Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بطرس الأكبر" لأَلكْسي تولستوي: أبو الشعب يعود إلى زمن القياصرة

حين طالب ستالين المبدعين بتذكير الروس بأمجادَ الماضي

بطرس الأكبر في لوحة تمجّد انتصاراته في معركة بولتافا

حتى وإن كان من غير المنطقي القول أن ستالين نفسه كان هو صاحب فكرة إنجاز أكبر عملين تاريخيين عرفهما الفن والأدب في بلاد السوفيات أواسط القرن العشرين، يمكن التأكيد على دوره الحاسم في ولادتهما. ونتحدث هنا عن فيلم "إيفان الرهيب" لسيرغاي إيزنشتاين في مجال الفن، وعن رواية "بطرس الأكبر" لألكْسي تولستوي في مجال الأدب. وكان الجزء الأول من فيلم إيزنشتاين قد أنجز في العام 1947 بينما اكتمل في العام 1945 الجزء الثالث والأخير من رواية تولستوي. ما يجعل العملين يرتبطان مباشرة بنزعة وطنية أراد منها ستالين أن ترفع معنويات الشعب الروسي في مواجهة أحداث الحرب العالمية الثانية ولا سيما الكارثة التي تمثلت في وصول القوات النازية إلى مشارف موسكو. ولئن كنا سنجد مناسبة لاحقة للعودة إلى فيلم إيزنشتاين سنكتفي هنا بالتوقف عند رواية "بطرس الأكبر" التي اعتُبرت ولا تزال، أكبر رواية تاريخية روسية كتبت في القرن العشرين ومنافسةً حقيقية لرواية ليف تولستوي "الحرب والسلام".

الحقيقة أن ألكْسي تولستوي كان أصدر الجزأين الأولين من روايته في العامين 1930 و1935 تباعا، حيث، على عكس ما يمكننا أن نتصوّر في دولة "البروليتاريا" التي كان من أول إنجازات ثورتها إعدام القيصر وكل أفراد عائلته شيباً وشباناً، نالت استحسانا من قبل السلطات ومن قبل ستالين نفسه. وكيف لا تكون الحالة كذلك مع رواية تمجّد في القيصر بطرس خصالا يمكن للقراء أن يروها لدى "القيصر" البولشفي الجديد. والحقيقة أن التوازي كان حتميا بين الشخصيتين وبالتالي كان التبرير واضحا لكل ممارسات ستالين من خلال ما يسرده الجزءان الأولان من الرواية بالترابط مع منطق بناء الدولة لصالح الشعب. فكل ما فعله بطرس الأول من ممارسات قمعية وتنكيل بالخصوم واستبعاد لأقرب الحلفاء حين تدعو الحاجة، كل هذا تبرره الرواية ولا سيما في تلك المشاهد، الرائعة فنيا، التي تصور حياة القيصر من الداخل، أو معاركه أو مجالسه الحوارية أو زيارته التاريخية إلى فرنسا، حيث كان همه طوال الوقت السعي لإيجاد السبل التي تنقل بلاده إلى العصور الحديثة. وهي كلها هموم كان من شأن البروباغندا السوفياتية ربطها الحتمي بستالين وهو يقارع الرجعيين حتى من بين مساعديه ورفاقه الثوريين. وهذا كله لم ينتظر تولستوي القرن العشرين معركة ستالين مع الغزاة الأجانب وضروراتها كي يرويه بلغة فنية لا بد من الإعتراف بتفوقها. ومن هنا حين حلت تلك المعركة وبات من الضروري مساندة أبي الشعب في معركته هذه، عبر كتابة جزء ثالث يتابع التبرير واستنهاض الهمم الشعبية، كان الترحيب بذلك الجزء كبيراً بحيث صار للستالينية عملها الأدبي التاريخي الكبير وتطابقت نظرة الكاتب مع نظرة الزعيم تطابقا مدهشاً. لكنه لم يكن الاول!

التكيّف "الخلاق"

فأَلكْسي تولستوي، الذي كان كما حال سلفه الكبير ليف تولستوي، متحدراً من عائلة ارستقراطية، عرف باكراً، ورغم تعرجات سنأتي على ذكرها، كيف يكيّف نفسه مع دولة "الطبقة العاملة"، بل كيف يضع أدبه في خدمتها وفي خدمة «البروليتاريا» ما جعله، في ذروة العصر الستاليني اشبه بالكاتب الرسمي للدولة، إسوة بصديقه إيليا اهرنبورغ، بل حتى أكثر من هذا الأخير. ومن هنا لئن فاقت شهرة أَلكْسي شهرة ليف تولستوي في بعض مراحل شهدت نوعا من التعتيم على مؤلفات هذا الأخير، ولئن وُسم دائماً من قبل نقاد الستالينية، بتلك الصفة الرسمية التي كانت له، فإن الأمر احتاج إلى رحيل أَلكْسي تولستوي في العام 1945، وزوال الستالينية بعد ذلك بعقد من السنين، حتى يكتشف القراء، ما كان أفتاه غوركي، من أن هذا الكاتب كان رغم كل شيء كاتباً كبيراً، بل ربما كان الأفضل بين أبناء جيله، ولا سيما في مجال رسمه صورة صادقة للإنهيار الاقتصادي والنفساني الذي عاشته الارستقراطية الروسية عند نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، وهو بالطبع كان قادراً على رسم ذلك الانهيار لأنه ابن للطبقة المعنية به.

أرستقراطيّ في أحضان ستالين

ولد أَلكْسي تولستوي العام 1882 في مدينة نيقولايغسك، وتلقى دراسته العليا في معهد التكنولوجيا في سانت - بطرسبرغ. وبعد ذلك بدأ يتجه ناحية الأدب لينشر في 1907 مجموعة شعرية أولى كشفت له أنه ليس شاعراً حقيقياً بل من الأفضل له أن يتجه إلى النثر، ففعل اعتباراً من 1911، حيث بدأ ينشر قصصاً وروايات قصيرة أقبل عليها القراء بسرعة ولم يفت النقاد أن يلاحظوها، وكان من الطبيعي للاسم الذي يحمله الكاتب والذي يستثير ذكرى تولستوي الكبير، أن يساهم في لفت الأنظار إليه، وهكذا قرئت روايته «السيد الأعرج» (1912) على نطاق واسع، كما قرئت روايته (التي هي أشبه بالسيرة الذاتية) «طفولة نيكيتا» ونالت إعجاباً. غير أن اندلاع الحرب العالمية الأولى وانخراط تولستوي فيها مجنداً، أدى إلى توقفه عن الكتابة. ثم حين اندلعت ثورة 1917 البولشفية، وجد تولستوي نفسه يقف تلقائياً، ضدها، وفي صف الروس البيض. وانتهى به الأمر للهجرة إلى فرنسا. لكنه هناك، ومن خلال احتكاكه بالروس المهاجرين وتعاونه مع مجلة «الحوليات المعاصرة» وجد نفسه ينضم بسرعة إلى طائفة من المثقفين الروس المهاجرين كانت ترتئي مهادنة النظام السوفياتي الجديد بدلا من محاربته، وهكذا نراه يعود إلى موسكو في 1923 بعد رحلة قام بها إلى برلين.

ولما كان قد سبق له أن نشر رواية بعنوان «طريق الآلام» فيها قدر من العداء للنظام الجديد ومن الحنين لروسيا القديمة، عمد حال عودته إلى تعديل الرواية بشكل جذري بحيث سرعان ما باتت أكثر تلاؤماً مع الحكم السوفياتي وموقفه الجديد منه. ومن نافل القول أن هذه الخطوة أرضت السلطات السوفياتية، كما كانت أرضتها كتابات عديدة نشرها تولستوي فيما كان في فرنسا يستعد للعودة مثل «ايليتا» و«المدن الزرقاء».

"إنه يفتقر إلى الحسّ الأخلاقي"

وهكذا تمكن أَلكْسي تولستوي من أن يحظى بمكانة مميزة في الحياة الأدبية الجديدة. ويبدو أنه استساغ هذه اللعبة، إلى درجة جعلت إيفان بونين يكتب عنه قائلاً: «لقد كان أَلكْسي تولستوي مهماً على غير صعيد، غير أن ما يدهش أكثر من أي أمر آخر في شخصيته، هو افتقاره الاستثنائي لأي حسّ أخلاقي».

والحقيقة ان أَلكْسي تولستوي لم يعبأ بهذا الأمر، بل واصل مسيرته في كتابة روايات وقصص ومسرحيات، في الوقت الذي كان لا يتردد فيه عن إعادة النظر في رواياته، وتعديلها مرات ومرات حتى تتلاءم في نهاية الأمر مع النظرة الرسمية إلى الأدب، ومثل هذا حدث خاصة لواحدة من أشهر رواياته «الذهب الأسود» التي كتبها أول مرة في 1931، ثم كتبها ثانية مع الكثير من التعديلات الجذرية - الملائمة لسلطة ستالين الفردية الجديدة - في 1938. غير أن عمل تولستوي الأكبر في مناصرة ستالين، كان روايته «الخبز» وهي رواية تاريخية امتدح فيها تولستوي ما فعله ستالين حين نظم الدفاع عن مدينة تساريتزين، التي حملت بعد ذلك اسم «ستالينغراد».

وبالتوازي مع ذلك أُغرم تولستوي بكتابة الروايات التاريخية، من النوع الذي كان يمكن إسقاط أحداثه على الزمن الراهن، ما يكشف عن مناصرة متزايدة لستالين كانت تعزز من موقع الرجل - أي تولستوي - في السلطات الأدبية في البلد، ومن تلك الروايات طبعاً عمله التاريخي الأشهر «بطرس الأكبر» و«ايفان الرهيب». وهذا أتاح لتولستوي أن يبلغ من الحظوة ما يجعله يمثل بلده في العديد من اللقاءات والمؤتمرات العالمية. وفي 1937 أضحى عضواً في مجلس السوفيات الأعلى، وتلقى في 1938 وسام لينين، ثم نال جائزة «ستالين». وخاض الحرب العالمية الثانية بقلمه، حيث كان من أكبر المناصرين لستالين. ولم يرحل عن عالمنا إلا يوم حطت الحرب أوزارها، وكأنه أحس عند ذلك بأنه أدى ما عليه.

المزيد من ثقافة