وخوض المعركة مجدداً عصية على الفهم والاستيعاب.

أما المنتج، سواء كان سلعة أو خدمة، فغائب تماماً، يمكن القول إن إعلانات رمضان الأسطورية الأيقونية، من حيث طول المدة وكثافة التكرار وفداحة المال المنفق في الإنتاج وشراء دقائق البث وغياب المنتج نفسه، هي إعلانات لتحسين أو تلميع صورة الشركة صاحبة السلعة، وربما فرضها في سوق لا يعرفها، وهو أمر احتار خبراء المهنة في تفسيره أو فهم أبعاده أو تحليل أغراضه.

سر من أسرار "المعبد"

المبالغ المالية المنفقة في هذه الإعلانات تظل سراً من أسرار "المعبد" التلفزيوني، حيث سعر دقيقة البث وإن كان متاحاً من حيث المبدأ نظرياً، لكنه يبقى سرياً في التطبيق، حيث نسب التخفيض لأسباب مختلفة لا يتم الإعلان عنها تصنع كل الفرق، لكن جمهور المتلقين، والذي يفترض أن تكون فيه الفئات المستهدفة من الإعلانات من ربات بيوت ومودعين والباحثين عن سكن جديد ومستخدمي الهواتف المحمولة وشاربي المياه الغازية ومحبي الملوخية بالتقلية ومرتدي الملابس الداخلية، وغيرهم، يجد نفسه في ظل الظرف الاقتصادي الضاغط جداً الحالي مستفزاً أو غاضباً أو ناقماً أو متعجباً من هذا الإنفاق الرهيب في هذا الوقت بالتحديد.

الكلفة والعائد

تشير ورقة للباحثة في "المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية" سالي عاشور عنوانها "الإعلانات وسلوك المنتجين: الكلفة والعائد الاقتصادي" (مارس/ آذار 2023) أن قيمة صناعة الإعلان في مصر نحو خمسة مليارات جنيه مصري، وذلك وفقاً لتقديرات شعبة الإعلان في اتحاد الصناعة المصرية.

وتقول عاشور إن زخم الخريطة الدرامية في شهر رمضان يؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار الدقائق والثواني الإعلانية. وقدرت أن سعر الإعلان مدته 30 ثانية يتراوح بين 500 و750 ألف جنيه مصري.

وتشير الباحثة إلى أن الأزمة الاقتصادية والأوضاع الصعبة الحالية أسهمت في ضعف سوق الإعلان في مصر، سواء من جانب المنتجين الذين تقول إنهم لجأوا إلى خفض كلفة الدعاية والإعلان توفيراً للنفقات، لكن يبدو أن "الخفض" في الزمن الصعب أمر نسبي، والترشيد في كنف أزمة اقتصادية طاحنة أفقدت الجنيه المصري نحو 50 في المئة من قيمته بعد خفضه ثلاث مرات خلال العام الماضي 2022 له تعريفات جديدة، وربما متناقضة.

آلة حاسبة لتقسيم الكلفة

الجهات المعلنة ترى المسألة عادية أو سياسة ترويجية وتسويقية موسمية لا بد منها، أو ربما وسيلة للحصول على تخفيضات ضريبية. أما الجمهور المستهدف فلا يسعه فإن يمسك بالآلة الحاسبة ويقدر عدد المليارات المدفوعة ويقسمها على تعداد السكان، وربما بينه من يصنفهم فئات بحسب درجات القرب أو البعد أو التماس مع خط الفقر ضماناً لعدالة التوزيع، وتحقيقاً لهدف سد الفجوة بين المهدد بالفقر والفقير والفقير جداً والغارق في فقر مدقع، ويخرج بأرقام جزافية خيالية تخصص لكل مواطن مبلغ كذا من كلفة الإعلانات الرمضانية لو كان المعلنون وهبوا قيمتها لهم في زمن الأزمة الاقتصادية.

غريب في زمن صعب

في سياق متصل بالإعلان، لكن منفصل عن الأحلام الشعوبية وحلولها، يتفق عاملون في مجال الإعلان، لكن جميعهم غير ضالع في الشركات المنتجة للإعلانات المعروضة حالياً، على أن المشهد الإعلاني الرمضاني الحالي ملتبس بامتياز.

أكثر من متخصص في هذا المجال، فضلوا عدم ذكر أسمائهم أو الشركات التي يمتلكونها أو يعملون فيها، أجمعوا على أنه في زمن الأزمات الاقتصادية لا ينبغي استفزاز المواطن، الذي هو المستهلك أو الجمهور المستهدف، بالإنفاق المبالغ فيه على الإعلان، لا سيما إذا كان الإعلان يركز على صورة الشركة وليس منتجاتها.

من جهة أخرى، يلوح البعض الآخر باحتمال أن الرسالة السامية المتفقة عليها هذا العام في ظل الظروف الصعبة هي نشر البهجة وإشاعة الفرحة وبعث الغبطة ولو كان ذلك عبر الكلمة واللحن والرقصة واللفتة ولقطة البحر مع أشعة الشمس، وربما قليل من "نوستالجيا" رمضان السنوية، حيث "لمة العيلة" و"تجمع الأحفاد حول جدو ونينة" وتبادل أطباق قمر الدين والكنافة بين الجيران في زمن ما قبل فتح باب استيراد المكسرات والانتقال من العيش في الشقق العمارات المتلاحمة إلى فيلات المنتجعات مترامية الأطراف، والتي هي موضوع رئيس من موضوعات الإعلانات في رمضان هذا العام.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات