Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نخبة لبنان الحاكمة تدفع الدولة الهشة إلى حافة الهاوية

الزعماء السياسيون يحصنون مواقعهم والأمل في تحقيق العدالة بقضية انفجار المرفأ يتبدد

اشتباك بين المحتجين والقوى الأمنية أمام وزارة العدل في بيروت (أ ب)

دقت النخبة الحاكمة في لبنان مسماراً آخر في نعش الدولة المنهارة، بتحركها نحو دفن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت مما أثار صراعاً في الهيئة القضائية في محاولة لتجنب المساءلة بأي ثمن.

وانفجرت التوترات المختمرة منذ أمد بعيد في شأن التحقيق بعد أن وجه المحقق العدلي القاضي طارق البيطار اتهامات لبعض الأشخاص الأكثر نفوذاً في البلاد، متحدياً الضغوط السياسية باستئناف تحقيقه.

وبعد أن شملت قائمة المتهمين أصدقاء وحلفاء من أقوى الفصائل في لبنان، بما في ذلك ميليشيات "حزب الله"، ردت المؤسسة الحاكمة بسرعة، الأربعاء، عبر اتهام مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، البيطار باغتصاب السلطات، في خطوة وصفها بعض السياسيين المعارضين بالـ"انقلاب" على تحقيق المحقق العدلي.

ويترك هذا القليل من الأمل في تحقيق العدالة بأي حال في الانفجار الذي أودى بحياة 220 شخصاً ودمر مساحات شاسعة من بيروت، ويثير القلق أيضاً بأن القضية ستسلك الطريق نفسه الذي سلكه عدد لا يحصى من القضايا الأخرى في بلد لطالما كان الإفلات من العقاب هو القاعدة فيه.

لا دولة

ومع ظهور الصدوع العميقة في القضاء، تسهم الأزمة في تفكك الدولة الذي تسارع بفعل أزمة مالية مستمرة منذ ثلاث سنوات وتركتها النخبة الحاكمة لتتفاقم.

واعتبر نائب رئيس تحرير جريدة "النهار" المحلية نبيل بومنصف، أن ما يحصل تدمير للقضاء، معبراً عن خشيته من تفكك البلاد إذ "لم يبق شيء يسمى دولة" فيما يواجه اللبنانيون الفوضى وقانون الغاب.

ويعاني لبنان من أزمة تلو الأخرى منذ انهيار نظامه المالي، وهو ما يمثل بداية لأكثر المراحل تسبباً في زعزعة الاستقرار منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990.

والعملة التي فقدت أكثر من 97 في المئة من قيمتها منذ عام 2019، تسارع انهيارها في الأيام القليلة الماضية فتجاوز سعر صرف الدولار الواحد 63 ألف ليرة، مما أدى إلى إفقار مزيد من اللبنانيين.

وسيواجه نحو 2.3 مليون شخص، أي نحو 42 في المئة من السكان، انعدام أمن غذائي حاد في الربع الأول من هذا العام، وفقاً لدراسة مدعومة من الأمم المتحدة. وأصبحت المساعدات الخارجية أكثر أهمية من أي وقت مضى في توفير الغذاء للناس ولقوات الأمن، علماً أن الولايات المتحدة وقطر تساعدان في دعم رواتب الجنود.

وعلى رغم تردي الأوضاع، لا تحرك النخبة السياسية الحاكمة ساكناً تقريباً لمعالجة الأزمة، إذ تغلب المصالح الخاصة على الإصلاح.

 

المؤسسة تحصن نفسها

وعلى الجبهة السياسية، أدى الخصام بين الفصائل الحاكمة، الذي يعود تاريخ كثير منه إلى الحرب الأهلية، إلى أزمة حكومية غير مسبوقة مشوبة بالطائفية، فيما منصب رئاسة الجمهورية، الذي لا يتولاه إلا مسيحي ماروني، شاغر منذ أشهر.

وحذر زعماء مارونيون من أي تحرك لتجاوز طائفتهم، معترضين على اجتماعات مجلس وزراء تصريف الأعمال الذي يرأسه مسلم سني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي ظل هذه الأجواء، يمحص ممثلو ادعاء أوروبيون بعمق أكثر من أي وقت مضى في مزاعم بأن حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، إحدى الركائز المالية لحكام لبنان الذي له علاقات سياسية وطيدة، اختلس مئات الملايين من الدولارات خلال فترة ولايته المستمرة منذ 30 عاماً، وهو ما ينفيه سلامة.

وداخلياً، واجهت محاولات قاض لبناني للتحقيق مع سلامة عقبات بفعل نفوذ السياسيين الكبير على القضاء.

والعقبات نفسها يتردد صداها في المشكلات التي واجهها البيطار الذي كلف بالتحقيق في انفجار المرفأ قبل عامين، فقد أطيح بسلفه بعد شكاوى ضده من مسؤولين وجه إليهم الاتهامات.

وقال سامي عطا الله، مدير مبادرة "سياسات الغد"، إن هناك محاولة منهجية من المؤسسة الحاكمة لحماية أعضائها من انفجار المرفأ ومن الانهيار المالي ومن غيرها من الأزمات التي هي مسؤولة عنها في الواقع.

"انقلاب"

ووقع الانفجار في الرابع من أغسطس (آب) 2020، نتيجة وجود مئات الأطنان من مادة نيترات الأمونيوم المخزنة بشكل غير سليم في المرفأ، فيما كان رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء حينذاك ومسؤولون كبار آخرين، على علم بوجودها.

وفيما ينفي كل المتهمين ارتكاب أي مخالفات، توقف تحقيق البيطار بعد أن استقال قضاة من محكمة التمييز التي كان يتعين أن تبت في شكاوى مقدمة ضده من مسؤولين وجه إليهم اتهامات في القضية، ومن بينهم أعضاء بارزون في "حركة أمل" التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري.

وامتنع وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل، المدعوم من بري، عن التوقيع على مرسوم بتعيين قضاة جدد في محكمة التمييز، مما أثار مخاوف من مأزق إلى أجل غير مسمى.

واستأنف البيطار عمله، الإثنين، ووجه اتهاماً إلى عدد أكبر من المسؤولين، من بينهم مدعي عام التمييز غسان عويدات، ومدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، وهو مسؤول له علاقات قوية بـ"حزب الله".

وكان عويدات قد تنحى سابقاً عن النظر في القضية إذ كان صهره الوزير السابق غازي زعيتر، وهو عضو في "حركة أمل"، من بين المتهمين.

لكن عويدات عاد هذا الأسبوع ليرد على استئناف البيطار تحقيقه، فاتخذ إجراءات تضمنت إطلاق سراح كل المحتجزين في قضية المرفأ.

وقال نزار صاغية، من مجموعة "المفكرة القانونية" للحقوق المدنية، إن خطوة عويدات أشبه بانقلاب، إذ قرر شخص اتهمه قاض أن يدافع عن نفسه بإبعاد القاضي الذي وجه إليه الاتهام وإطلاق سراح جميع المعتقلين في القضية.

توترات طائفية

ومنذ البداية، طالب بعض اللبنانيين بإجراء تحقيق دولي لشكهم في قدرة السلطات المحلية على إخضاع أي شخص للمساءلة في شأن الانفجار.

ومثل هذا التحقيق لن يكون الأول من نوعه في لبنان، فقد تشكلت محكمة مدعومة من الأمم المتحدة بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005، ودانت في نهاية المطاف عضواً في "حزب الله" بالضلوع في مؤامرة لقتل الحريري. غير أن الحزب المدعوم من إيران والذي دأب على نفي ضلوعه بأي دور في الاغتيال، دان المحكمة الدولية باعتبارها أداة لأعدائه.

واتهم "حزب الله"، الذي عارض البيطار، الولايات المتحدة بالتدخل في التحقيق بانفجار المرفأ واتهم البيطار بالتحيز السياسي، فيما تنفي واشنطن ذلك.

وذكر مصدر مطلع أن "حزب الله" يعتقد أن قرار البيطار استئناف التحقيق نابع من اجتماع في الآونة الأخيرة مع قضاة فرنسيين يحققون في الانفجار الذي أسفر عن مقتل فرنسيين اثنين، لكن لم يتسن الحصول على تعليق من المحقق العدلي.

وفي عام 2021، بعث المسؤول الكبير في "حزب الله" وفق صفا برسالة إلى البيطار توعد فيها باقتلاعه، وشارك أنصار الجماعة حينها في مسيرة مناهضة للمحقق العدلي تسببت في نشوب أعمال عنف دامية في منطقة الطيونة، على طول خط مواجهة قديم يعود إلى الحرب الأهلية بين أحياء مسيحية وشيعية.

وقال مهند الحاج علي، من مركز "كارنيغي" للشرق الأوسط، إن عرقلة التحقيق قد تفاقم التوترات الطائفية. وأوضح أنه على رغم أن الانفجار قتل لبنانيين من جميع الطوائف، لكن الضرر الأكبر وقع إلى حد كبير في المناطق ذات الأغلبية المسيحية. وطالب البطريرك الماروني بطرس الراعي بالعدالة.

وقال الحاج علي إن "كل المعطيات موجودة" كي تصبح أي اشتباكات في الشوارع أسوأ مما كانت عليه في عام 2021، في ظل فراغ مقعد الرئاسة، واشتداد حدة الخطاب الطائفي، وانهيار العملة، وتولي الناس مهام الأمن بأنفسهم في بعض المناطق.

وأضاف أنه إذا نظمت أسر ضحايا الانفجار ومن يدعمونهم احتجاجاً وأدى إلى اشتباكات أو إصابات أو اعتقالات، فقد يكون ذلك بالتأكيد نقطة انفجار لاضطرابات أوسع.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل