تستهل القصيدة بجملة، عبارة قد تكون عابرة لا يعرف صاحبها (كاتبها) ما مصدرها. عبارة تعجبه فيدونها، ثم يتوقف ليتأملها، ويفكر بما يأتي، بما ينبغي له أن يأتي بعدها. بعد التفكير والتأمل، يسرح بخياله ويطلق له العنان. خياله يسرح في حقول من الصور والألوان والحواس والمشاعر التي تفتح له عوالم شتى، عوالم مفتوحة بدورها على اللغة التي هي الغاية المنشودة في نهاية المطاف، غاية هي في صورة لغة حمالة رسائل بلا شك، ورسائل ذات أبعاد إنسانية تمتح من الحياة والواقع اليومي، كما من الثقافي، الفلسفي والفكري أيضاً.
إن التأمل في العبارة الأولى التي تخطر للشاعر/ المبدع، وهي العبارة التي يمكن وصفها بأنها "العبارة الملهمة"، هو فعل فكري فلسفي في الأساس، ومن هنا وجب التفكير بعلاقة الشعر، والإبداع عموماً، بالفلسفة والفكر؟ فهل ثمة شعر بلا فلسفة وفكر؟ أقول قولي هذا تعليقاً على من يعتقدون أن الشعر مجرد "وجدانيات"، وأن الشعر إذا دخلته الفلسفة، أو داخلته، أفسدته وجففت شعريته وجمالياته، وهذا نقيض ما يسعى الشاعر إليه من أسئلة هي في الأساس ذات أبعاد فلسفية وفكرية، وإلا ما معنى الشعر إن لم يكن ينطوي على الأسئلة والأفكار، جنباً إلى جانب الصور والتخييل والاستعارات والمجازات، وإلخ؟
لعل أجمل شعر شعرائنا، القدامى والحديثين، هو ما ينبع من الفلسفة وأسئلتها، ومن الفكر وهواجسه العميقة، هذا هو الحال منذ امرئ القيس والمتنبي وأبي تمام والمعري، وصولاً إلى شعراء الحداثة جيلاً تلو جيل. فمن دون الفلسفة والفكر، تغدو القصيدة هشةً وفقيرةً، معنى ومبنى. ومن دون الفكر والفلسفة، نغدو حيال نظم إنشائي بلا أي عمق.
ما الذي نقوله عن بيت المعري:
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
كما قال:
أما اليقين، فلا يقين وإنما... أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
أليس هذا روح الفلسفة وعقلها؟ ألهذا أطلقوا عليه "شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء"؟!
أهوال الزمن
باختصار، فإن القول الذي يفتقر إلى الفلسفة والفكر، هو قول هزيل ولا يقوى على الصمود أمام أهوال الزمن، ومتاعب الحياة، وأسئلة الوجود. فالقصيدة ليست صورة أو عاطفة وحسب، هي مع ذلك، وقبل ذلك، لون من ألوان التفلسف والتفكر في جدوى الوجود، وقد تذهب في العشق والطبيعة والدين والآلهة، لكن هذا كله لا يكون بلا فلسفة، فدعونا نراجع قصيدة محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيداً" أو "الجميلات هن الجميلات"، مثلاً، فهما شعر فلسفي خالص. ولو عُدنا إلى "الأخضر بن يوسف"، مثلاً، لقرأنا روح سعدي وفلسفته في الحياة والشعر.
وحتى عندما حرم أفلاطون الشعر في مدينته الفاضلة، فقد أبقى على الفلسفة، التي هي روح الشعر، وجمهوريته التي لم تقم لها قيامة، ربما لرفضها الشعر وخلوها منه. فلم طرد أفلاطون الشعر والشعراء؟ قرأت مرة قول أحدهم "طرد أفلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة الشهيرة، التي ظل يحلم بها وينظر إليها، تلك المدينة التي تتسق مكوناتها وتتآلف من أجل إنسان أرقى، إنسان ينحت حقيقته، ويبني عالمه بحجارة الوعي وأعمدة الحكمة، هذا ما يجعل من الشعر التراجيدي أو الكوميدي مثلاً، ضرباً من الوهم والزيف، فكلاهما ينفخ عالماً من الوهم ويهيم به خارج الحقيقة والواقع. نعلم أن اللغة كائن يولد وينمو ويتطور ثم يموت، لنتخيل الحضارة الإنسانية، التي تعد اللغة أهم اكتشافاتها، دون شعر!".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نحاول الربط بين الشعر والفلسفة والفكر، فنجد في الرجوع إلى أصل كلمة الفلسفة في اللغة اليونانية القديمة، معنى الميل إلى الحكمة، أي كل فكر له علاقة بالرابط العقلي، وقد أظهر جان فرنسوا ليوتار ميكانكية الفلسفة في الانقضاض على الأشياء بقوله، "الفيلسوف يكتب في الاتجاه المعاكس للكتابة". وبخصوص الشعر، فهو بحسب بعض النقاد "أول خلية في القلب، ما هو تعريف ما ننساه؟ ما هي فكرة التلاشي؟ هل هو فناء الموقف أم فناء عاطفته؟ إننا لا نتعرف إلى الفقد حتى ننزلق في مجراه. هل ما ينسى مآله العدم؟ لماذا يرجع أحياناً، ولماذا يبقى هناك، حيث يلقى الكون مهملاته؟". ولقد "بقي الشعر متهماً أمام الفلسفة، منذ أن طرد أفلاطون الشعراء من المدينة الفاضلة بحجة أنهم يقدمون المعاني الفاسدة، ويثيرون العاطفة التي تبعد المتلقي عن الحقيقة، وتهدم الأسس الأخلاقية التي أرادها في جمهوريته، وقد طالب باستبعادهم ودحرهم من منظور أخلاقي، بحسب رؤيته، وأنكر حديث الشعراء الغامض وطريقة الطرح البعيدة عن الواقع في كتاب الجمهورية الأول".
وكما يقول أحد النقاد، فقد كان على الشعر من وقتها الدفاع عن ذاته، وتقديم الأطروحة التي تبقيه حياً في شخصية العالم، وكان على الشعراء حذف تهمة التشويش على عقول البشرية، من خلال الوصف الذي أعطاه أفلاطون في كتابه الثالث للجمهورية، وقد طالب وقتها، بأن يشرف التربويون على الشعر لمنع وصول الخيال المخدر، والمعزز لاستبداد الآلهة، إلى مجتمع المدينة الأفلاطونية التي أرادها، وهذا ما أورده في كتابه الرابع للجمهورية، وتحديداً في سؤاله وإجابته عنه: "ما الذي يحاكيه الفنان في فنه؟ إن الفنان يحاكي من هو محاكى في الأصل، ويبتعد عن الحقيقة ويصبح لا قيمة له".
مكانة الشعر
وعلى النقيض تماماً، منح أستاذه، الفيلسوف سقراط، مكانة عظيمة للشعر، وقد وجد فيه محاكاة لعقول الناس، وأن هذه المحاكاة بمثابة معرفة لا بد منها لينهض الإنسان، كما جعل الشعر أعلى من الفلسفة، إذ إنه يعلم الناس من الخير والحكمة أبعد مما تهدف إليه الفلسفة، من خلال إجمال المشهد الإنساني في صور فنية، وغوص في العمق الذاتي للإنسان، ما يسمح بترسيخ المعنى، وإضفاء الحياة على الأثر المتردد في الروح إبان الخشوع لإيماءة الخيال، وقد شبه الشعر بالموسيقى، أنهما يترجمان ما يقوله الإحساس.
وفي كتابه، "هكذا تكلم زاردشت"، انتقد الفيلسوف والشاعر الألماني فريدريك نيتشه الشعراء في عصره والعصور السابقة له، حين قال إن "الشعراء ليسوا أنقياء بما فيه الكفاية في نظري"، إذ رآهم لا يغوصون في أعماقهم، ولا يصلون إلى القاع في البحث عن العاطفة الإنسانية، التي ستسهم، لو كانت، في إصلاح المجتمع البشري الفاسد، بحسب رؤيته. وفي قول ثانٍ لنيتشه عن الشعراء: "جميعهم يكدرون مياههم كي تبدو عميقة!"، وهو يتهمهم بالافتعال، وأن الغامض لديهم معكر، ما يسلب العمق حقيقته.
نيتشه، شاعر وفيلسوف، قدم نصوصاً يستعصي تحديد هويتها، شعراً أم فلسفة، وقد نجح فيها بنقل الفلسفة إلى منطقة تغييب النسق، والقفز عالياً، أعلى مما تريده الحرية في التفكير، مانحاً الفكر روحاً من خلال الصوت الدافئ المتردد في كلماته، كما ترغب العاطفة أن تتجسد تماماً في عالم يهمش ذاتها. كما انتقد نيتشه في الشعراء تعاليهم وغرورهم، في قوله: "قد تعلموا من البحر غروره أيضاً، أليس البحر بطاووس الطواويس؟". والشعر جسر تمر عليه اللغة/ الفلسفة لتستمر في هذا العالم بشكلها غير المألوف، نظراً إلى ما يدعو إليه الشعر دوماً من إعادة تخييل الكلمات في العقل البشري، والدخول في إيقاع جديد للخيال، والرقص مع النسق الفكري الذي تستحدثه الفكرة، وتحتضنه الكلمات، و"الطريقة الوحيدة للدفاع عن اللغة، أن ننقض عليها"، وفق مارسيل بروست، وهذا "لا يكون إلا من خلال الشعر، ولن يكون للفلسفة بر ترسو عليه إلا من خلال الاستعارة وما تحمله معها من خيالات، تنبت في كل جملة تصادفاً مخالفاً للرؤيوية التقليدية، أو التي تسبقها".
وهذا كله يجعل الفلسفة شعراً ينقل رسالة عظمى إلى العالم والحياة والبشر، رسالةً من الحب في مواجهة الموت والنهايات!