Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رسائل كتبها القيصر الروسي المؤسس تبرر بطشه والدماء التي أراقها

"إيفان الرهيب" يروي مأساة طفولته وكونه عاش حياته محاولاً الانتقام لأخيه

مشهد من فيلم "إيفان الرهيب" لإيزنشتاين (موقع الفيلم)

بالنسبة إلى النخبة العالمية من هواة السينما، ولا سيما منهم أولئك الذين يربطون السينما بالتاريخ، وقد يستمدون من الفن السابع معلوماتهم في هذا السياق، لا شك أن القيصر الأشهر في تاريخ روسيا ليس بطرس الأكبر الذي يرد ذكره في المدونات التاريخية، وليست كاترين العظمى التي تروى الحكايات الطريفة عن ثقافتها ودهائها وحس الفكاهة لديها، ولا حتى ذاك الأخير من آل رومانوف الذي لم تطح به الثورة البلشفية، فحسب، بل أجهزت عليه وعلى كل أفراد أسرته، كباراً وصغاراً، بل ذلك القيصر الذي منذ حمل فيلم السينمائي سيرغاي إيزنشتاين الأخير بجزأيه "إيفان الرهيب" هذين الاسم واللقب معاً، جرى النظر إليه بوصفه واحداً من كبار مجرمي التاريخ كما بوصفه المؤسس الحقيقي للإمبراطورية الروسية. ومع ذلك يجب ألا يغيب عن بالنا دائماً أن الصورة "المتسرعة" لإيفان نتجت من عنوان فيلم إيزنشتاين أكثر مما عن محتوى الفيلم. فبعد كل شيء كان إيفان هذا، في منطق الفيلم، كناية عن ستالين زعيم الاتحاد السوفياتي حين حقق الفيلم، بالتالي كان من غير الممكن للفيلم أن يقدمه على صورة "غير لائقة" كمجرم على سبيل المثال. غير أننا لن نتوقف عند هذا الأمر طويلاً، فالفيلم ليس موضوعنا هنا، بل إيفان نفسه. وبشكل أكثر تحديداً الصورة التي قدمها ذلك القيصر عن نفسه في مجموعة من نصوص تنسب إليه، وتسمى "رسائل إيفان"، وحمل الكتاب الذي يتضمنها عنواناً نجده على أية حال عنواناً ثانوياً في فيلم إيزنشتاين، "أنا السلم في خوض الحرب".

تبرير أمام محكمة التاريخ

بشكل عام، ثمة توافق في صفوف المؤرخين الروس، ومهما كان انتماؤهم السياسي أو الفكري على أن القيصر إيفان هو كاتبها بالفعل هو الذي عاش بين 1530 و1584، أي لمدة كانت بالنسبة إليه كافية، من ناحية لتأسيس الإمبراطورية، ومن ناحية ثانية للثأر ممن ظلموه وقتلوا أخاه وهو طفل ونكلوا بعائلته وهم من أعيان الدولة وكبار رجالاتها ممن يسمون "البويار"، وكانوا يخونون الشعب وحكامهم ويلتحقون بأي غازٍ أجنبي من ناحية ثالثة، ثم يجلس ويخط تلك الرسائل، التي لا بد من التنبه إلى أن إيزنشتاين استعان بها بشكل جوهري في فيلمه، مما جعل الفيلم في نهاية الأمر، تبريرياً فنال رضا ستالين بعد حكم إيفان بأربعة قرون، وإن لم يخلُ الأمر من مشكلات مع الرقابة. لعل اللافت في هذه الرسائل أن الروس لا يعيدون إصدارها كما هي كل مرة من جديد، بل يعيدون ترجمتها في كل مرة من اللغة السلوفينية، وهي اللغة الدينية التي كانت مستخدمة في روسيا القديمة إلى الروسية الحديثة، وكانت كل ترجمة تأتي لتتماشى بشكل ما مع الظروف السياسية الطاغية. ومن هنا الترجمة الأحدث التي ظهرت عند بدايات الألفية الجديدة بإنجاز الكاتب والروائي الروسي المعاصر ديمتري بورتنيكوف، والتي ركزت على الجانب التبريري في الرسائل – ولكن ليس في كلها على أية حال، بل في مختارات منها، والاختيار نفسه يبدو أيديولوجياً هنا كما حال ما فعله إيزنشتاين في فيلمه - فبورتنيكوف أعجبه الجانب الإنساني في لغة الرسائل، بل أكثر من ذلك مقدار الجنون الذي تكشف تلك الرسائل كم كان طاغياً لدى إيفان. ومن هنا كان من الطبيعي أن يصف المترجم مشروع الترجمة الذي قام به بأنه "رحلة بصحبة مجنون. وتجوال برفقة مجرم يبدو أن همه الأساس ليس سوى إثبات براءته".

هكذا تكلم إيفان...

وللتدليل على هذا لم يتردد بورتنيكوف عن حفظ مقاطع بأسرها من النصوص يقرؤها غيباً كلما دعت الحاجة. ومنها مثلاً فقرة تكاد تحمل جوهر النص كله، وفيها يقول إيفان بلهجة المتهم البريء أمام قضاته، "كم من أعيان أمتنا تراهم قتلوا؟ وكم من أصدقاء أبينا دق هؤلاء السفلة أعناقهم؟ لقد استولوا على أملاك أعمامنا وجعلوا من أنفسهم سادة لها. تحول العبيد إلى سادة، بل الأسوأ من ذلك أنهم نهبوا كنوز أمنا البائسة، تلك المجوهرات ومعاطف الفراء والأثواب التي جمعتها تلك السيدة التقية الورعة طوال حياتها... سرقوها أمام أعيننا كما تفعل عصبة من الشياطين وراحوا يقتتلون فيما بينهم متناتشين ثياب تلك الأم القديسة، وكان ذلك في وقت أسلمت فيه الروح... في وقت تركتنا فيه أخي وأنا وكان جثمانها لا يزال حاراً (...). لقد عشت الحقد والكراهية وأنا طفل، وعرفت الجوع. وخبرت اضطراب فؤاد ذاك الذي يجد نفسه عارياً أمام جمهرة غفيرة من الناس (...). أما ذاك الذي كان أكثر عرياً بفعلهم مني، ذاك الذي راحت الجموع تعبر له عن كرهها إياه، فلم يكن سوى أخي الذي سبقته إلى ذلك، لكنني نجوت إذ كنت مجرد طفل. وهذا الطفل ها هو حي الآن عاد كونتا، لكنه لم ينس تلك المشاهد أبداً...".

... وهكذا تكلم المترجم

والحقيقة أن النقاد الروس الذين راجعوا ترجمة بورتنيكوف منذ ظهورها قبل سنوات أثنوا على هذا العمل الذي قال عنه الكاتب إنه كان قد قرأ الرسائل، وكان لا يزال في الرابعة عشرة من عمره قبل أن يضيف، "يا إلهي، أي قدر من الغضب كان يتملك إيفان وهو يكتب هذه الرسائل؟ وبأية لغة عبر عن هذا الغضب؟". و"الحقيقة يقول بورتنيكوف، الحقيقة إنني لم أترجم ما ترجمته من الرسائل، بل استحوذت عليها. استحوذت على روحها. وتعرفون أن هذا النوع من الاستحواذ يكون عادةً تملكاً ذاتياً". وفي مجرى التعليق على عودة رسائل إيفان إلى الواجهة أشار النقاد إلى أنه إذا كان هذا الإصدار ونجاحه لدى القراء يشهدان على شيء، فـ"إنما على التناقضات داخل شحصية ذلك القيصر المؤسس، والذي لا يزال حتى اليوم، وربما في هذا الزمن أكثر مما في أي زمن مضى، موضوع افتتان بالنسبة إلى كثر من ناحية، وموضوع كراهية بالنسبة إلى آخرين كثر من ناحية أخرى". وفي هذا السياق لن يبدو غريباً أن يكون إيفان هو نفسه الذي تنسب إليه مقولة شهيرة تكشف بدورها عن عمق المشاعر الروسية: "إن من يقف معارضاً السلطة إنما هو شخص يعترض على إرادة العناية الإلهية. أما ذاك الذي يقاوم الرب فإنه مرتد دون أدنى شفعة. والارتداد هو أرذل الخطايا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اللغة سلاح سياسي

وتقول الحكاية التي نجدها مروية في الكتاب إن إيفان قال هذه العبارة في رسالة وجهها إلى صديق قديم له، الكونت كوربسكي الذي كان يوماً من أخلص خلصائه، لكنه "خانه" ذات يوم، فلما انكشف أمره فر هارباً إلى بولندا. فاعتبره إيفان "غداراً وابن شياطين"، ولا بد من أن نشير هنا للمناسبة إلى أنه حدث له ذات يوم أن وصف إيفان بالعبارات نفسها التي قالتها إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا التي أمل ذات يوم أن تقبل الاقتران به فيوحد الإمبراطوريتين من أقصى الشرق الأوروبي إلى أقصى الغرب ويعصر القارة كلها بينهما. وكذلك نراه في بعض تلك الرسائل يوجه الشتائم نفسها إلى رجال الكهنوت "الذين يتوخون الحصول على متاع ومتع الحياة الدنيا متجاهلين أنهم هنا لتدبير شؤون الآخرة لا أكثر". واللافت في ما يقوله إيفان أنه في كل مرة يأتي فيها على ذكر خائن ما أو عدو لا يروق له أو مجموعة من فرق ناوأته، لا ينسى أن يتوقف ليعيد رواية ما حدث له وهو صغير حين هاجمه الأعداء – وبالتحديد أعضاء مجلس الدوما وعصاباتهم - يوم مات أبوه الحاكم السابق مع الأم، مما جعل السلطة، كما يروي المؤرخون، بين أيدي مجلس الدوما الذي سارع إلى التحرك للتخلص من إيفان وأخيه كي لا تؤول السلطة إليهما، فيتقاسم أعضاء "الدوما" الحكم. ونعرف أن تلك الحقائق التاريخية هي التي اشتغل عليها إيزنشتاين في فيلميه، فنظر إلى الفيلمين بوصفهما "تبريراً يأتي من أعماق الزمن لما فعله ستالين من قضاء على محاولي إطاحته".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة