ملخص
مع كل دراسة جديدة تصدر عن الكاتب الفرنسي #لوي_ فردينان_سيلين، أشياء جديدة تنكشف ما يبدل، وإن جزئياً، صورة الرجل المحيّر، ولا سيما من ناحية اختياراته السياسية هو الذي وقف مع #النازيين
على رغم أن الكتب والدراسات التي صدرت طوال الخمسين عاماً الماضية عن الكاتب الفرنسي لوي – فردينان سيلين، أكثر من أن تعد وتحصى، يبدو أن الفرنسيين لا يسأمون ولن يسأموا أبداً الكتابة عنه من جديد، محاولين في كل مرة أن يجدوا ما يقال. والحقيقة أنهم ليسوا مخطئين في هذا، لأن ثمة دائماً، ومع كل دراسة جديدة تصدر عن صاحب "رحلة إلى آخر الليل"، أشياء جديدة تنكشف ما يبدل، وإن جزئياً، صورة الرجل المحيّر في كل الأحوال، ولا سيما من ناحية اختياراته السياسية هو الذي وقف، بكل جوارحه وقلمه مع النازيين حين احتلوا فرنسا، ولم ينقذه بعد رحيلهم، من المحاكمة بتهمة التعاون مع المحتل، والإعدام بالتالي، سوى الجنون! الجديد الذي نتحدث عنه هنا، في المكتبة الفرنسية حول سيلين كتاب أصدره الباحث فردريك فيتو بعنوان "سيلين الرجل الغاضب" ويحاول فيه أن يلقي أضواء جديدة على الكاتب وعمله. فهل نجح في ذلك؟ إلى حد ما، ولكن ليس في مجال كشف الجديد، وإنما في مجال إعادة تفسير ما هو قديم، حيث، من خلال أقوال لسيلين نفسه، يقدم له صورة قد تبدو مفاجئة إلى حد ما. الفكرة جيدة... بل تبدو بديهية إلى درجة يتساءل معها القارئ: كيف لم يفكر فيها أحد من قبل. فما هي صورة سيلين التي يمكن هنا استنباطها من أقواله؟
على ذمة سيلين
بالتأكيد صورة الكاتب الذي، من دون أن يستغفر سجانيه (الفرنسيين بشكل عام)، ومن دون أن يحاول لخيانته تبريراً، يشرح مواقفه وما غمض من أفكاره طوال عقود. فهو، مثلاً، يقول عن الإنجليز، الذي كان أصلاً وقف مع النازيين نكاية بهم: "إنني أحب الإنجليز وإنجلترا حباً كبيراً. أحبهم بسبب أسلوب عيشهم وشاعرية فصل الصيف لديهم. ولكن من الناحية السياسية أعترف أنني أشعر نحوهم بنفس المشاعر التي كانت تشعر بها إزاءهم جان جارك". وفي مجالات أخرى يقول سيلين: "تباً لي... لقد كان علي أن أموت من قبل. كان علي أن أكف عن ترك نفسي موضع اتهام وتجريم. إن الكون كله يتشكل من جديد وبشكل كلي بالنسبة إلى كل جيل من الأجيال – الماضي لا يعني شيئاً بالنسبة إلى الشباب، سوى أنه يغيظهم (...). إن الشبان لا يفعلون غير ما كان يفعله الناس جميعاً في الماضي. والحال أن كل ما لا يفعل هذا، إنما يترك وراءه العالم والبشر والأشياء، تبدو للشباب منظراً قبيحاً فاسداً". ويضيف: "إنني أنا، على الأرجح، واحد من قلة من الناس، ينبغي أن تحصل حقاً على حريتها. أما الباقون فإنهم جميعاً – تقريباً – يجب أن يودعوا في السجون، بسبب خنوعهم المرضي، وحيوانيتهم الكريهة، ونهمهم الملعون". "إن فرنسا لم تعد على المستوى الذي كانت عليه، في رواية "البؤساء" لفكتور هوغو... فرنسا اليوم تبدو تعيسة. والفرنسيون لا يلوح عليهم أي قسط من السعادة. ترى هل أنا من يمنع الفرنسيين من الوصول إلى السعادة؟ لست أعتقد هذا...".
الأميركيون يصلون قريباً
وعن الحرب يقول سيلين: "لقد اندلعت الحرب من دون أن يكون لي دخل في ذلك. وها هو كل شيء من حولنا يتمزق. وإنني أكبر سناً من أن أتحمل مثل هذا التمزق. أنا شخصياً لم أكن لأرغب في أن تندلع الحرب... وهي طبعاً لم تندلع بسبب حماقاتي البطولية. مهما يكن لقد كنت أعتقد أن في إمكاني، عبر كتبي أن أتفادى اندلاع الحرب. وهي إذ قامت، ها آنذا اعتبر خائناً. وحشاً... أنا الذي تستعد الجموع لسحله. لقد باتت المؤن نادرة، والجوع يتركز عندنا ولكن، مهلاً، قريباً يصل الأميركيون ويصبح لدينا كل شيء. كل الذي سوف نحتاجه أو لا نحتاجه. وعند ذلك ربما سيكون من الضروري قتل كل الذين هم على شاكلتي كي تحصل الجموع على كل ما تريد. يبدو، إذاً، إنني أنا الذي أحول بينهم وبين الحصول على الرضا والسعادة. تبا لي!...".
بعد انتهاء الحرب
من الواضح أن سيلين يوضح هنا ولكن بعد سنوات من لحظته النازية المرتبطة بعدائه للسامية وبعد أن انتهت الحرب واعتقل هو كمناصر للأعداء النازيين الذين احتلوا فرنسا وأهانوا شعبها، وهدفه المضمر أن يلغي تلك الإزدواجية بين كونه واحدا من أكبر الروائيين الفرنسيين في القرن العشرين، وكونه نازياً خائناً، وهي ازدواجية طبعت دائماً عموم المواقف من سيلين غير قادرة على حسم الأمر فكانت النتيجة رمي الرجل في مزبلة التاريخ وتحريم أي تعامل معه، من جهة، وتبجيل رواياته الكبرى من جهة أخرى. وذلك على الأقل حتى تنطح الكاتب فردريك فيتو بعد عمل استغرق أكثر من عشرين عاماً ليحاول كسر الحاجز وإلغاء تلك الإزدواجية في كتابه المشار إليه أعلاه. والحقيقة أن موضوع الكتاب لم يكن جديداً لكنه كان جريئاً في محاولته محو اللعنة التي أحاطت دائماً بذكر الرجل سيلين مع الإقبال المتجدد دائماً على قراءته من دون وجل بل أحياناً، اعتبار أن ثمة انفصاماً لديه نتجت منه تلك الروايات التي كان من المستحيل على كاتب في حالته الطبيعية أن يكتبها وهو في "كامل عقله". أما الجديد الذي طلع به فيتو فكمن في إيجاد مبرر يمكن لكثر من الفرنسيين قبوله: ما يشبه المشحب يعلَّق عليه ما يتعلق بدوافع سيلين للغرق في النازية: مشجب هو الإنجليز الذين حاربتهم "البطلة" القومية الفرنسية جان دارك" التي تكاد تعتبر قديسة!
توفيقية لا تجدي
والحقيقة أن ذلك الحل التوفيقي الذي "ابتكره" فيتو من دون أن يوافقه عليه كثر، شكل على أية حال نوعاً من مهرب وجده كثر ملائماً كما أنه حقق لفيتو حلماً قديماً تلوح إرهاصاته في كتاب قديم له عنوانه "موعد البحارة" نشره للمرة الأولى عام 2016 كنوع من تمهيد مبطن للكتاب المبرر عودة سيلين إلى "الساحة" في نوع من إعادة الاعتبار. و"موعد البحارة" كتاب ذكريات يتناول مرحلة بداية شباب فيتو حين كان فتى يقصد ذلك المقهى والمطعم الذي يحمل الاسم نفسه في جزيرة سان – لويس وسط نهر السين في قلب العاصمة الفرنسية واعتاد أن يجتمع فيه بحارة المراكب الراسية على ضفاف السين وخادمات البيوت والفنانون والأدباء القاطنون في المنطقة التي كان فيتو نفسه يقطن فيها، ناهيك بأن كثراً من الكتاب الأجانب من أمثال إرنست همغواي وجون دوس باسوس كانوا يتناولون فيه وجباتهم بصورة شبه يومية. وهناك في ذلك المطعم الذي يروي الكتاب بكثير من الحنين حكاية تاريخه كما سيرة الأشخاص الثلاثة الذين تعاقبوا على ملكيته، التقى فيتو للمرة الأولى بسيلين الذي كان غالباً ما يأتي في صحبة فرانسوا مورياك – الذي كان نقيضه في كل شيء بدءاً من شغف مورياك بالإنجليز وبشارل ديغول وكراهيته للنازيين – ولكن اللقاءات فتنت فيتو الذي كان أصغر سناً من أن يجرؤ على الدنو منهما. لكنه كان مندمجاً في مشاهدتهما والإصغاء إلى ما يخوضان فيه من أحاديث، كما يحلم بأن يتمكن يوماً من أن ينصف سيلين إنما من دون أن يجرؤ على مفاتحة أحد في الأمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عدو عدوي
فالزمن كان بداية الستينيات حين حتى موريك ومجالسته سيلين لم تشفع لـ"التسامح" مع هذا الأخير الذي اعتبر في أحسن حالاته مجنوناً يجب تجنبه إن لم يكن نازياً حقيقياً يجب سحله. والحقيقة أن تلك هي خلفية الكتاب الذي سيصدره فيتو حين بدا لاحقاً أن سيلين وبعد نصف قرن من موته لم تعد ذكراه ككاتب ملعونة إلى ذلك الحد القديم وصار في الإمكان عزو مواقفه كلها إلى عدائه للإنجليز الذين يستحقون ليس فقط ذلك، بل حتى ما أراد النازيون أن يفعلوه بهم على قاعدة "عدو عدوي". وطبعاً لم يقف إلى جانب فيتو وكتابه الجديد أحد من كبار الكتاب والمؤرخين الذين جعلوا مهمتهم الرئيسية الحفاظ على سمعة سيلين ممرغة في وحول الفضيحة والخيانة، لكنه في المقابل فتح الأبواب واسعة أمام من كانوا يبحثون عن طريقة ولو تبريرية كأداء لتخفيف حكم التاريخ عن صاحب "رحلة إلى آخر الليل". بالتالي إن لم يكن كتاب "الرجل الغاضب" قد أحدث خرقاً فإنه على الأقل عزز المواقف القديمة معيداً لوي فردينان سيلين إلى واجهة السجالات الفرنسية – الفرنسية ولو لفترة!