Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في خلفيات الصراع اللفظي الحاد بين سارتر ولوي فردينان سيلين

من التعاطف مع المحرومين إلى مناصرة النازيين وتبرير جرائمهم

جان بول سارتر (غيتي)

ثلاثة على الأقل من كبار الكتاب غير الألمان خلال النصف الأول من القرن العشرين ناصروا هتلر والفاشية والنازية من دون قيد أو شرط، ودفعوا غالياً ثمن ذلك حين هُزم الفوهرر واستتبت الأمور للحلفاء وبدأت شتى ضروب العقاب تطاول من وقفوا إلى جانبه. ولعل الطريف في الأمر أن الثلاثة وُسموا بالجنون الذي تمكن في نهاية الأمر من دفع محاكميهم إلى الرأفة بهم. أنقذ الجنون يومها شعبية كنوت هامسن النرويجي وإزرا باوند الأميركي المتأورب، ثم بخاصة لوي فردينان سيلين الفرنسي الذي كان لسنوات طويلة أكثرهم مناصرة للنازية ودفاعاً عنها، في حياته كما في كتاباته، وبخاصة في مواقفه المعادية للسامية بشكل تجاوز فيه حتى مواقف هتلر.

رواية بروليتارية؟

ومع ذلك ثمة تساؤلات بالغة الجدية تنطرح دائماً من حول نازية سيلين، كيف بدأت وكيف تفاقمت؟ ولعل ما يدفع إلى مثل تلك التساؤلات كون الرواية الأشهر لسيلين "سفر إلى آخر الليل"، وهي بالتأكيد عمله الكبير الأول والأكثر شهرة حتى اليوم، لا تحمل لا في لغتها ولا في موضوعها، كما ليس في مواقف شخصياتها، ما ينم حقاً عن أن سيلين كان حين كتبها قد اتخذ موقفاً إيجابياً من ذلك الفكر الذي كان قد عمّ أوروبا في ذلك الحين، بل ربما كان قد عمها كرد فعل على انتشار البولشفية منطلقة من انتصار ثورة لينين في أقصى الشرق الأوروبي، في عداء تام لتلك الثورة.

فالواقع أن الدكتور لوي ديتوش، وهم الاسم الذي كان يحمله سيلين قبل إنجازه تلك الرواية الكبرى "سفر إلى آخر الليل"، بدأ كتابة هذه الرواية في العام 1929 لينشرها للمرة الأولى عام 1932 لدى منشورات دينويل الباريسية التي قبلتها على الفور وقد وقعها الكاتب، وكانت مهنته طبيباً في أحد مستوصفات منطقة كليشي المعروفة بسكانها البروليتاريين وعمالها الشيوعيين في ذلك الحين، باسم لوي فردينان سيلين تيمناً باسم جدته.

هل خدع الشيوعيين؟

في الحقيقة أن كثراً من القراء، لا سيما الشيوعيون منهم، رحبوا بالرواية معتبرينها رواية بروليتارية، وهي كذلك بالفعل على أية حال على الرغم من تجريبيتها وتحفظها على أساليب الأدب الماركسية، بل إن الكاتب الشيوعي بول نيزان صديق سارتر وصاحب الكتاب الواسع الشهرة "عدن الجزيرة العربية"، أبدى قدراً كبيراً من الغضب في مقالة نشرها معلقاً على فشل لجنة جائزة الـ "غونكور" في منح سيلين جائزتها، ليفوز هذا الأخير بعد ذلك بجائزة كبيرة أخرى هي جائزة رينودو.

والحقيقة أن هذه الجائزة والسجال الحاد الذي أثاره نيزان والمواقف الإيجابية من الرواية التي عبرت عنها صحيفة "الأومانيتيه" الشيوعية واسعة النفوذ وبقية صحف الحزب الشيوعي، جعلت كثراً يعتبرون سيلين قريباً من الفكر الشيوعي، ولو على طريقته الخاصة، فما الذي حوله بعد سنوات قليلة جداً من كاتب ينال رضا هؤلاء إلى كاتب يثير سخطهم، من دون أن يكونوا ظالمين له في ذلك؟

بالنظر إلى أن سيلين لم يثر فقط سخط الشيوعيين، بل كثراً من الديمقراطيين أيضاً، فهو الذي لم يكتف في العام 1936 بأن يكتب بعد زيارة قام بها إلى الاتحاد السوفياتي في ذلك العام مقالات تشجب ما رآه في ذلك البلد الذي كان يثير سخطاً من ناحية ورضاً من ناحية أخرى لدى كثر من المثقفين الأوروبيين وغير الأوروبيين، بسبب دكتاتورية ستالين ومحاكماته التي كانت آخذة بالتوسع تدريجياً، بل تجاوز ذلك ليكتب ضد الأميركيين غير واجد ضالته إلا لدى النازيين صراحة ومن دون أي التباس.

خيبات أميركية وأخرى سوفياتية

ومن هنا اندلعت ضده، في الحياة الثقافية الفرنسية بخاصة، حملات أتت من العنف على قدر ما كانت الآمال معقودة عليه، وكانت أكثر حدة بكثير من تلك التي طاولت زملاء له آخرين كأندريه غيد وباناييت إستراتي وغيرهما، فهؤلاء هاجموا الممارسات الشيوعية والستالينية باعتبارها أتت مضادة للوعد الشيوعي البولشفي.

أما سيلين فهاجم الشيوعية معلناً "إنسانية النازية" بالمقارنة معها، ولعل في وسعنا أن نذكر هنا أن سيلين كان خلال النصف الأول من سنوات الـ 30 يعيش جملة أزمات عاطفية وخيبات أمل سياسية سيربطها المؤرخون بها، فقد تخلت عنه صاحبته الأميركية إليزابيت غريغ عائدة لبلادها عام 1933، لكنها حين لحق بها وهو يأمل بأن تساعده في تحويل روايته إلى فيلم سينمائي في هوليوود، تخلت عنه تماماً فشعر بمهانة مزدوجة جعلته يرى سواد الكون كله في الرأسمالية الأميركية، وبالتالي حين قصد الاتحاد السوفياتي بعد حين وقد بقي لديه طيف أمل في أن يجد الأوضاع أفضل هناك، تضاعفت خيبة أمله واتجه بعواطفه وآماله ناحية النازية التي وجد فيها خلاصاً للبروليتاريا التي كان قد كرس "سفر إلى آخر الليل" لوصف حياتها، وبؤس تلك الحياة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين "ميا كولبا" و"مدرسة الجثث"

المهم في الأمر إذاً أن سيلين، وكما حال رفيقيه الكبيرين في ذلك الخيار النازي المشؤوم، اندفع صوب هتلر انطلاقاً من عوامل بالغة الذاتية، تمكن من أن يلبسها مسوح الموقف السياسي بل الإنساني أيضاً، ومن هنا كان خلال المرحلة التالية هدفاً سهلاً للذين راحوا يحاربونه، حتى وإن كان قلة منهم قد شملوا بالهجوم أعماله الكبيرة، مثل "سفر في آخر الليل" أو "الموت بالتقسيط" وقبلهما الكتاب الذي مهد لهما باكراً "حياة وأعمال سيميلفايس"، والذي هو نوع من سيرة لأستاذ له كتبها ونشرها عام 1924، فبدت لاحقاً وكأنها سيرة مبكرة له.

وهنا لا بد من أن نصل إلى حكاية السجال اللفظي الذي سيدور بينه وبين جان بول سارتر بعد ذلك كله بسنوات عدة، بل في مرحلة تالية للحرب العالمية الثانية، إذ أدت هزيمة هتلر إلى تحول سيلين إلى كاتب ملعون ومطارد يحاول كتاب كبار أن يفصلوا بين عبقرية أدبه و"تفاهة شخصيته" وأفكاره السياسية التي كان قد بدأ يعبر عنها في منشورات وكتب سيقول كثر من النقاد أنها تثير الغثيان، مثل "مدرسة الجثث" و "فتات من أجل مجزرة" و"الأغطية الحلوة"، وكلها تبدو دعايات للهتلرية وتبريراً لدمويتها، في مقابل كتابه السابق عليها "ميا كولبا" الذي لخص فيه مشاهداته في بلاد السوفيات فبدا ممهداً لها.

بين سارتر وسيلين

لقد انتظر سارتر على أية حال العام 1945، وصدور أولى أعداد مجلته "الأزمنة الحديثة"، قبل أن يدلي أخيراً بدلوه في مهاجمة سيلين الذي كان نشر قبل ذلك كتابات تقرظ أدب الرجل، لا سيما روايتاه الكبيرتان "سفر إلى آخر الليل" و"الموت بالتقسيط"، لكنه هذه المرة وفي معرض رسمه نوعاً من التحليل للقلبة التي أحدثها سيلين في مواقفه متجهاً نحو النازية كتب، "إذا كان سيلين قد تمكن من مناصرة طروحات النازيين الاشتراكية، فما هذا إلا لأنه كان قد قبض ثمن ذلك". يومها لم يقرأ سيلين تلك المقالة، إذ كان هارباً من بلاده لاجئاً إلى الدنمارك، لكن المقالة ما لبثت أن وصلته في العام 1947 فجنّ جنونه، وهو الذي كان جنونه يتصاعد عاماً بعد عام على أية حال، فكتب نصاً يعتبر حتى اليوم من أقذع ما كتبه أديب باللغة الفرنسية، بادئاً إياه بوضع "المدعوّ جان باتيست سارتر" وليس جان بول سارتر طبعاً، في مؤخرته "حيث يليق به أن يكون"، مضيفاً أن "سارتر هذا توقع سلفاً في كتاباته تلك الوحدة التي سيعيشها" في المكان الذي وضعه فيه.

وتحدث سيلين أيضاً عن سارتر الذي كان يعيش ذروة مجده الأدبي حينها، بوصفه "شخصاً يخشى كل ضروب الوحدة، وحدة العبقري ووحدة المجرم"، وهما على أية حال الوحدتان اللتان كان سارتر نفسه قد قال إن سيلين يعيشهما في مقالته المذكورة، أما سيلين فلم يتورع في مقالته تلك عن التحدث عن "عيني سارتر بوصفهما عيني جنين، وعن كتفيه بوصفهما كتفي رجل مسكين إلى أقصى حدود المسكنة".

ويبدو أن سارتر لم يجد يومها ضرورة للرد على كاتب أتت مقالته في نظر مؤرخي المرحلة، رداً ذاتياً يبرر كل ما كان صاحب "الوجود والعدم" قد كتبه في حقه.

المزيد من ثقافة