Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موسكو تحتفي بـ"ستانيسلافسكي" المنظر المسرحي الذي أبهر الأميركيين

منهجه ارتبط بـ"فن التجربة" ومحاضراته أسهمت في تعليم مارلون براندو ومارلين مونرو وأعماله حظيت باهتمام ستالين

صورة من العام 1931 تجمع المسؤول السوفياتي أناتولي لاناكارسكي والمخرج قسطنطين ستانسلافسكي والكاتب الإنجليزي جوروج برنارد شو (غيتي)

لم تصرف العمليات القتالية التي تدور على مقربة من حدود روسيا، وما تتسم به من سخونة ودرجة عالية من التوتر على الصعيدين الإقليمي والدولي، الدوائر الثقافية في موسكو عن احتفالاتها بأبرز رموزها في مجالات الأدب والثقافة والفنون، إذ تحتفي موسكو بالذكرى الـ 160 لميلاد قسطنطين ألكسييف (ستانيسلافسكي) أحد أهم رواد الحركة المسرحية العالمية في أواخر القرن الـ 19 ومطلع القرن الـ 20.

وهنا نشير إلى أن اللقب الحقيقي للفنان والمخرج والمنظر المسرحي الروسي العالمي ذائع الصيت قسطنطين ستانيسلافسكي هو "ألكسييف" وليس "ستانيسلافسكي"، الاسم المستعار الذي اختاره مع بداية نشاطه الفني عام 1885، عن أحد الممثلين الهواة ممن لم يكتب لهم الاستمرار طويلاً في عالم الفنون والتمثيل، ولم يكن قسطنطين ألكسييف تعدى آنذاك من العمر 22 عاماً يوم التحق بفرقة للهواة.

ولد ستانيسلافسكي في موسكو يوم الـ 17 من يناير (كانون ثاني) 1863 لعائلة من كبار رجال الصناعة والتجارة، تتمتع بقدر معقول من الثراء والجاه وتعدد الاتصالات، أما عن عشقه وشغفه بالمسرح والفن والثقافة فثمة من يعزوه وراثياً إلى جدته الفنانة الباريسية الشهيرة ماري فارلي، وذلك ما قاده لاحقاً إلى أن يؤسس مع مجموعة من أقرانه جمعية عشاق الأدب والفن وفرقة للفنون، سرعان ما استطاع تحويلها مع زميله الكاتب المسرحي وأستاذ تعليم أصول التمثيل في معهد الموسيقى والمسرح التابع لجمعية الـ "فلهارمونيا" بموسكو فلاديمير نميروفيتش دانشينكو لتكون أساساً لقيام المسرح الفني في موسكو، أو كما يسميه آخرون "مسرح موسكو للفنون" عام 1899، ولكم أسهم ذلك في اتساع نطاق شهرة القرينين ستانيسلافسكي ونيميروفيتش - دانشينكو التي جابت الآفاق، وتداولت الصحافة الأوروبية ما صار أشبه بالقول المأثور "تخلف الروس عنا في السياسة لكنهم تجاوزونا في الفنون".

وكان ستانيسلافسكي استهل نشاطه الفني ممثلاً مشهوراً سرعان ما جرت مقارنته بعدد من مشاهير المحترفين، اعتباراً من نهاية القرن الـ 19 ومطلع القرن الـ 20، وتقول المصادر الأدبية الروسية إن "أنشطة ستانيسلافسكي خلال العشرينيات والثلاثينيات تم تحديدها في المقام الأول من خلال رغبته في الدفاع عن القيم الفنية التقليدية للفن الروسي على المسرح".

وتناقل النقاد عن ستانيسلافسكي ما قاله حول أن المهمة التي تواجه الفنان يمكن تقديرها على النحو التالي: "يجب أن تسمى المسرحية الروتينية، أي طريقة المشي والتحدث بطريقة أو بأخرى، بخاصة على المسرح، وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي الخلط بين الروتين والظروف اللازمة للمشهد، لأن الأخيرة تتطلب بلا شك شيئاً مميزاً ليس في الحياة، وهذا هو المكان الذي تتمثل فيه المهمة في إعادة الحياة إلى المسرح، وتجاوز الروتين الذي يقتل هذه الحياة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على ظروف المسرح".

نظرية ستانيسلافسكي

ولعل ذلك كان المقدمة لاستنباط ما صار يسمى "منهج" أو "نظرية ستانيسلافسكي" حول طبيعة عمل الممثل المستندة إلى ما يسمى "الأداء الصادق" الذي يقوم بالدرجة الأولى على تقمص الشخصية من خلال الغوص إلى أعماقها النفسية، ومراعاة كل ما يجرى حولها على خشبة المسرح باعتباره أمراً أساساً محورياً يرتبط به كل ما يصدر عن الممثل من هنات أو تحركات.

ومن الأركان الأساس لنظرية ستانيسلافسكي ما رصده النقاد والخبراء من ضرورة ربط الفنان لكل ما يراوده من مشاعر وإحساسات بما يعايش خياله من مقدمات ووقائع، وذلك ما يحتاج الفنان معه إلى أكبر قدر من التماسك النفسي واسترخاء العضلات وهدوء الأعصاب، بعيداً من التوتر وما يسمى الضغوط النفسية الناجمة من مواجهة الحضور أو من يسمونهم بالجمهور، وذلك ما خلص إليه ستانيسلافسكي أساساً لما عرف تحت اسم "قوانين الإبداع المسرحي" التي ارتبطت باسمه كمصلح مسرحي وممثل ومخرج ومدير للمسرح ومبتكر لمنهج التمثيل الشهير الذي يظل يحظى بشعبية كبيرة في روسيا والعالم لما يزيد على 100 عام.

وكان ستانيسلافسكي أودع مفردات ما أنجزه على الصعيدين العملي والنظري سيرته الذاتية التي اختار لها عنوان "حياتي في الفن"، وهو الكتاب الأشهر ضمن سلسلة إبداعات ستانيسلافسكي. ومن اللافت في هذا الصدد أن صدور هذه السيرة الذاتية جاء بمبادرة من الأميركيين ممن تابعوا بكثير من الاهتمام والإعجاب رحلته مع فرقته المسرحية إلى أوروبا والولايات المتحدة خلال عشرينيات القرن الماضي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويذكر كثيرون أن هذه الجولة الفنية التي جرت خلال الفترة من 1922 إلى 1923 أبهرت الفنانين الأميركيين وأسهمت في سطوع نجم ستانيسلافسكي والترويج لأفكاره وما توصل إليه من أحكام وما ألقاه من محاضرات وأجراه من لقاءات، أسفرت في نهاية المطاف عن افتتاح مسرح "المختبر الأميركي" و"أستوديو الممثل" الذي تخرج منه كثيرون، ومنهم مارلون براندو روبرت دي نيرو، بل وتقول المصادر إن مارلين مونرو كانت ضمن من تلقوا تدريبات بين أروقتهما.

ومما يقال في شأن "منهج ستانيسلافسكي"، وبحسب نقاد ومراقبين، فإنه "يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفن التجربة الذي اعتبره أسمى أشكال التعبير عن مبادئ الواقعية المسرحية والأخلاقيات العالية"، وذلك ما أودعه ستانيسلافسكي رؤيته لدى إخراج كثير من أعمال ماكسيم غوركي الذي ارتبط معه بعلاقة صداقة قوية، وأخرج عدداً من أعماله ومنها "في الحضيض"، إلى جانب أنطون تشيخوف الذي نجح في إخراج عدد من روائعه ومنها "الخال فانيا" و"الشقيقات الثلاث" و"بستان الكرز".

تجلت موهبة ستانيسلافسكي التمثيلية الرائعة في كثير من أعماله، فيما تباينت بين أداء عدد من الأدوار التي تراوحت بين الكوميديا والدراما لينتقل من الممثل إلى المخرج، وما أعقب ذلك من أدوار في جمعية الفن والأدب، وقد توصل المسرحي الروسي الكبير خلال عمليات البحث هذه إلى اكتشاف وتعريف قوانين الإبداع المسرحي والمعروفة باسم "نظام ستانيسلافسكي" أو "نظرية ستانيسلافسكي".

ووضعت "نظرية ستانيسلافسكي" قوانين محورية في طبيعة عمل الممثل وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بفن التجربة الذي اعتبره أسمى تعبير عن مبادئ الواقعية المسرحية، بحسب ما خلص بعض نقاده ومتابعيه، فضلاً عما أراده للفن من "ضرورة تجاوزه لكونه عنصراً من عناصر الترفيه إلى توخي الدقة في العرض والاستناد إلى الأداء الصحيح الخالي من التقاليد المثقلة لوظيفة المسرح، باعتباره فضاء واقعياً تتحرك فيه شخصيات واقعية"، مما أسهم وإلى حد كبير في توثيق علاقة ستانيسلافسكي بالكرملين وساكنه ستالين.

ومن الطرائف التي جمعت اسم ستانيسلافسكي مع اسمي زعيمي ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية عام 1917 لينين وستالين، قصة تقول إن أحد فناني مسرح مالي الصغير المجاور لمسرح الـ "بولشوي" أي الكبير، كان يدعي ميخائيل فرانتسيفيتش لينين، ومعروف بأنه نال كثيراً من شهرته بدأبه على نشر إعلانات صحافية تقول "من فضلك لا تخلط بيني وبين مغامر سياسي يحمل اسماً مستعاراً"، وذات يوم دهم رسول مكتب ستانيسلافسكي وهو يصيح "مصيبة، كارثة، لينين مات"، وما إن أصابت الدهشة والذعر كثيرين من عمال وفناني المسرح حتى أفاق ستانيسلافسكي ليتساءل "من؟ هل مات ميخائيل فرانتسيفيتش؟"، ليجيء الرد عاجلاً "كلا إنه فلاديمير لينين".

علاقته مع ستالين

أما عن علاقة ستانيسلافسكي مع ستالين فثمة من يعزوها إلى أن الزعيم السوفياتي كان من أوائل من أدركوا "ماهية السلاح الأيديولوجي القوي الذي يمكن صناعته باستخدام نظام ستانيسلافسكي"، ومن هنا فقد حرص ستالين على متابعة نشاط "مسرح موسكو للفنون" الذي أصبح في عام 1920 "المسرح الأكاديمي للفنون" في موسكو، مما أكد لاحقاً مكانته الخاصة.

ومن هنا حظي ستانيسلافسكي باهتمام مميز من جانب السلطات السوفياتية التي منحته أعلى أوسمة الدولة، ومنها "وسام لينين" ووسام "الراية الحمراء للعمل"، إلى جانب لقب "فنان الشعب لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية" وجائزة "ستالين" التقديرية.

ومن اللافت أن برنامج هذا المسرح وما يقدمه من أعمال فنية كثيراً ما جرت مناقشتها في اجتماعات المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، بل وحظيت باهتمام خاص من جانب ستالين الذي حرص على مشاهدة كثير منها.

أما عن الأسباب فهناك من يقول إن "ستالين كان بحاجة إلى تقنيات إنسانية للسيطرة على الجماهير متدنية التعليم ممن جرى محو أميتهم"، ومن ثم فقد حرص على متابعة كثير من الفعاليات الثقافية والمستجدات الأدبية تأكيداً على حاجة الدولة إلى بنية تحتية ثقافية واسعة النطاق تعتمد الواقعية الاشتراكية نبراساً يستند في كثير من جوانبه إلى ما يطرحه ستانيسلافسكي من أفكار ونظريات، ولكم كان غريباً أن تتلقف السلطات الأميركية هذه المعطيات لتطوير السينما والمسرح والموسيقي في الولايات المتحدة، مما أسهم إلى حد كبير في الحد من آثار الكساد الضخم الذي واجهته عام 1932.

وتقول المصادر الروسية إن نظرية ستانيسلافسكي وما طرحه من أفكار قال إنها "تصلح لكل زمان ومكان" أسهمت بدرجة كبيرة في "حل مشكلتين في وقت واحد لطالما واجهتا الأوساط الفنية في الولايات المتحدة، وهما إنقاذ الممثلين العاطلين من العمل وتحسين الحال المزاجية للمشاهدين الأميركيين". وأضافت أنه تم فهم المهمة الخارقة على أنها رغبة البطل في النجاح من أجل الحلم الأميركي، بما يصدق معه ما كتبه ستانيسلافسكي في دفتر ملاحظاته "نظامي لجميع الأمم"، وذلك ما يواصل المسرحيون تأكيده أينما ووقتما كانوا.

المزيد من ثقافة