Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استعادة النمسوي غيورغ تراكل شاعر الغموض الإلهامي

يجسد مثال المتوحد الذي يناجي نفسه من غير أن يكترث بوضعية العالم الذي يكتنفه

الشاعر النمسوي غيورغ تراكل الحاضر بقوة في مشهد الشعر الألماني ( تراكل فاوديشين)

لا يزال الشاعر#غيورغ_تراكل (1887-1914) يمثل مرجعاً شعرياً وفلسفياً، تستعيده باستمرار، #الأوساط_الادبية، الالمانية والنمسوية.  فهو يجسد مثال #الشاعر المتوحد الذي يناجي نفسه من غير أن يكترث بوضعية العالم الذي يكتنفه، وعلى رغم قصر الحياة التي قضاها على الأرض استطاع أن يختزن من نضج الاختبارات ما أهله ليستخرج الخلاصات #الوجودية الأساسية، فأيقن أن الحياة عبثية وأن الآخرين مصيبة الذات، وأن الوجود مفطور على المظلومية التي تصيب جميع الكائنات، فإذا به يرفض العالم ويعتزل في صومعة "جوانيته" البريئة التي استقرت على صورة المراهقة الأولى المحفوظة في ذاكرته. لا عجب والحال هذه من أن يختار الحل الأصعب والأخطر، عنيت به المخدرات واليأس الكياني الذي أفضى به إلى الانتحار البطيء.

الحضور الغائب والسرية الانزوائية

من الخصائص التي وسمت حياة تراكل الفرادة الوجودية والسرية الشخصية، تجلت الفرادة في اختياراته الحياتية وقراراته المهنية وقصائده المنعتقة من قيود الأصناف الأدبية، في حين انعقدت السرية في مخابئ علاقاته العاطفية، لاسيما بأخته غرتل (Gretl)، وفي ظلمات الممارسات الانتحارية التي آثر فيها المخدرات الكيماوية القاتلة على المؤانسات الإمتاعية الطبيعية المنعشة. كان حاضراً في العالم، لاسيما في حقله الثقافي والأدبي، وغائباً عنه خصوصاً في بعده الاجتماعي العرفي التقليدي. عاش في وحدة باطنية شبه مطلقة دفعت به إلى التعلق المرضي بأخته، بحيث أضحت هذه العلاقة محور حياته، بيد أنها تظللت بالغموض والسرية من جراء الشغف المسرف الذي كانت بعض القصائد تشير إليه في خفر متعمد.

أحس بوطأة الواقع المثقل بالالتباسات والالتواءات والانزياحات فهرع إلى مخدع التأمل الباطني يناجي البراءة الأولى التي تصورها في مثال الشاب الطاهر الصافي النقي الدخيلة، فكانت البراءة في نظره أرفع مراتب الوجود طراً تمنحه القدرة على الانعتاق من سلاسل الخيبة، لذلك تجلت في نصوصه آثار التيار التعبيري الألماني والفرنسي لاسيما في طوره الأول (Frühexpressionismus).

النشأة والدراسة ونيران الحرب

 

نشأ في مدينة زالتسبورغ النمسوية التي طبعته بريفيتها القاتمة المصونة بجبال الألب الشرقية ورتابة حياتها الاجتماعية المضجرة، وتأثر بمناظر حدائقها وبساتينها وهضابها، وانطبعت فيه رسوم الرومانسية المحدثة التي كانت سائدة في بيئتها الأدبية، ولو أن المدينة لم تكن تحتضن عظماء الفكر والأدب في ذلك العصر، والدليل على ذلك أنه كان يرسل قصائده إلى فيينا أو إلى إينسبروك لكي تنشر في المجلات المعروفة، ومنها مجلة "در برنر" (Der Brenner) التي كان يصدرها صديقه الناشر الألماني لودفيغ فون فيكر (1880-1967).

يتحدر أجداد تراكل من أصل مجري، وكانت اللغة المجرية منتشرة في أوساط الأسرة الميسورة التي مارست التجارة بفخر واعتزاز وقطنت مدينة زالتسبورغ، ومن ثم عانى التلميذ على مقاعد المدرسة صعوبات جمة في تعلم اللغة الألمانية، وفضلاً عن ذلك لم تسعفه انزوائيته الكتمانية في الانفتاح السلس اللين الذي كان يمكن أن يسهل عليه استساغة البنية اللغوية الألمانية المعقدة. اضطرب مساره العلمي اضطراباً عظيماً فأعاقه عن تحصيل المعارف تحصيلاً يفضي إلى استجلاء دعوته العلمية التخصصية، ومع ذلك درس الكيمياء والبيولوجيا لكي ينال إجازة الصيدلي ويمارس مهنته من غير شغف أو حماسة، بيد أن خبرته الصيدلية جعلته يستسهل تناول المخدرات يطفئ بها لهيب الاحتراق الجواني الكياني المتقد جراء الانفعالات العبثية المتدافعة في وعيه، وما لبثت الحرب العالمية الأولى أن أجهزت على صفاء هذا الوعي فانغمس انغماساً قاتلاً في الملذات الوهمية المهلكة.

تأثر بنصوص عظماء الأدب الألماني والفرنسي، لا سيما هلدرلين (1770-1843) ونوفاليس (1772-1801) وشتفان جورج (1868-1933) وبودلِير (1821-1867) ورامبو (1854-1891) وفرلين (1844-1896)، وكان لفيلسوف العظمة العصيانية نيتشه (1844-1900) أثر جليل في نحت أسلوب الشاعر الشاب. أغراه سحر اللغة الألمانية وقد عاين فيها سبيلاً آخر إلى بلوغ الجنات الاصطناعية التي تخيلها في معترك معاناته الوجودية المظلمة، أما نصوصه فتشتمل على مجموعتين من الأشعار: "القصائد" (Gedichte)، و"سباستيان في الحلم " (Sebastian im Traum)، وبلغ مجموع ما حبره من شعر حوالى الـ 100 قصيدة، ما خلا بعض أبيات زمن المراهقة والشباب وبعض مقتطفات المسرحيات غير المنجزة.

نصف الولادة ومعاناة الموت

 

من آثار الحرب في زعزعة نفسيته الهشة قصيدته الحزينة التي روى فيها أهوال معركة غرودك (Grodek) في مواجهة الجيش الروسي، ومن شدة معاينة الدم المهراق في السهول الخضر انهار نفسياً ونقل إلى مستشفى الأمراض العقلية في مدينة كراكوفيا البولونية، فإذا به يحقن جسده المتهالك بالكوكايين الفتاك فيسقط صريع يأسه الوجودي الشامل.

بالاستناد إلى خبرة الموت هذه تتجلى معالم الإنشاء الشعري الذي يصف خراب الأرض التي لوثتها دماء العنف. في صمت الخائب المنكفئ رسم لنا صورة الزمن الذي ولد فيه نصف ولادة ومات فيه موتاً كاملاً، على حد تعبيره. وحدها القصائد تنطوي على الواقع الحق، ذلك بأنها مهما تبدلت تسمياتها ما برحت تحمل إليه رسالة التبصر الحزين في واقع الحياة المريرة، وتنوعت عناوين القصائد من غير أن تتغير نبرة الخراب الكوني المطبق، فالشاعر أضحى الكائن الغريب القدسي الترحالي يسير على دروب الموت المرعبة ويقفز فوق حجارة الصمت الرمادية، متجاوزاً عوائق الليل المدلهم ومتجنباً ظلال المسالك العنفية الاحترابية.

يخترق اليأس كلمات الشاعر اختراق اللهيب الذي يفني الإحساس الحياتي الزاهي ويمحو آثار الاختبارات التفاؤلية، وقد بلغ ذروته في معاينة الاحتراب الإفنائي بين الناس، وتتجسد الحرب في قصائده في رؤى التدمير الشامل والإتلاف الكياني والمعاناة المؤلمة المنبعثة من مشاهدة مصائر الجثث المتراكمة في ساحة القتال، وشاءت الأحوال أن تنتدبه السلطات للاضطلاع بمهمة الإسعاف الطبي، إذ إن شهادته الجامعية في الصيدلة أهلته لمثل الوظيفة المنهكة هذه.

غلبت على قصائده مسحة من الغموض الساحر جعلت الفيلسوف النمسوي لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951) يكتب إلى ناشر القصائد الألماني ليعبر له عن ارتباكه قائلاً "لا أفهم هذه القصائد ولكن الموسيقى المنبعثة منها تجعلني سعيداً، إذ إنها موسيقى الإنسان الأصيل في عبقريته".

المثال على الالتباسية الجذابة هذه ما قاله تراكل في وصف مسالك الإنسان العبقري المتجسد في هيئة الشاعر نوفاليس  "يا لغرابة دروب الإنسان! في الأرض المظلمة يستريح الغريب القدوس. ينزع من فمه الطري شكوى التظلم، الله، حين ينهار وهو في ملء الاقتدار. الزهرة الزرقاء ما برحت أغنيتها على قيد الحياة في مسكن الآلام الغسقي". إنها الكلمات عينها التي حفرت على ضريحه مخلدة غموض شعره العبقري.

أربع مراحل في شعر تراكل

تراكل شاعر البحيرات المعتمة والانحلالات المنحرفة والعصيانات المقلقة، يصدم الإنسان بغرابة شدوه الشاعري وتكتنف قصائده ظلمة كالحة ترهق العين المبصرة، إذ تتورط كلماته في ترصد شرور الناس فتضج الكتابة بالتشوهات المسلكية الصارخة، ومن يقرأ قصائده يعاين مقدار التعقيد الليلي الذي يلف مقاطعها فيدرك أن تعابيره أشبه بصليب مضرج بالدماء تشع منه أضواء الكواكب المتألقة، ومن ثم لم يستنكف من نعت نفسه بالكائن الغريب الذي يحمل اسماً غريباً ابتدعته مخيلته الهائجة، كاسبار هاوزر (Kaspar Hauser).

اختبر تراكل تعاقب أربع حُقب في تطور إنتاجه الشعري، وفي الحقبة الأولى اتصفت قصائده غير المنشورة بالرمزية التي ترفض تصوير الحياة تصويراً طبيعيا واقعياً وتؤثر استثمار الوساطات الإيحائية الحرة، واستهل الحقبة الثانية (1909-1912) حين أخذ ينشر بضعاً من قصائده في مجلة صديقه لودفيغ فون فيكر، ومن بين القصائد الـ 51 المنشورة تنفرد قصيدة "المزمور" (Psalm) بحركيتها النظمية الحرة وانعتاقها من موازين الشعر الكلاسيكي. على منوال "المزمور" نسج تراكل "من الأعماق" (De Profundis) و"هليان" (Helian)، واصفاً أسلوبه الجديد هذا "بالطريقة التصويرية التي تسبك معاً في أربعة أبيات أربع صور في انطباع واحد"، ومن أبلغ الأمثلة على أسلوب الرصف الترتيبي قصيدة "الموسيقى" (Musik im Mirabell) التي أنشأها عام 1909: "غريب أبيض (ein weißer Fremdling) يدخل المسكن. كلب يندفع في الممرات المتهدمة. الخادمة تطفئ مصباحاً. الأذن تصغي ليلاً إلى نغمات السوناطة المتجانسة (Sonatenklänge)".

ولا عجب من أن ينشط التحول في الحقبة الثالثة (1912-1914) على مستوى أحكام العروض التي أصبحت مطية لريشة الشاعر، وكذلك أصابت الوجدان المضطرم غنائية الذات التائقة إلى الحرية المطلقة والانعتاق من قيود النظم.

ومن قصائد هذه الحقبة مجموعة سباستيان في الحلم التي استوت على إيقاع ثلاثي متفلت من نواميس الإنشاء الشعري على غرار النثر الاسترسالي في نص "تحول الشر" (Vewandlung des Bösen) أو في نص "الحلم والجنون" (Traum und Umnachtung)، أما الحقبة الرابعة والأخيرة فاحتشدت فيها تأملات السقوط والانهيار ونهاية العالم والخطر الكوني الأعظم.

التعبيرية المضطرمة بصقيع الوجدان

لم يخطئ من وصف شعره بالأسود الصقيعي، ذلك بأن أسلوبه كان ينتمي إلى المدرسة التعبيرية الألمانية التي عاينت مآسي الحياة الأوروبية فتهيبت من تصوير الإفناء الذاتي النشوري الأخروي الأبوكاليبتي، وقد شاع في نصوص أدباء فيينا واستفظعت رسوم العدمية المنتشرة في إنشاء أهل برلين، ولم يتورع تراكل عن اقتحام لجة العدم المتجلي في مصير الغرب المحترب فأنشأ قصيدته "الغرب" (Abendland) يعلن فيها النفير ويصف ذاته بكائن الأفول الذي لم ينعم إلا بشباب قصير انقضى أجله سريعاً.

مات تراكل جراء إدمانه على المخدرات التي كانت تساعده في الانعتاق من مشاهد الخراب الكوني، فلم تقتله حقنة الكوكايين على قدر ما أفناه انفجار الدماء المستباحة على أرض الوجود العبثي. بفضل تفاني ناشر قصائده الألماني فيكر استطاع إرثه أن ينجو من الفناء ويدخل معبد الخلود، إذ أضحى يجسد الشمس السوداء الكالحة في الشعر الألماني المعاصر، وبعد أن نقل رفاته عام 1025 إلى النمسا تحول إلى رمز من رموز الوعي الأدبي الأوروبي المتألم، إذ أمسى يحمل صوت البؤس الإنساني المتجلي في غنائية صادحة قريبة من غنائية نوفاليس على جرأة في النظم المتمرد.

يعثر المرء في شعر تراكل على مزيج ملتهب مشع من التعبيرية الألمانية النحيبية وصفاء أسلوب هلدرلين البلوري والفيض الغلياني المتدفق من قصائد رامبو، وبفضل المطالعات الكثيفة التي أدخلته في فضاء شعراء الإبداع ومنهم "الأخ المقدس" هلدرلين ورامبو ونوفاليس وبودلير ونيتشه، استطاع أن يستثير ثورة الحداثة في التعبيرية الألمانية رافضاً رفضاً قاطعاً المألوف من الأساليب التقليدية، ضاخاً في تصويريته الفجة كل مشاعر الحدة اللاذعة وزاجاً وعيه في حلبة التصارع المهلك بين استنهاضات النور وحتميات الظلمة المطبقة. ومع ذلك ما برح شعره يسكنه اللغز وتعصف به الهلوسات الإيحائية التي تومئ إلى النهاية الكونية الكارثية الأبوكاليبتية، ذلك بأن مدن الناس أضحت في نظر تراكل جليدية شريرة يشتم المرء فيها روائح العفن والنتن والموت، أما الغرب الأوروبي فآن أوان تحلله، إذ إنه أمسى كالجثة الهامدة التي ينخرها دود الفساد.

عاين تفكك الإمبراطورية النمسوية -المجرية العظيمة، فأحس التمزق الوجداني يجتاح باطن كيانه وانهار انهياراً صاخباً كالنجمة المنطفئة التي تهوي من أعالي الفضاء، وما كان في مستطاعه إلا أن يستسلم لأوهام التخدير حتى يستدل على زرقة السماء تحتضنها زرقة وردة نوفاليس.

أما المفارقة المربكة في نظمه العصياني فبحثه الشغوف عن إشارات المقدس يستدل عليها في فتنة التحلل الكياني وإغراء التضحية الإفنائية الذاتية، وعلى قدر ما كان يستلهم فتوحات رامبو ودوستويوفسكي (1821-1881)، كان يغرق في العوز الكياني والحرمان الوجودي يائساً محبطاً مشرداً على دروب الاكفهرار الليلي الظلامي: "يا للحزن يكوي العالم كيا! يا له من حزن عدمي! ويا للعدم يضحي هو العالم! ومع ذلك، تكفينا شرارة فرح نقي حتى نصون ذاتنا، يكفينا قليل من الحب حتى نخلص".

يعاين المرء في قصائد تراكل صراخ المكلوم القانط المحبط وحرقة المصاب بخيبة الآمال وتكسر المثال الأعلى في خواء العبث، معظمها منظوم على إيقاع الصمت الرهيب والإفناء الذاتي.

 "وحده الإنسان الذي يحتقر السعادة يفوز بالمعرفة". بقولته هذه ضحى بالسعادة غير أن المعرفة سحقته وأردته شهيد البصيرة الملتمعة، وأراد أن يحول كلماته إلى كبش محرقة يفتدي بها العالم من خطاياه، ومع ذلك كان يعلم علم اليقين أن بؤس الحياة لم يحرمه من الحب النقي الإلهي الذي واكبه في خفر عظيم، فاختبر الجحيم والخراب ولكنه في الوقت عينه نعم بأناشيد العصافير وزقزقاتها الرنانة. "إني ظل نأى بنفسه عن قرى الظلام. من ينبوع الغابة استقيت صمت الله. على جبيني ينزل المعدن البارد، والعنكبوتات تبحث عن قلبي. ينطفئ نور في فمي. وليلاً وجدت نفسي في أرض بائرة".

اللغة في خدمة الشعر الحر

تنطوي قصائد تراكل على طاقات إلهامية تنحو منحى الحداثة الأدبية، وعلى قصر عمره اختبر الغنائية المتمردة على النظم الكلاسيكي، ومن ثم آثر القوافي الحرة اللينة يروضها ترويضاً يستلهم إشراقات رامبو ومراثي هلدرلين، وما لبث أن استعار أسلوب التعبيريين ورؤاهم يطارد بها اعتلالات النفس حتى انفجرت الكلمات من وطأة الألم الكياني والكآبة الوجودية، فاضطربت الريشة وتزعزع الإيقاع وتشرعت الآفاق حتى لامست حدود الإفصاح المكتوم الأقصى، فخرجت الذات الشاعرة من مقامها المنظور وتاهت في شعاب المعاني المتدافعة تخاطب مرارة العالم بصخب الكلمات المأسورة بحروفها.

عقد تراكل عزمه على استحضار الخواء الفوضوي أو "الكاوس" الأبوكاليبتي يستنطقه أخطر ما ينطوي عليه من إشارات الهدم والخراب، ولشدة ما أسكنه في قصائده انفصمت عرى القوافي في شعره وتحول النص إلى خطاب لا شخصي جمودي جليدي، غير أن الهزة الانفلاقية هذه ما لبثت أن جددت عتاد اللغة الألمانية، إذ ضخت فيها سيلاً من المفردات التي حولتها معاناة الدمار إلى لآلئ تعبيرية تشع منها معاني الاختبارات الدفينة، فإذا بالمفردة الواحدة تتكاثر فيها الدلالات وتتناسل بها الإيحاءات متجاوزة حدود التعريف المألوف ومشيرة إلى تحولات خطرة، ومن ثم ارتسمت في قصائد الشاعر المنكوب غنائية مأسوية تجابه استحالة المعنى في عالم مضطرب متوعك تتقاذفه زلازل العبث والعنف.

ومن جراء تعسر القول أصبح الصمت أفضل الحلول بحسب حكمة فيتغنشتاين الذي كان يعاصر تراكل، "إن ما نعجز عن قوله ينبغي أن نطويه في الصمت". غير أن خبرة العجز طفقت تهيمن على مسالك الحياة كلها بحيث طغت الظلمة على الآفاق، فاكفهر الوجود والتهب التهاباً شديداً أوشك أن يقضي على منابت الأمل، فإذا بالشاعر يراسل في العام 1914 صديقه الناشر الألماني لودفيغ فون فيكر معلناً أن "الوجود أمسى يشبه الموت".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في السنوات الأخيرة من حياته كف عن الاعتناء بقصائده وقد سقط في محنة الدمار الذاتي واجتاحته عدمية الكائنات، فلم يعد يقوى على الاستنجاد بالطاقة الإلهامية الجوانية التي تحولت فجأة إلى "موسيقى جنونية عذبة الوقع".

تراكل رامبو النمسا

لم يتورع كثير من الباحثين عن مقارنة سيرة تراكل بسيرة رامبو الذي هجر مجتمعه واتشح بلباس الثائر المتمرد الذي خالف أحكام الأنظومة الأخلاقية والسياسية والجنسية السائدة في عصره، وعلى مثاله لاذ تراكل بالمخدرات والكحول نسجاً على منوال الجرأة العاطفية التي دفعت رامبو إلى عشق صديقه الشاعر بول فرلين، عشق تراكل أخته عشقاً محرماً فعانى أقسى ألوان الحرمان العاطفي، أما على صعيد النظم الشعري فإن تراكل لم يتورع عن استعارة الأسلوب الرصفي الذي اشتهر به رامبو، ولم يستنكف من استحضار الشخصيات الرمزية كشخصية أوفليا في قصيدة "المنظر الطبيعي" (Landschaft)، أو الاستعانة بصورة النجوم الهابطة في قصيدة "الغروب" أو "الأفول" (Untergang)، واقتداء بعبقرية رامبو التجديدية التي أفضت به إلى ابتكار لغة جديدة تستطيع أن تفصح عن المجهول المكتوم في باطن النفس الإنسانية ابتدع تراكل لغته التعبيرية الخاصة التي وكل إليها مهمة الكشف الوجداني المستحيل، ومع ذلك ما برحت شاعريته ممهورة بخاتم انعدام الحضور الشخصي والغياب الذاتي الذي يتجلى في غموضية الأسلوب الانفرادي الفذ.

استثمار التحول الكوني استثماراً فلسفياً

على وجه الإجماع عاين فيه النقاد شاعر التفكك والتحلل والخمرة والمخدرات والالتماعات الحدسية الغروبية، ولا غرابة وحاله هذه من أن تبعث قراءة قصائده في عقول الفلاسفة القدر عينه من الرهبة والافتتان، فإذا بهايدغر (1889-1976) ودريدا (1930-2004) ولاكان (1901-1981) ولوكاش (1885-1971) يكبون على تدبر الشهب الحارقة التي تنثرها الدلالات الشعرية المتمردة الغامضة.

في غير نص من النصوص المكتنزة بالأبعاد الفلسفية الكامنة في قصائد عظماء الشعر الألماني، ومنهم الأربعة الكبار هلدرلين وريلكه وشتفان جورج وتراكل، أكب هايدغر على استجلاء الغموضية التي تكتنف على وجه الخصوص قصائد تراكل اللغزية، وفي كتاب "دروب الغابة" (Holzwege, 76)، أعلن هايدغر أن شاعر زالتسبورغ المأسوي كان يجسد الانتقال من طور إدراك الانهيار انحطاطاً وانحلالاً، إلى طور إدراكه بلوغاً أليماً يفضي بنا إلى اعتلان الروح، وما دام كل شاعر عظيم لا ينظم شعره إلا انطلاقاً من قصيد وحيد (Jeder große Dichter dichtet nur aus einem einzigen Gedicht)، على حد ما كان يذهب إليه هايدغر، فإن استجلاء طبيعة هذا التحول الكوني كان يلهم تراكل معظم إبداعاته الشعرية.

وما التحول هذا سوى التعبير عن غربة النفس الملقاة في عتمة الكون "النفس غريبة في الأرض" (Es ist die Seele ein Fremdes auf Erden)، أما الزمن "فيتنفس دموعاً مغرقة في الظلمة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة