Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"النعرة الروسية"... من القيصرية إلى "البوتينية"

ورث الاتحاد السوفياتي إمبراطورية واسعة الأراضي ومتنوعة الأعراق ونظام بوتين نفخ مجدداً في المشاعر القومية

بوتين يلتقط صورة سيلفي مع نشطاء شباب في الساحة الحمراء خلال الاحتفالات بيوم الوحدة الوطنية (أ ف ب)

"حين كنا نعمل في المصانع الروسية كان قادة الحزب يقولون لنا إن العامل الروسي لن يتزوج من امرأة بلغارية، لكن إذا حدث فيجب أن يكون في فيلم عن الصداقة التي تربط الشعوب السوفياتية، وأن يكون الزواج مفعماً بالحب والنضال".

هذا ما علق به مخرج روسي شهير في "هوليوود" فاز بعديد من جوائز الأوسكار حين سئل عن العلاقة بين الشعوب والأعراق والقوميات الكثيرة التي ضمها الاتحاد السوفياتي، أو بالأحرى التي ضمتها روسيا الشيوعية إليها لتشكل مجتمعة الاتحاد السوفياتي.

"الترويس" الفعلي

هذا التعليق يمكن إبرازه في سياق الحرب الأوكرانية، إذ إن أحد المبررات الرئيسة المعلنة، بحسب الرئيس الروسي، هو حماية الروس أو الناطقين بالروسية الذين يعيشون في أوكرانيا.

بوتين أجرى بالفعل استفتاء لأربع مقاطعات أوكرانية ينطق أغلب سكانها بالروسية للموافقة على الانضمام إلى الاتحاد الروسي، بعد إعلانها جمهوريات مستقلة وسلخها عن أوكرانيا.

وأيد أغلبية المستفتين هذا الانضمام، بحسب النتائج الروسية، التي رفضها المجتمع الدولي والأوكرانيون على أساس أنها استفتاءات مزورة.

هذا ما يمكن تسميته بـ"السياسة البوتينية" المناقضة لسياسة سلفه بوريس يلتسين، الذي حكم في المرحلة الانتقالية لانفراط عقد الاتحاد السوفياتي في عام 1990.

يلتسين ألقى خطاباً حينها في العاصمة الأوكرانية كييف، ليعلن أنه "بعد أكثر من 300 عام من حكم القياصرة الروس والنظام الشمولي السوفياتي في موسكو أصبحت أوكرانيا حرة أخيراً".

وقال إن "روسيا لا تريد أي دور خاص في إملاء مستقبل أوكرانيا، ولا تهدف إلى أن تكون في قلب أي إمبراطورية مستقبلية".

لكن في مرحلة الاتحاد السوفياتي السابقة على الغورباتشوفية واليلتسينية والبوتينية "أعيد التوطين" Korenizatsiya للشعوب والقوميات والأعراق المختلفة خلال حقب سوفياتية عدة، على رأسها الحقبة الستالينية، فدمج المواطنون السوفيات ونقلوا إلى بلدان أخرى بهدف محو الانتماء القومي أو العرقي أو الإثني أو الديني لمصلحة "ديكتاتورية البروليتاريا" وشعار "المنجل والمطرقة" السوفياتي.

كان من بين المواطنين السوفيات الذين نقلوا أو أعيد توطينهم في البلاد المحيطة، الروس الذي يعيشون اليوم في أوكرانيا والذين ما زال عدد كبير منهم ينطق بالروسية إضافة إلى الأوكرانية، وهم أوكران يحملون الجنسية الأوكرانية منذ إعلان استقلال أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واعتراف المجتمع الدولي بها دولة مستقلة، فهم يتكلمون أيضا لغتهم الأم واللغة الروسية التي تعلموها في الزمن الشيوعي كلغة التعليم والإدارة والمعاملات الإدارية.

سياسة القوميات السوفياتية للأقليات

ورث الاتحاد السوفياتي أراضي الإمبراطورية الروسية وورث أيضاً التنوع العرقي الواسع، لكن في زمن الإمبراطورية الروسية القيصرية فرض "الترويس" (الهوية الروسية) على المجموعات العرقية المختلفة التي تسكن الإمبراطورية الروسية.

لكن الأمر كان مختلفاً خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في سياسة الاتحاد السوفياتي، حين كان التوطين أو إعادة التوطين المشهور باسم Korenizatsiya يهدف إلى جمع العرقيات غير الروسية في بوتقة واحدة سميت الاتحاد السوفياتي، والضم كان يتم بالإغراءات والوعود أو بالترهيب والقوة، فقد كان توزيع العالم بعد الحرب العالمية الثانية بين دول الحلفاء المنتصرة في مؤتمر يالطا قد وقع.

ستالين كان يقول "اسمح لمجموعة أقلية مضطربة باستخدام لغتها الأم بعد منعها، وسيمر أي استياء أو اعتراض من تلقاء نفسه"، لكن أقليات الإمبراطورية الروسية كانت تتمنى بناء "الدولة الأمة الخاصة" بالعرق والمستقلة بعد انهيار الإمبراطورية.

وقد بدأت شرارة الخلاف مع البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين، مؤسس الحزب الشيوعي المنتصر في الحرب الأهلية الروسية اللاحقة على الانهيار، وذلك حين أبدى الجورجيون والأوكران رفض دمجهم ضمن بوتقة أوسع تمنع عنهم إعلان انتمائهم العرقي والإثني والاحتفاء بثقافاتهم المحلية المتوارثة ولغتهم الأم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكان هذا الاعتراض سبب انطلاق عملية الضم بالقوة التي جعلها جوزف ستالين نبراساً لسياسته، هذا على الرغم من أنه جورجي الأصل وولد وتربى في عائلة من الفلاحين، فقام بحصار أوكرانيا لخمس سنوات مانعاً الفلاحين من زراعة الأرض بعد أن رفضوا الانضمام إلى التعاونيات التي فرضت في سائر أنحاء الاتحاد السوفياتي.

وسميت هذه السنوات الخمس التي أدت إلى مجاعة رهيبة في أوكرانيا، بـ"دملدور" ومات جراء الجوع والحصار ما يقارب أربعة ملايين أوكراني، وعلى الرغم من المركزية الروسية المطلقة في الاتحاد السوفياتي فإنه تم شكلياً ودعائياً منح كل دولة الاستقلال الذاتي أو الإدارة الذاتية عن المركز السوفياتي، كما فيلم زواج العامل الروسي بعاملة بلغارية.

في مؤتمر الحزب الثاني عشر عام 1923، اعتبر ستالين بعد تسلمه السلطة أن القومية المحلية تشكل تهديداً أولاً لسياسات السوفيات التوحيدية، وبعد نجاح خططه أعلن في عام 1936 أن دول الاتحاد السوفياتي باتت تشكل اتحاداً متناغماً لخدمة دولة اشتراكية واحدة، أي الاتحاد السوفياتي.

كان ذلك في الدعاية الرسمية، أي الاتحاد المتناغم، بينما في الواقع أبعد ستالين سائر الأقليات غير الروسية من مراكز النفوذ في السلطة، وجمع بين الشعوب القوقازية والتركية ذات اللغات والديانات والثقافات وقسم المجموعات العرقية داخل الدول الواحدة، فقسمت منغوليا إلى ثلاث جمهوريات.

كما قام بترحيل أعداد هائلة من السكان من أراضيهم مثل ألمان الفولغا وتتار القرم بحجة أن هذه المجموعات كانت تتعاون مع الألمان أو أنهم مناهضون للسوفيات، كما كتبت المؤرخة جوي نومييرJoy Neumeyer ، التي كانت من موسكو مراسلة لصحيفة "نيويورك تايمز" و"فورين بوليسي" و"واشنطن بوست" و"ذا أتلانتيك".

العهد الجديد القديم

بعد سياسات ستالين التي أعادت للعرق الروسي القوة المسيطرة على عالم القوميات السوفياتية بعد أن روجت دعاية النظام أن الروس هم من هزموا الجيش النازي، أما بقية الأعراق فكانوا محاربين تحت إمرتهم، وظلت اللغة الروسية هي اللغة السوفياتية والتاريخ والثقافة الروسيان الأكثر تداولاً داخل الاتحاد، وتعامل الروس مع الوضع الاشتراكي الجديد على أنهم النواة التي تدور حولها "الأقليات القومية".

برأي المؤرخة جوي نوميير كان جزء كبير من الثقافة التي أنتجها القوميون الروس متوافقاً مع الصورة الذاتية للاتحاد السوفياتي، فمجد الرسام إيليا جلازونوف شخصيات مثل إيفان الرهيب وسانت سيرجيوس من رادونيج إلى جانب صور ليونيد بريجنيف الأمين العام للحزب الشيوعي.

وأعلن الناقد السلافي فاديم كوزينوف أن روسيا أنقذت العالم ثلاث مرات، من جنكيز خان ونابليون وهتلر، أما ألكسندر سولجينتسين الذي كان ينظر إلى الشيوعية على أنها أيديولوجية أجنبية فصلت روسيا عن تراثها الأرثوذكسي فقد جرد من جنسيته السوفياتية بعد حملة صحافية شريرة اتهمته بـ"الاختناق بالكراهية المرضية" للبلاد وشعبها.

الغريب في الأمر أن المطالبين بالعودة إلى القومية الروسية قد عوقبوا كونهم ضد فكرة الاتحاد السوفياتي مثل سولجينتسين، كذلك عوقب الداعون إلى إلغاء الانتماءات القومية لصالح المشترك السوفياتي.

على سبيل المثال في عام 1972 نشر ألكساندر ياكوفليف، القائم بأعمال رئيس قسم الدعاية باللجنة المركزية قبل أن يصبح بعد ذلك كبير مستشاري غورباتشوف، مقالة في إحدى الصحف السوفياتية هاجم فيها الأفكار المنشقة والمتحالفة رسمياً مع دعاة القومية الروسية، وأدت المقالة إلى خفض رتبة ياكوفليف إلى منصب سفير في أوتاوا.

أنتج انتقال غورباتشوف السياسي والاقتصادي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية الفوضى، بما في ذلك النقص الحاد في الغذاء، وقال في تلك الفترة المؤرخ الناجي من الغولاغ دميتري ليخاتشيف، إن النظام الشيوعي "أذل روسيا وسرقها لدرجة أن الروس لا يستطيعون التنفس".

أما المؤرخ فلاديسلاف زوبوك فيروي كيف اكتسبت الفكرة الانفصالية زخماً في النصف الأول من عام 1990 بفضل ثلاث قوى معادية لبعضها بعضاً، أي القوميون الروس داخل الحزب والنخب المعارضة التي هيمنت على سياسة موسكو في زمن البيروستريكا، والجماهير التي تقف وراء منافس يلتسين الرئيس الذي ملأ المرحلة الانتقالية.

التاريخ يعود على شكل مهزلة

أعلن يلتسين مراراً وتكراراً بعد انتخابه كأول رئيس لمجلس السوفيات الأعلى الروسي أن الاتحاد السوفياتي كان يسرق الروس لدعم آسيا الوسطى، واشتهر بمقولته "كفى إطعام الجمهوريات الأخرى"، وعرف يلتسين بتأثره الكبير بأفكار سولجينتسين التي تتناول "إعادة بناء روسيا" وحل الاتحاد السوفياتي مع الاحتفاظ بالنواة السلافية لروسيا وأوكرانيا وبيلاروس إلى جانب الأجزاء التي يسكنها الروس من كازاخستان، لكن لم تسر الخطة على ما يرام، إذ إنه في أغسطس 1991 أقر البرلمان الأوكراني قانوناً يعلن دولة أوكرانيا المستقلة ذات الأراضي "غير القابلة للتجزئة والمصونة".

بعد يلتسين وحقبته الفوضوية، اتخذ الرئيس الجديد فلاديمير مسافة واحدة بينه وبين القوميين الروس، مع الحفاظ على الحزب الديمقراطي الليبرالي والشيوعيين كمعارضة تابعة في مجلس الدوما، على الرغم من قراره بإعادة النشيد الوطني السوفياتي في السنوات اللاحقة على حكمه.

وقد أدى ارتفاع أسعار النفط والغاز في أول ولايتين لبوتين (2000-2008) إلى تحسين حياة الروس بشكل ملحوظ، وبسبب هذه البحبوحة المستجدة أعاد بوتين بشكل متزايد مهمة الدولة التي تحصن القيم التقليدية.

في 2020 أظهر استطلاع أجراه مركز ليفادا أن 82 في المئة من الروس يعتقدون أن أوكرانيا يجب أن تكون دولة مستقلة، وأنهم يفضلون مستوى معيشة أعلى وحياة كريمة مزدهرة وديمقراطية نسبية بدلاً من أن تكون دولتهم "قوة عظمى".

لكن بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 ومن ثم اجتياح أوكرانيا، نفخ نظام بوتين مجدداً في المشاعر القومية الروسية عبر التركيز على دعم شعور الروس بالفخر والظلم في آن، لكن الروس عموماً بحسب التقارير والإحصاءات التي جرت منذ عام 2014 يبدون عارفين بمعنى العودة إلى عصر الإمبراطورية العظمى، الذي كلفهم الكثير، سواء في مرحلته القيصرية أو الشيوعية أو الحالية "البوتينية"، التي تبدو كأنها إعادة للتاريخ، لكن هذه المرة بطريقة تنطبق عليها مقولة واضع النظرية الاقتصادية الاشتراكية ومنظر الشيوعية الأول، الفيلسوف الألماني كارل ماركس مع رفيقه مايكل أنجلز، وذلك حين قال إنه "يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه مرتين، لكنه في المرة الثانية يعود على شكل مهزلة".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير