Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تجارة المخدرات في ليبيا... يفرضها الألم ويغذيها الانقسام

مصادرة 380 كيلوغرام "حشيش" و269 كوكايين ومليون قرص "ترامـادول" والداخلية: "90 في المئة من الجرائم بسببها"

تتصدر رفوف أوكار المخدرات صنادق تحمل كميات كبيرة من المخدرات على غرار حبوب "الترامادول" (الموقع الرسمي لمديرية أمن سبها)

صهاريج حمراء وأخرى زرقاء موصولة بقنوات بلاستيكية تأخذ طريقها متشباكة للنهل من حوض إسمنتي كبير يضم آلاف اللترات من #الخمور_المحلية التي تعرف بـ"#البوخة"، وهي خمر يصنع محلياً في ليبيا بأدوات بسيطة تم اللجوء إليها مع حظر دخول الخمور المستوردة.

تتصدر رفوف أوكار المخدرات صنادق تحمل بين طياتها كميات كبيرة من المخدرات على غرار حبوب "الترامادول" وأكياس بلاستيكية يختفي تحتها "الحشيش" وأصناف أخرى من حبوب الهلوسة، إضافة إلى أسلحة حربية عثرت عليها القوات الأمنية في المنطقة الشرقية خلال شنها لعملية أمنية راح ضحيتها عنصر من البحث الجنائي وأصيب اثنان آخران بجروح في اشتباك مع تجار ومروجي الخمور والمخدرات الذين اتخذوا من الأحياء السكنية الفقيرة في بنغازي وطبرق (شرق ليبيا) مقراً لمصانعهم، وفق الموقع الرسمي للإدارة العامة للبحث الجنائي في الشرق الليبي. 

الحيل التي يستخدمها التجار لتضليل العناصر الأمنية وإبعاد أعينها من نشاطهم عديدة، لكنها لا ترتقي لعملية التحايل التي كشفت عنها مديرية أمن سبها (جنوب البلد) فجر الثلاثاء الماضي في محل مواد غذائية يبيع خمر "البوخة"، الذي سبق أن تسبب في وفيات عدة في ليبيا نتيجة التسمم، على أنه مياه معدنية.

العملية متواصلة 

العملية الأمنية ضد تجار ومصانع الخمور والمخدرات انطلقت فجر السبت الماضي نحو منطقة أبو هديمة، بالتعاون بين وزارة الداخلية في الشرق (حكومة فتحي باشاغا)، والقوات المسلحة الليبية التي يقودها المشير خليفة حفتر، لتشمل يومي الأحد والإثنين منطقة الوحيشي والماجوري في بنغازي ومدينة طبرق، وفق ما أكده وكيل وزير داخلية باشاغا فرج إقعيم في مؤتمر صحافي عقد مساء الإثنين في مقر الوزارة، مشدداً على أن "الحملة ما زالت مستمرة وستشمل جميع مناطق الشرق والجنوب الليبي الواقعة تحت سيطرة حفتر".

وحول إمكانية حدوث ردود فعل سلبية من المدمنين بخاصة أن بنغازي تفتقد مراكز علاج الإدمان، قال وكيل وزارة الداخلية إن "القوات المشتركة بين وزارة الداخلية والقوات المسلحة تواصلت مع وزارة الصحة، وتم الاتفاق على إعادة تشغيل مركز إرادة الحكومي لعلاج الإدمان في بنغازي، لأن وزارة الداخلية اكتشفت أن 90 في المئة من الجرائم المسجلة لديها سببها المخدرات"، موضحاً أن "الدولة الليبية لن تتخذ أية إجراءات قانونية ضد المدمنين باعتبارهم مجرد ضحايا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأشار إلى أن" الأعمال متواصلة لإزالة جميع مخلفات هدم أوكار ومحلات بيع المخدرات والخمور التي ستتحول إلى مناطق خضراء وحدائق عمومية".

الإدارة العامة للبحث الجنائي في الشرق الليبي أكدت، مساء الإثنين، في موجز صحافي، أنها تمكنت من مصادرة ما يقدر بـ380 كيلوغراماً من مخدر "الحشيش"، وأكثر من مليون قرص من حبوب "ترامـادول"، وسجائر هربت داخل الدولة الليبية، وأسلحة متنوعة وذخائر.

وحول الكميات المضبوطة داخل مناطق بنغازي، قال رئيس المكتب الإعلامي بوزارة داخلية باشاغا الرائد محمد أبولموشة إنه "يتعذر الإفصاح عن الأرقام في الوقت الحالي باعتبار أن العملية الأمنية لم تحقق أهدافها بعد، ومداهمة أوكار المخدرات ما زالت متواصلة في مدينة بنغازي".

وأعلنت مصالح الجمارك الليبية، الأحد الماضي، عن مصادرة 269 كيلوغراماً من مادة الكوكايين بميناء الخمس البحري، ووصفتها بأنها "أكبر ضبطية في تاريخ الجمارك الليبية، وتكاد تكون أيضاً الأضخم حتى على مستوى أفريقيا، وكانت قد وصلت داخل حاوية محملة بالدجاج المجمد قادمة من البرازيل مروراً بإسبانيا وإيطاليا".

المراحل والأسباب 

يشير أيمن موسى، وهو أحد سكان مدينة بنغازي، إلى أن "هذه الكميات من المخدرات بمختلف أنواعها، وبخاصة الكوكايين والترامادول، لم تكن موجودة في ليبيا قبل الثورة بهذه الكيفية"، متابعاً "ليبيا في عهد القذافي كانت تنتشر فيها المخدرات، لكنها اقتصرت فقط على الحشيش الذي كان يباع خلسة وبكميات قليلة جداً باعتبار أن الحدود البحرية والبرية كانت مؤمنة".

وأوضح أن "هذه التجارة مرت بمراحل عدة حتى باتت ظاهرة عادية في بنغازي، ففي السابق كانت توزع من طريق ما يسمى بـ(تاكسي أبو هديمة)، نسبة إلى اسم المنطقة التي تأتي منها، ثم أصبحت تباع في المرابيع (قاعات جلوس مخصصة للرجال فقط وأبوابها مستقلة وتفتح خارج المنزل)، إلى أن وصلت لأكشاك السجائر، ثم تطورت إلى محلات حالها حال محلات المواد الغذائية والخضر والغلال، وتباع فيها البوخة والمخدرات بصفة علنية، وروداها من النساء والشيب والشباب والمراهقين".

 

ويتابع موسى لـ"اندبندنت عربية" قائلاً إن "المخدرات أسهمت في تفشي جرائم جديدة على المجتمع الليبي مثل زنا المحارم، وآخرها الجريمة التي نقلت مباشرة من قسم البحث الجنائي في بنغازي لأب اعتدى جنسياً على ابنته، إضافة إلى جرائم القتل العائلي، وأبرز دليل على ذلك هو تأكيد وكيل وزارة الداخلية أن نسبة 90 في المئة من الجرائم سببها المخدرات".

مقرر اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات محمود الكاديكي، أكد لـ"اندبندنت عربية" أن "هناك عديداً من العوامل التي أسهمت بشكل أو بآخر في استفحال ظاهرة المخدرات في المجتمع الليبي، في مقدمتها الحرب الأهلية وما خلفته من ندوب نفسية".

وتابع الكاديكي أن "خروج عدد من المساجين الناقمين على الدولة، الذين كانوا يمتهنون تجارة المخدرات، جعلهم يلجأون إلى استقطاب فئات الشباب بخاصة المراهقين الذين فقدوا أهلهم في أحداث ثورة فبراير (شباط) أو هجروا من مناطقهم، باعتبارهم في نظر التجار فريسة يسهل الإيقاع بها سواء للاستهلاك أو كعمال تقطيع (تقسيم المخدرات إلى قطع صغيرة) أو توزيع".

وأوضح الكاديكي أن "المشكلات الأسرية وضعف الحال المالية تدفع بأولياء الأمور إلى الإدمان هرباً من الواقع المعيشي الصعب، مما ينتج عنه بصفة عادية أبناء مدمنين، بخاصة أمام رخص أسعار المخدرات في البلد باعتبار أنها تجد الطريق إليه معبداً، ويسهل اختراق حدوده بخاصة البرية منها".

حملات توعوية

الكاديكي أشار إلى أنه "اتضح من خلال عمله أن المخدرات تنتشر أكثر في الوسط المدرسي والجامعي، لهذا تعمل اللجنة على تكثيف حملاتها التوعوية داخل المدارس والجامعات للتعريف بمدى تأثير هذه الآفة على الصحة، وأهم الإجراءات القانونية التي تتخذها الدولة ضد المتعاطين والمروجين". 

ونوه بأن الحملات التثقيفية شملت كذلك شوارع بنغازي باعتبار أن التنظيمات الإرهابية استخدمت المخدرات كسلاح لضم الشباب الليبي إليها لاستغلالهم في ما بعد في الأعمال الانتحارية، بخاصة أن حبوب "ترامادول" المنتشرة بكثرة في البلد تجعل المتعاطي يفقد إحساسه بالألم فيقدم بسهولة على القتل والتفجير".

وأشار إلى أن "الانقسام السياسي أثر في عمل اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات في ليبيا، حيث توقفت عن العمل بداية عام 2022 بسبب وجود حكومتين على الأرض، قبل أن تستأنف نشاطها الأسبوع الماضي"، مطالباً السلطات المعنية بضرورة تكثيف مراكز علاج الإدمان في ليبيا. 

وأوضح الكاديكي أن "تأكيد وزارة الداخلية على أن 90 في المئة من الجرائم في ليبيا سببها المخدرات يوضح أن عدد المدمنين كبير جداً ولا يكفيه مركزان موزعان بين الغرب والجنوب، باعتبار أن المركز في الشرق الليبي كان متوقفاً منذ 2018 ويستعد للعودة إلى العمل من جديد نهاية الشهر الحالي، وفق وزارة الصحة التابعة لحكومة باشاغا"، داعياً الدولة الليبية إلى التكفل بعلاج المدمنين وعدم ملاحقتهم قانونياً.

الكاتب الليبي أحمد التهامي عارض الطرح الذي تطرق إليه الكاديكي، مؤكداً أن "من يربط وجود هذه الآفة بالحرب الأهلية في ليبيا فهو مخطئ، لأن هذه الظاهرة موجودة منذ القدم، والدليل الكتب التي تطرقت إليها وأشهرها كتاب الرحالة البريطاني جورج فرنسيس ليون، الذي زار ليبيا سنة 1818 وعنوانه (من طرابلس إلى فزان)، والذي يؤكد أن ظاهرة شرب الممنوعات في ليبيا كانت تظهر علانية مع انتشار الخمارات وحوانيت تقطير الخمور التي لا تقتصر على اليهود والنصارى فقط، بل شملت حتى المسلمين العرب والبربر".

 

ويتابع التهامي لـ"اندبندنت عربية" أنه سبق أن كتب سيناريوهات مسلسلات وأفلام قصيرة حول هذه الظاهرة، أبرزها فيلم "أبو ذراع" عام 2008، وهو شخصية حقيقية موجودة في الواقع الليبي، مضيفاً أن المجتمع الليبي ما زال يخلط بين المدمن والبائع ويضعهما في السلة نفسها، ففي الغالب لا يكون البائع مدمناً، لأن من شروط امتهان بيع هذه المواد أن لا تكون مستهلكاً لها، أما الربح الأكبر من هذه التجارة فيكمن في تقسيم المخدرات إلى قطع صغيرة وبيعها، الأمر الذي يتطلب أيادي عاملة، وهو ما جعل التجار الكبار يستغلون المراهقين من الفئة الفقيرة للترويج لهذه التجارة".

وطالب الدولة الليبية بتوفير حلول وضمانات اجتماعية وفرص عمل للفئة المهمشة في ليبيا من طريق سلسلة من الدورات التكوينية في الحرف، وتكثيف دور الثقافة ونوادي الرياضة والمسرح والموسيقى حتى يجد المراهق مناخاً ملائماً يحتضن طاقاته عوض الانزلاق نحو عالم المخدرات.

وحول إمكانية إشراف الدولة على قطاع بيع الخمور، شدد المتحدث على أن "هذا القرار لو طبق سيصطدم باتجاهات محافظة غالبة على الخطاب العام وليس على سلوك المجتمع"، وتساءل "من يستهلك كل هذه الكميات المضبوطة من الخمور والمخدرات إذا كان المجتمع الليبي مجتمعاً محافظاً؟ فلولا وجود إقبال من المستهلك لما وجدت هذه التجارة موطئ قدم لها في البلد".

ونوه التهامي بأنه "لو كان هذا المجال تحت رقابة الدولة لأمكن على الأقل توفير الظروف الملائمة للإنتاج، لأن شن العمليات الأمنية لن يوقف الظاهرة، بل ستتواصل بطريقة سرية".

توطين الأجانب 

يشدد المتخصص في الشؤون الأمنية والسياسية محمود إسماعيل على أن "هناك حرباً تشن على ليبيا وشبابها عبر آفة المخدرات التي استفحلت في البلد ووجدت لها عوامل مناسبة للازدهار، على رأسها الانقسام السياسي والتصدعات الأمنية بين الشرق والغرب، التي أفرزت بدورها نوعاً من القطيعة بين الأجهزة الأمنية، مما أثر في تبادل المعلومات والتنسيق الأمني للقضاء على هذه الظاهرة". 

وأوضح إسماعيل لـ"اندبندنت عربية" أن المجتمع الدولي يسعى إلى ضرب التركيبة الديموغرافية الليبية بعد فشل كل من فرنسا وإيطاليا أواخر عام 2016 في توطين الأفارقة في ليبيا عبر اتفاقية تم توقيعها مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة فائز السراج وأسقطها المجلس الأعلى للقضاء في ما بعد".

وأشار إلى أنه "بعد فشل هذا المخطط تم اللجوء إلى آفة إشعال نار الحرب الأهلية التي كان وقودها شباب ليبيا، إضافة إلى المخدرات وحبوب (ترامادول) التي تمر دوماً عبر البلدان الأوروبية، بخاصة إيطاليا في شكل حاويات مواد غذائية، أو عبر الحدود الجنوبية الليبية المشتركة مع الدول الأفريقية، بخاصة تشاد، للقضاء على الشباب الليبي حتى يصبح المجتمع كله عاجزاً عن توفير احتياجاته الخدمية، مما سيدفع ليبيا للاستنجاد بخدمات قرابة 800 ألف مهاجر غير شرعي موجودين على أرضها، وبذلك يسهل توطينهم في بلد يصنف من بين البلدان العشرة الأوائل عالمياً في الاحتياطات النفطية، والرابع أفريقياً من حيث المساحة، لتتلاشى بذلك الهوية الليبية".

ودعا إسماعيل السلطات الليبية إلى إعلان حبوب "ترامادول" والكوكايين كارثة تهدد الأمن القومي، وتسخير جميع الوسائل للقضاء عليها، على أن تكون البداية بتفعيل حرس الحدود الجنوبية، لأنها مشتركة مع بلدان أفريقية فقيرة تحاول استغلال امتداداها القبلي (التبو والطوارق) للتمركز في الجنوب الليبي الغني بالمياه والثروات المنجمية".

وتساءل المتخصص في الشؤون الأمنية والسياسية عن مدى أهلية السلطات السياسية الموجودة حالياً لقيادة حرب ضد آفة المخدرات و"البوخة"، مطالباً بالإسراع في تنظيم انتخابات وطنية تصل بالبلد إلى تنصيب حكومة موحدة تعمل على إرساء استراتيجية وطنية لمحاربة هذه الظاهرة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير