Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حياتي في الفن" لستانسلافسكي يروي الحكاية التي أعجبت ستالين

يوم انطلق التمثيل المسرحي من موسكو ليغزو العالم

صورة من العام 1931 تجمع المسؤول السوفياتي أناتولي لاناكارسكي والمخرج قسطنطين ستانسلافسكي والكاتب الإنجليزي جوروج برنارد شو (غيتي)

في ذلك الحين كان رجل المسرح الروسي قسطنطين ستانسلافسكي أسطورة حقيقية في عالم الفن على صعيد العالم كله، ومن هنا كان طبيعياً حين قام الرجل مع فرقته، "مسرح الفن" بأول جولة له في الولايات المتحدة، أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، أن يستقبله المعنيون بكل حماسة بل حتى أن تطلب منه دار نشر كبيرة هناك أن يكتب سيرته، مع أن سنوات كثيرة للعيش والعمل كانت أمامه. يومها وافق ووعد بأن يصلهم الكتاب خلال فترة قصيرة. وهكذا كان حيث وفى الفنان بوعده ما جعل "سيرته" هذه تترجم وتنشر بالإنجليزية قبل نشرها بالروسية بسنوات. ولا بد من الإشارة إلى أن الكتاب الذي عنونه صاحبه "حياتي في الفن" قد لقي من النجاح والترحيب لدى قراء الإنجليزية في أميركا وغيرها ما يوازي النجاح الذي كان من نصيب مؤلفات صاحبه الأساسية الأخرى مثل "فن الممثل" الذي أسس قواعد هذا الفن التي لا تزال سائدة ومعمولاً بها حتى اليوم بحيث، حين يراد الإشارة إلى تفوق فنان ما، في أيّ مكان في العالم، يُذكر أنه من متابعي "المنهج" الذي جاء به ستانسلافسكي، ولا سيما في أميركا حيث سيكون التبني الأكبر لذلك المنهج ولا سيما بين مرتادي "ستديو الممثل" الذي أسّسه لي ستراسبرغ، وسيكون من بين كبار تلامذته مارلون براندو وبول نيومان ومارلين مونرو وغيرهم من كبار الكبار في عالم التمثيل، المسرحي والسينمائي.

الحكاية من الداخل

كل هذا معروف وعلى نطاق واسع، غير أن ما كان معروفاً أقل إنما هي حياة الرجل الذي أسّس ذلك كله، وكيف تمكن من ذلك أي كيف تمكن من إحداث تلك الثورة الفنية التي لا تزال مفاعيلها حاضرة حتى اليوم... وهكذا قُيّض للسؤال الأساسي أن يصبح منذ ظهور "حياتي في الفن" للمرة الأولى عام 1924 واضح الجواب.

قسم ستانسلافسكي سيرته إلى أربعة أقسام تبعاً لمراحل عمره المتتالية حتى ذلك الحين معطياً إياها عناوين غاية في الخطّية: طفولة فنية – مراهقة فنية – شباب فني – وأخيراً نضج فني. وكان في إمكانه على أية حال أن يتابع سابراً أغوار المراحل التالية من عمره لو أنه أخّر وضع الكتاب بضع سنوات أخرى أي حتى كهولته هو الذي رحل في العام 1938. ومهما يكن فإن هذا الفنان الذي كان يعتبر ذا شباب دائم، حين وضع الكتاب كان يقترب من الستين من عمره ويعتبر واحداً من كبار رجال المسرح في العالم، هو الذي تمكن من الحفاظ على مكانة مسرحه في موسكو، كما حصّن تجديداته. وهذا ما يرويه لنا على أية حال في هذا الكتاب البديع الذي يرافق فيه سيرته منذ طفولته وتفاعله مع الحياة العائلية التي لم تبخل عليه بزيارات متكررة إلى السيرك والأوبرا والمسرح ما رسّخ لديه لاحقاً تلك العلاقة التي قامت بينه وبين كل فنون الفرجة. أما إضافاته فتدين بالكثير إلى متابعته عن كثب كل تلك التجديدات التي أتى بها مسرح تشيخوف بخاصة إلى الإبداع المسرحي، وإلى الجدية الهائلة التي تعاطى بها "مسرح الفن" في موسكو مع الفن المسرحي. ونعرف طبعاً أن مسرح الفن هذا كان هو الجامع بينه وبين تشيخوف، كما كان محركه الأساس، إنطلاقاً من تشيخوف نفسه، إلى العودة إلى داخل الشخصيات المسرحية وربطها بروح المؤدين وجوّانيتهم بأكثر حتى من ربطها ببرّانيتهم وحركاتهم المسرحية.

كل تلك الأحداث الكبيرة
ونعرف أن هذا كلّه، والذي يرويه ستانسلافسكي بالتفصيل في "حياتي في الفن"، كان معروفاً إلى حدّ كبير وقد تذكره الكثيرون يوم مات عام 1938، رغم أن الزمن كان حافلاً بالمشاكل والمحاكمات والتصفيات في موسكو، حيث عاش ومات. أما في العالم الأوروبي كله حيث كانت شهرته قد طبقت الآفاق، فكان حافلاً بالأحداث الجسام التي من شأنها أن تجعل موت فنان حدثاً عارضاً لا يثير انتباه أحد. لكن مؤسس مسرح الفن في موسكو، وواضع الكتابين الشهيرين "إعداد الممثل" و"بناء الشخصية" لم يكن فنان مسرح من النوع العادي، بل كان المنظّر الرئيسي لدخول الحياة نفسها إلى المسرح، وتحويل الممثل إلى كتلة من أعصاب ومشاعر فيما يؤدي الدور المنوط به. وحسبنا أن نتأمل في أداء كل أولئك الفنانين الذين أُنشئوا نشأة مسرحية قبل أن يفرضوا على السينما الأميركية الحضور الصاخب والحيوي للممثل بديلاً عن الحضور المدوّي للنجم، وأن نتأمل أداءهم حتى نقتنع بأن معلمهم ومعلم أجيال المسرحيين كان حقاً صاحب ثورة كبيرة في قرننا العشرين هذا: ثورة فنية حقيقية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طفولة "بورجوازية"
ومع هذا لم يكن ثمة في طفولة ابن الصناعيين الارستقراطي هذا، والمولود في العام 1863، ما ينم عن أن المسرح سيكون مساره ومصيره، بل إن هذا ما يرويه لنا بنفسه في صفحات "حياتي في الفن". لقد كان صاحب اتجاهات فنية تعبيرية واضحة منذ صغره. هذا صحيح، ولكن من المؤكد أن ليبرالية أبيه واصطخاب موسكو في ذلك الحين بعصر ذهبي فني، وفشل قسطنطين الصغير في دراسته، أتت كلها لتساهم في دفع عائلته إلى تطوير أحاسيسه الفنية، فكان له مسرح هواة صغير أنفق عليه والده، ثم مسرح هواة كبير كلف العائلة أموالاً طائلة لكنه كشف عن مواهب الفتى وعشقه لفن التمثيل، وإصراره على انتماء الممثل إلى الحياة وعلى ضرورة تعبيره عن نوازعه الداخليه وعواطفه وأحاسيسه وكأنه في قلب الحياة نفسها.
يقيناً إن ستانسلافسكي لم يكن أول من فكر بهذا، فالفرنسيون كانوا قد سبقوه إليه، من لوسيان غيتري، إلى بارون، ولكن بخاصة عن طريق الفيلسوف ديدرو الذي أبدى بفن المسرح اهتماماً خاصاً. غير أن الموسكوفي الشاب عرف كيف يقنن الاتجاه ويعطيه أبعاده النظرية، لا سيما ابتداء من 1897 حين أسس "مسرح الفن" الذي طفق منذ ذلك الحين يقدم المسرحيات الواقعية التي كان يكتبها تولستوي وأوستروفسكي وغوركي وبولغاكوف، لكن بخاصة أنطون تشيخوف الذي ارتبط اسمه باسم "مسرح الفن" وباسم ستانسلافسكي ارتباطاً حاسماً جعل اسمه واحداً من أكثر الأساء ذكراً في "حياتي في الفن".

كأنهم في دير
عبر "مسرح الفن" الموسكوفي إذاً، راح ستانسلافسكي يقود المسيرة، بنظراته الثاقبة ومظهره الأرستقراطي وصرامته أيضاً: فهو كان أول مخرج يجبر ممثليه على حفظ أدوارهم وتجربتها طوال شهور طويلة قبل العرض، وكان يفرض عليهم امتثالاً صارماً: لا خمور، ولا مغازلات خلال العمل على أي مسرحية من المسرحيات، كما أنه من الممنوع عليهم أن يتحدثوا طوال العمل في أي شأن آخر غير شؤون المسرحية، ومن يخالف يعاقب. وبحسب توصيفات الكاتب يبدو "مسرح الفن" أشبه بالانتماء إلى دير. ومن الواضح أن الواقعية التي طبعت عمل ستانيسلافسكي كانت سبب إعجاب ستالين به بعد قيام الثورة، وبخاصة منذ وصول هذا الأخير إلى الحكم. وهذا الإعجاب خلّص ستانسلافسكي ومسرحه من العديد من المآزق، وهو الذي كان "الواقع" يمثل بالنسبة إليه العواطف والأحاسيس الداخلية ويفرض على ممثليه أن تنفجر دواخلهم فوق الخشبة، بينما كان الواقع بالنسبة إلى النظام، الحياة الخارجي والبطل الإيجابي وما إلى ذلك.
المهم أن ستانيسلافسكي عرف كيف يبقى ويستمر على رغم كل التقلبات من حوله، وعرفت أساليبه وأفكاره واجتهاداته كيف تفرض حضورها، وتظل حتى يومنا هذا، دليل عمل للفنانين الكبار الذين عرفوا بفضله كيف يعصرون دواخلهم ويجعلون الحياة تنطلق منها متفجرة عنيفة متقلبة أي حقيقية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة