Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

على وقع نتائج الثانوية... نصائح رواد السوشيال ميديا تطارد كليات القمة المصرية

المحللون يرون أن المجتمع بحاجة إلى تغيير ثقافته التعليمية... وأصحاب المؤهلات العليا الأكثر بطالة

وزارة التربية والتعليم المصرية تسعى إلى استحداث نظام جديد لتقييم الطلاب في الثانوية العامة لتمكينهم من خوض تجربة تعليمية خالية من الجو النفسي المشحون (حسام علي. إندبندنت عربية)

في مثل هذا الوقت من كل عام يتفجَّر صوت الجميلة المعتزلة ليلى نظمي، مؤكدة أن الطريق بات ممهداً من الثانوية إلى الكلية، وذلك بعد ما قارب المجموع على كسر حاجز المئة. ولولا أنها اعتزلت قبل تضخّم المجاميع وتورّم الدرجات وتعاظم الملكات، التي جعلت من العشرات في سنوات سابقة يكسرون حاجز المئة في المئة في سابقة كونيَّة هي الأبرز، لغنت لأولئك الذين حطموا حاجز الأرقام النهائية، وحققوا معجزة الأرقام اللا نهائية.

وفي مثل هذا الوقت أيضاً من كل عام يرتفع أدرينالين الترقُّب المشوب بالحذر لمصير ما يزيد على نصف مليون مواطن ومواطنة بعد اجتياز محنة إتمام الدراسة الثانوية، إضافة إلى أعاصير الحزن والكآبة وضياع الحلم، وتبدد الأمل لأولئك الذين جانبهم النجاح.

وعقب هيمنة الأدرينالين يأتي دور إما سطوة السيروتونين، إذ الغلبة للسعادة والالتحاق بكلية من كليات القمة، وإما بطش الاكتئاب وحزن الالتحاق بما أمر به مكتب التنسيق في ضوء المجموع المتاح.

لكنْ المتاح حتى اللحظة من قياسات مجتمعيَّة وبوادر شعبية يشير إلى تغيرات كبرى في المزاج المصري وتطورات عظمى في المسار التعليمي. موجة عارمة من النصائح يوجهها كثيرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى الحاصلين على الثانوية العامة هذا العام. كلّ في مجاله. إعلاميون وصحافيون ومذيعون يكتبون تدوينات وتغريدات لسان حال أغلبها يقول: "حذاري من الاقتراب من كليات الإعلام فالمجال مغلق ومظلم"، أطباء من مختلف التخصصات ينصحون المتفوقين والمتفوقات من الحاصلين على الثانوية العامة (علمي علوم) بالتفكير بدلاً من المرة عشر قبل الالتحاق بكلية الطب، مهندسون ومهندسات يرجحون كفة الابتعاد عن كليات الهندسة بأنواعها، باستثناء البترول، لأن السوق مشبعة بالخريجين، والنصائح بتخصصاتها المختلفة تتوالى وتتواتر.

نظام جديد لتقييم الطلاب

وتتواتر تصريحات غير معتادة في المجتمع المصري من وزير التربية والتعليم والتعليم الفني الدكتور طارق شوقي منذ إعلان نتيجة الثانوية العامة، تشير إلى "أن تغييراً كبيراً يحدث في (بعبع) العصر ووحش كل بيت مصري". وبدلاً من تصريحات رسمية مزمنة ومواقف حكومية معروفة على مدار عقود تعتبر المجموع المرتفع معياراً للشطارة والالتحاق بكليات "القمة" من طب وهندسة واقتصاد وعلوم سياسية مقياساً للنبوغ، خرج الدكتور طارق شوقي ليقول "إن حصول 36% من طلاب الثانوية العامة على مجاميع تفوق الـ90% ليس مؤشراً إيجابياً، بل سلبي، وإن المجموع المرتفع ليس دليلاً على التفوق، ولا علاقة له بالمعرفة".

شوقي يتحدث عن "عنق الزجاجة"، الذي طالما تشير إليه الملايين، باعتباره صعوبة لا بد منها، لكنه يعتبره هدفاً للوزارة يستوجب القضاء عليه. يقول "حتى يومنا هذا يعاني الطلاب للخروج من عنق الزجاجة، الذي هو الثانوية العامة، ومعهم يعاني أولياء أمورهم والمجتمع بأسره. علينا في الوزارة استحداث نظام جديد لتقييم الطلاب في الثانوية العامة لتمكينهم من خوض تجربة تعليمية حقيقية خالية من الجو النفسي المشحون للطلاب وأسرهم، والرغبة العارمة في الحصول على أعلى مجموع دون النظر إلى جودة التعليم والتعلم في المدرسة".

السنتر بديل المدرسة

"التعلّم في المدرسة" عبارة لم تفهمها مجموعة الطلاب والطالبات الحاصلين على الثانوية العامة لتوّهم والمتجمعون أمام مدرستهم الثانوية قبل أيام. فالتعلم في المدرسة لم يعد موجوداً، لأن الواقع يشير إلى أن التعلم، لا سيما في الصف الثالث الثانوي صار مقتصراً على الـ"سنتر" مركز الدروس الخصوصية، أو في الدروس الفردية التي يخضع لها الطلاب والطالبات في البيوت، لذلك لا مجال للسؤال عما إذا كانت المدرسة قامت بدور في توجيه الطلاب لنوعية الدراسة الجامعية التي يحتاجها سوق العمل أو تناسب الميول والملكات والمهارات.

أحلام الطلاب وقلق الأهالي

يقول خالد، 17 عاماً، "وقت المعلمين في السنتر أو في الدرس الخصوصي لا يتسع للحديث خارج إطار محتوى المنهج. العداد يعد. والدقيقة لها ثمنها".

ثمن الدقيقة المشار إليها تنعكس تماماً في استمرار تمركز رغبات عدد كبير من الحاصلين على الثانوية العامة وذويهم للالتحاق بكليات تتراوح بين الطب البشري وطب الأسنان والصيدلة (علمي علوم). والهندسة (علمي رياضة). والإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية (الأدبي).

أم لابنة في الثانوية العامة تصرخ وتبكي، لأن المؤشرات تشير إلى أن درجة واحدة ستقف حائلاً دون التحاق الابنة بكلية الصيدلة التي تتمناها. أب يؤنّب نفسه، ويبكّت ابنه، لأن مجموعه لن يؤهله للالتحاق بكلية الطب، رغم ما أنفقه الأب على الدروس الخصوصية طيلة سنوات الدراسة.

رجاءٌ مشوبٌ بالقلق خوفاً من أن مجموع الـ95% لن يحقق لآية، 18 عاماً، حلم الالتحاق بكلية الإعلام لتصبح مذيعة. أملٌ لا يخلو من رعبٍ في أن لا يلحق حسين، 18 عاماً، بقطار الدبلوماسية المصرية إن لم يمكنه مجموعه من الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والرجاءات والتعلُّق بالمعجزات والخيالات المتأرجحة بين الأحلام وأضغاثها لا تنتهي هذه الأيام.

لكن هذه الأيام أيضاً تقف شاهداً على تفجُّر ينابيع الحكمة. وإضاءات المنطق ومنابع التفكير الواقعي بعد دهور من الانغماس في الوجاهة الاجتماعية والغرق في المكانة الخيالية.

تجارب السابقين

الإعلامي المصري محمد علي خير كتب على صفحته في "فيسبوك"، "إلى طلاب الثانوية العامة. أرجوكم لا تفكروا في الالتحاق بكلية الإعلام. لن تجدوا عملاً في الصحافة أو الفضائيات. نصيحة من أب يحبكم. والله قلتها لابنتي".

معد البرامج والصحافي محمود التميمي كتب "الذين يحاولون الانتحار لأن مجموعهم في الثانوية العامة أقول لهم إن سيدنا علي بن أبي طالب قال (قيمة المرء فيما يتقن). ارفعوا إمكاناتكم البشرية. وابحثوا فيما يمكنكم القيام به أو تتقنوه أو تتعلموه. الدرجات في امتحانات الثانوية العامة لا معنى لها سوى أنك حفظت كلمتين وسكبتهما على الورق. لكن من أنت؟ وما الذي تحب أن تعلمه؟ أسئلة ترد عليها الحياة العملية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحياة العمليَّة لطبيب أمضى 22 عاماً في التنقل من مستوصف صغيرٍ إلى عيادة نادٍ رياضي، ومنها إلى طبيب مقيم في شركة، ثم عودة إلى مستوصفٍ آخر صغيرٍ تدفع صاحبها إلى استحلاف ابنته المتفوقة في الثانوية العامة هذا العام عدم الالتحاق بكلية الطب.

يقول الدكتور "محمد ن"، "كنت ضمن الملايين التي اقتفت حلم الخمسة عين: عيادة وعمارة وعربية وعروس وعزبة. لكن العقدين الماضيين أسفرا عن عروس وعيال وتلال من المسؤوليات وقفت حائلاً دون الحصول على الماجستير والدكتوراه حتى أبدأ في حفر الطريق نحو تحقيق الخمسة عين. ولا أريد لابنتي أن تعاني ما عانيته ليس فقط في العمل، لكن في الإحباط وتحطم حلم لقب الدكتور على صخور الواقع".

صخور الواقع تكشف في هذا العام المفصلي كثيراً من التغيرات والحراك في المجتمع المصري، ولأن واقع الحال يشير إلى أن نسبة البطالة تصل أقصاها في المرحلة العمرية، التي يُفترض أن تكون الأكثر التحاقاً بسوق العمل، وهي بين 25 و29 عاماً، حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

مفاجآت البطالة

والمفاجأة أن أصحاب المؤهلات الجامعية العليا وما فوقها هم الأكثر بطالة، إذا تبلغ نسبة البطالة بينهم 22.5%، يليهم أصحاب المؤهلات فوق المتوسطة والأقل من الجامعية بنسبة 16.5%، أمَّا الفئة الأقل معاناة من البطالة فهي الأميون والحاصلون على شهادة محو الأمية، إذ تتراوح النسبة بينهم من 1.6 إلى 2.5%.

كما أن المعدلات في المحافظات الحضرية تبلغ نحو 14.2%، وتنخفض في الوجه القبلي إلى 12.6%. والمفاجأة أن محافظات الحدود وريف الوجه القبلي سجلت نسبة البطالة الأقل في مصر، وهما 7.6% و8.5%.

النسب المئوية ومعها معايشة واقع التعليم والعمل والقدرة على تحليل الواقع والتوفيق بين المأمول والموجود فعلياً أدت إلى مصارحة مجتمعيَّة ومكاشفة شعبية غير مسبوقتين.

تغيير الثقافة

وعلى الرغم من أن الحكومات المصرية المتتالية تتحدث عن ربط التعليم بمتطلبات سوق العمل واحتياجاته منذ ما لا يقل عن عقدين، فإن الثقافة والتمسُّك بتلابيب شهادات جامعية بعينها، إضافة إلى تدهور أحوال التعليم الفني ظلت تحول دون إطاحة كليات القمة من عرشها وإدخال تخصصات ونوعيات دراسة أخرى إلى قائمة الأماني ومنظومة الأحلام.

ويشير وكيل وزارة التربية والتعليم السابق وخبير سياسات التعليم في المجلس العربي للطفولة والتنمية في القاهرة الدكتور عبد الله عمارة إلى واقع مهم، وهو انصراف الكثيرين من أهل الريف إلى تطبيق الواقع بعيداً عن الأحلام الزائفة منذ سنوات دون صخب أو جلبة.

يقول، "نماذج لا أول لها أو آخر في القرى المصرية تشير إلى تفكير سابق لعصره وأوانه. فرغم إحراز الكثيرين من الطلاب والطالبات درجات في الثانوية العامة تؤهلهم للالتحاق بكليات القمة الكلاسيكية من طب وهندسة وإعلام وعلوم سياسية، فإن ملامح التفكير الواقعي تبدو واضحة، إذ يفضلون كليات ومعاهد التمريض وكليات الزراعة والطب البيطري وغيرها".

ويضيف، "هذه التخصصات تعني أن الأهل قادرون على الربط بين احتياجات سوق العمل والتعليم، وهو ما يتحقق بالفعل. العكس نراه في المدن الكبرى، حيث استمرار التعلُّق بحبال كليات القمة حتى لو لم يكن هناك طائل حقيقي من الالتحاق بها".

ورغم التغيير الحادث على الأرض من نصائح يوجهها من اكتشفوا أوهام كليات القمة والتعلق بمجالات دراسة كانت تتمتع بسمعات اجتماعية ومالية جيدة، لكنها لم تعد كذلك. فإن عمارة يرى أن "الطريق نحو الوعي المجتمعي ما زال طويلاً، وتبدو الوصفة العلاجية سهلة، لكن التطبيق يحتاج إلى نفس طويل، واستمرارية في العمل لتحقيق الاستدامة".

ويتابع، "أصعب شيء يمكن تغييره هو الثقافة. وتغيير ثقافة المصريين فيما يختص بالكليات والتخصصات أمرٌ بالغ الصعوبة. نحتاج إلى حملات إعلامية ذكية. وخطوات حكومية تضمن الارتقاء بمستوى المدارس والمعاهد الفنية، وأعمال درامية تساعد في محو وصمة مجالات عمل مثل التمريض والسباكة والنجارة".

أما ما يحدث هذه الأيام من تغيير الدفة المجتمعية صوب تعليم جامعي أكثر واقعية أو تعليم فني ذي جودة، فهو ينبع من عقود طويلة أهدرت في اقتفاء أثر المكانة الاجتماعية المرتبطة بـ"الدكتور" و"المهندس" و"الدبلوماسي". وإلحاق الأذى والضرر بمهن محوريَّة، وجعلها مقتصرة على من فشل في التعليم أو فاته قطار الوجاهة. رغم أن هذه المهن تحقق ربحاً أكبر، ولا تعاني البطالة الرابضة على أنفاس خريجي القمة.

يقول عمارة "كفانا إهداراً للطاقة والوقت والجهد بحثاً عن مكانة اجتماعية زائفة. وحان وقت التغيير نحو الأوقع والأضمن في سوق العمل".

ويأمل البعض أنه في مثل هذا الوقت من العام المقبل، وبينما صوت ليلى نظمي يستمر في التغنّي بطابور الناجحين المنقولين من الثانوية إلى الكلية والمجموع قارب المئة في المئة. ربما تظهر أغنية جديدة تتغنى بمآثر كليات التمريض والزراعة وتحيي الحاصلين والحاصلات على مجموع 70 و80% لكن يحملون ملكات فنيّة وقدرات تتحدى الوصمات المجتمعية.

المزيد من تحقيقات ومطولات