Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"رغيف العيش" في مصر... مقياس القلق

التاريخ يقول إن الخبز سلعة استراتيجية بالغة الحساسية ولديها القدرة على الإشعال الذاتي

المصريون يستهلكون 100 مليار رغيف خبز سنوياً، والمخابز تنتج 275 مليوناً في اليوم، والمستفيدون من دعم الخبز 72 مليون مواطن (أ ف ب)

الأخبار المنشورة  في مصر هذه الأيام عن "رغيف العيش" (الخبز) مصحوبة بصور أرشيفية تبدو وكأنها تاريخية.

يتأمل القارئ الصورة ويخضعها لعمليات الـ "زووم إن" ثم الـ "زووم آوت"، يتأمل الرغيف الذي تحمله فتاة صغيرة أو يأكله شاب يافع أو ينقله أب على جزء من قفص متهالك، ويقول لنفسه "ياااه! سبحان الذي يغير ولا يتغير".

يغير ولا يتغير

تغير الرغيف كثيراً، يقولون إن التغيير سنة الحياة وضمان الاستمرار، لكن كثيراً ما يأتي التغيير بما لا يشتهي آكل الرغيف، وفي مصر يقبع الرغيف في مكانة نفسية وعصبية وغذائية واجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية تختلف تماماً عن غيرها من الدول، ويكفي أن عبارات مثل "رغيف العيش" و"أكل العيش" و"بيننا عيش وملح" و"انقطع أكل عيشه"، وأمثلة مثل "الجوعان يحلم بسوق العيش" و"اللي معاه عيش يتعفرت على الجبن" و"اعزم وأكرم وأكل العيش نصيب"، ليست مجرد عبارات متداول وأمثلة تراثية بقدر ما تعكس قدراً معتبراً من مكانة "العيش" في حياة المصريين.

المصريون يستهلكون 100 مليار رغيف خبز سنوياً، والمخابز تنتج 275 مليون رغيف يومياً، والمستفيدون من منظومة دعم الخبز 72 مليون مصري ومصرية. ودعم الخبز يكلف الدولة 90 مليار جنيه (نحو ثلاثة مليارات دولار) من مجموع 150 مليار جنيه (خمسة مليارات دولار) قيمة دعم منظومة السلع التموينية سنوياً.

تجهم وتعكر

بعض المصريين يتجهم ويتعكر صفو مزاجه حين تطرح الحكومة أرقاماً تتعلق بكم رغيف يأكله المواطنون، فهناك من يعتبرها حسداً لما يأكلون وإحصاء لما يحتاجون، ويستهجنون ذلك بقولهم "تعدون علينا اللقمة؟"، وآخرون يعتبرون توفير أرغفة الخبز سواء كانت مليار رغيف أو 100 مليار أو حتى تريليوناً أو ترييليونين، واجباً بديهياً من واجبات الحكومة، أي حكومة.

المسؤول الحكومي مساعد وزير التموين والتجارة الداخلية إبراهيم عشماوي حين أعاد طرح أرقام الأرغفة وقيمة الدعم ومعدل الإنتاج قبل أيام، مضيفاً عبارة "لا مس بسعر الرغيف الآن"، دفع المتشككين دائماً والمتخوفين على طول الخط والمستشعرين زيادة الأسعار تلقائياً مع كل تأكيد على أنه "لا مس" إلى التكهن بما قد يتعرض له رغيفهم العزيز في المستقبل القريب.

سلعة استراتيجية

المستقبل القريب يرتكز على الحاضر ولا ينفصل عن التاريخ، والتاريخ يقول إن رغيف العيش سلعة استراتيجية بالغة الحساسية تتأثر وتؤثر في البيئة المحيطة ولديها القدرة على الإشعال الذاتي وكذا الإطفاء الذاتي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قبل 46 عاماً بالتمام والكمال وفي مثل هذه الأيام من يناير (كانون الثاني) عام 1977، أشعلت نيات الحكومة زيادة أسعار مجموعة من السلع، ومن بينها الخبز، تظاهرات احتجاجية عمت أرجاء البلاد، وقبلها بيوم خرجت الصحف الرئيسة تبشر المواطنين بقرار صرف علاوة إضافية لجميع العاملين بنسبة 10 في المئة.

مرت بضع ساعات من الفرحة الشعبية الغامرة قبل أن تخرج عناوين صحف اليوم التالي لتعلن زيادة في أسعار عدد من السلع من بينها العيش "الفينو" (الأبيض) والسكر والشاي والرز وغيرها.

وعلى رغم أن "العيش الفينو" طالما اعتبر رغيف المقتدرين في مقابل "العيش البلدي" رغيف الجميع، فإن كلمتي "عيش" و"زيادة" في جملة مفيدة كانتا كفيلتين بإشعال ما سمي وقتها بـ "انتفاضة الخبز"، وفي أقوال أخرى "ثورة الجياع"، وفي قول ثالث ظلت "انتفاضة الحرامية" في عرف الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وقد ظل السادات حتى رحيله معتقداً أن من أشعل الاحتجاجات هم الشيوعيون والناصريون.

جلسة ناصرية

الناصريون يحلو لهم أن يجتروا مكانة الخبز في أيديولوجيا الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وفي خطابه الإعلامي الشعبي، إذ نص "الميثاق" على أن "حرية رغيف الخبز ضمان لا بد منه لحرية بطاقة الانتخابات"، ولا تخلو جلسة ناصرية من حكي قصة الحقيبة التي حملها عبدالناصر ذات مرة إلى اجتماع الحكومة، وأخذ يخرج منها أرغفة الخبز البلدي وهو غاضب، ويخبر الحاضرين من أعضاء الحكومة أن هذه الأرغفة تم إحضارها من مناطق عدة، ثم وجه كلامه إلى وزير التموين كمال رمزي سائلاً إياه باستنكار "هل تقدر أن تأكل هذا العيش؟" (في دلالة على تدني جودته). وحين أجاب رمزي بالنفي أخبره الرئيس أنه سيمنحه مهلة 72 ساعة لتحسين الخبز "وإلا سيكون حسابي شديداً".

 

شدة الحساب، سواء الحكومي أو الشعبي، شديدة الارتباط برغيف العيش، وهذا مؤكد، لكن ما هو غير مؤكد هو نوع الحساب ومعاييره، وهذه الأيام يمر رغيف العيش المصري بمرحلة جديدة من مراحل التغيير التي اعتاد خوضها على مر التاريخ. معالم التغيير فيها كثير من الغموض، وفي أقوال أخرى الالتباس، وفي ثالثة الاستنباط.

في علم الاستنباط يتدرب العقل البشري على الانتقال من قضية أو قضايا عدة إلى قضية أخرى تكون بمثابة النتيجة وفقاً لقواعد المنطق، وقواعد المنطق تقول إن العالم في أزمة، وإن الأزمة التي لاحت ملامحها عقب هجمة "كوفيد-19" الشرسة وتوقف بعض أكبر مصدري القمح في العالم عن تصديره تحسباً لما ستؤول إليه الأوضاع، ثم تفاقمت معالمها مع بدء حرب روسيا في أوكرانيا (تحتل الدولتان المكانة الأولى والخامسة على قائمة أكبر مصدري القمح) فلحق مزيد من الضرر والاضطراب بسلاسل توريد السلع وعلى رأسها القمح، ثم ضربت مصر أزمة اقتصادية ثلاثية الأبعاد، تضخم ومديونية ونقص في العملة الصعبة، ولأن الغالبية المطلقة من المصريين باختلاف فئاتهم وانتماءاتهم على علم بما يجري في العالم من جهة وفي بلدهم من جهة أخرى، فإن الجميع لا يسعه إلا الربط بين التحركات الجارية حالياً في ملف رغيف العيش وبين كل ما سبق.

الرغيف وأزماته

سبق أن مر رغيف العيش بعشرات المعضلات وواجهته مئات المشكلات وهددته آلاف العراقيل، ولا يمر عام من دون أن يطرح الرغيف نفسه عنواناً رئيساً في نشرة أخبار أو موضوعاً حيوياً في برنامج تلفزيوني أو قضية مصيرية في نقاش على محطة باص أو موقف ميكروباص.

حديث ركاب الميكروباص لا يتطرق بالضرورة إلى توثيق قيام المصري القديم قبل 5800 عام بصناعة الخبز في عصور ما قبل الأسرات من "الإيمر"، وهي فصيلة من القمح منخفضة الغلوتين، ومعظمهم لا يعي أن أجداده وجداته ابتكروا معدات حجرة خصيصاً لطحن حبوب القمح، وأنهم توصلوا إلى مزج الدقيق بالماء وتركه ليخمر باستخدام الخميرة الطبيعية، وربما لا يعرفون أن الخبز "الشمسي" الذي يعودون محملين به بعد زيارة للأهل في القرية التي نزحوا منها هو في الأصل خبز مصري قديم، لكنهم يعرفون أن كلمتي الدعم والخبز وجهان لعملة سياسية وأمنية واجتماعية واحدة.

ما قاله وزير التموين والتجارة الداخلية علي المصيلحي قبل أيام عن رغيف العيش المدعوم خلف أثراً يسمونه "الألم الكاذب".

يتوجه المريض إلى عيادة الطبيب وهو يشكو ألماً في البطن، لكنه يخشى عملية الكشف، ويخيل إليه أن أي ضغطة من يد الطبيب ستزيد من ألمه، لذا يحتاط مسبقاً، وما إن يرى يد الطبيب تقترب من جسده وقبل أن تلمسه حتى يبدأ في التأوه.

تأوهات شعبية

قال المصيلحي أن وزارته تدرس تحويل أرغفة الخبز التي تصرف ضمن نظام الدعم للفئات المستحقة إلى دعم نقدي بعد استقرار العملة وهبوط التضخم، وأضاف أن الفكرة تمت مناقشتها في مجلس النواب (البرلمان) "لكن تنفيذها ليس مناسباً الآن"، وهنا انطلقت التأوهات الشعبية والآهات الاجتماعية والانتحابات الشارعية متوقعة ضياع الرغيف وتبدد اللقمة.

 

التاريخ المعاصر يقول إن التطرق الحكومي إلى رغيف العيش، تمليحاً أو تصريحاً، يهيج مخاوف الشارع ويؤجج قرون استشعار الخطر واستشراف الوجل، لكن وزير التموين مضى قدماً في حديثه عن الفكرة قائلاً إن نسبة التضخم المرتفعة الحالية لن تسمح بعمل أية تغييرات في قيمة الدعم أو شكله، وكل جهات الدولة تتعاون من أجل تخفيف أثر التضخم على المواطن، لكن ما بدا أنه طمأنة تحول بقدرة قادرة وبخبرة مواطن وعقدة متضرر إلى تكهن بزيادة في السعر أو تقزم في الحجم أو تقلص للدعم أو كل ما سبق.

محاولات متعاقبة

سبق أن حاولت حكومات متعاقبة على مدار ثلاثة عقود من حكم الرئيس السابق الراحل حسني مبارك الاقتراب من ملف الدعم، تارة بإخضاع منظومة الدعم للكشف والبحث لمعرفة مواطن المرض، وأخرى بالدراسة والتطبيق على نطاق ضيق على سبيل التجربة لعل دواء الدعم النقدي بديلاً عن العيني يخفف من الأعراض، وثالثة بحساب منافع إصلاح الدعم في مقابل أضرار المساس به والوصول إلى نتيجة مزمنة قوامها التأجيل لحين إشعار آخر.

ويبدو أن الإشعار الآخر طال انتظاره ونفد صبره أو كاد، وتفجرت مواطن ضعفه مع تفاقم الأزمات فخارت قواه وطرح نفسه على المائدة على رغم أنف أمن الرغيف القومي وقدرته على الاحتواء في عز الأزمات.

الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية تحالفت مع أبعادها المحلية في مصر، وبدأت تحوم في المجال الجوي لرغيف العيش، ورغيف الخبز يظل حائط صد نفسياً سلباً أو إيجاباً، والمثير أن حديث الرغيف هذه الآونة يشغل الجميع سواء أولئك المشمولين بمنظومة الدعم ومن بينها الخبز أو المصنفين "قادرين"، ومن ثم يشترونه من المخابز السياحية بأسعار أعلى أو حتى أولئك الذين يعانون حساسية القمح، فلا يأكلون الخبز أو يتبعون حمية قاسية لا وجود للخبز فيها.

مسّ في الأفق

لكن وجود الخبز في الطرح الحكومي الرسمي اليومي، وتطرق برامج التلفزيون إلى كيانه ومنظومته وتحوله "ترنداً" و "وسماً" على أثير الـ "سوشيال ميديا" جميعها مؤشرات تعني أن مساً ما برغيف العيش يلوح في الأفق.

والأفق هذه المرة يتأرجح بين رغيف العيش المدعوم وغير المدعوم، أي مستحقي دعم الخبز (نحو 72 مليون مصري) وغير المستحقين (نحو 32 مليوناً) وذلك عبر بطاقة شحن، فقد أعلن وزير التموين علي المصيلحي اعتزام الحكومة البدء في بيع الخبز بسعر الكلفة للمواطنين ممن لا تشملهم منظومة الدعم، وذلك ضمن جهود الحكومة لمواجهة التضخم.

وبحسب ما صرح به فإن المواطنين غير المشمولين بالدعم سينتشرون رغيف الخبز زنة 90 غراماً بسعر الكلفة الذي يتوقع أن يكون أقل من جنيه مصري واحد، لكن السعر لم يتحدد بعد، والهدف من ذلك بحسب المصيلحي هو "إتاحة هذه السلعة المهمة من دون مبالغة في المكسب".

تكليل الجهود

قد تكلل محاولات الحكومة لتقليص المبالغة في المكسب بالنجاح، لكن المبالغة في المخاوف والإفراط في رسم سيناريوهات الضوائق والكوارث والفجائع الدائرة رحاها شعبياً لن تداويها إلا الانفراجات الحقيقية والحلول الكلية والمصارحات الفعلية.

وفعلياً الناس لا تزال تأكل العيش، ولا يزال مستحقو دعم الخبز يحصلون عليه، ولا يزال غير المستحقين يشترونه من المخابز السياحية، وفعلياً بعض المخابز تنتج كميات أقل من المعدل اليومي لأسباب متغيرة، ومخابز أخرى تتلاعب في وزن الرغيف ومواصفاته، وهو تلاعب مزمن لا علاقة مباشرة له بالأزمة إلا الرغبة في مضاعفة المكسب، وفعلياً أيضاً لا تزال آفة سوء استخدام الخبز المدعم مستمرة.

تأجيل التوبيخ

عدم الحديث العلني عن إهدار الملايين من أرغفة الخبز المدعم على أيدي مستحقين لا يعني أن الإهدار توقف، فلا يزال مستفيدون من الخبز المدعم يستخدمون جانباً غير قليل من أنصبتهم من الأرغفة الفائضة عن حاجاتهم البيتية إلى إطعام ماشيتهم، إذ إن سعر الخبز المدعم أرخص من العلف الحيواني والداجني ومنهم من يبيع الفائض بالكيلو ومن يصنع منه مشروب "البوظة" الشعبي، أرقام غير رسمية تشير إلى أن نسبة الإهدار من قبل المستفيدين بالخبز المدعم تتراوح بين 25 و35 في المئة من إجمال إنتاجه.

 

لكن التوقيت في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الراهنة ليس مناسباً للوم المسيئ أو توبيخ الملتوي أو محاسبة المنتفع أو المتسلق أو الصائد في المياه العكرة.

وكما جرى عرف السنوات القليلة الماضية فإن جهود فريق الصائدين في مياه الأزمات العكرة جلية واضحة في هذه الآونة.

حسابات وصفحات وتغريدات وتدوينات تصور رغيف العيش وكأنه خرج ولم يعد، وجموع المصريين وكأنهم يتضورون جوعاً ويتوعدون غضباً، والمخابز وكأنها فارغة ولا تخلو الجهود المبذولة على أثير الـ "سوشيال ميديا" من تذييلة هنا بأن "وعد الله حق"، و"أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" وأن "الإسلام هو الحل" مع تأكيدات صارمة أن المغردين والمدونين مواطنون مصريون قرصهم الجوع ولدغهم الفقر وأوجعهم الغلاء، وأنه لا علاقة بينهم من قريب أو بعيد بجماعة إخوانية هنا أو مجموعة متعاطفة هناك.

حديث المخابز

هناك في المخابز التي تبيع الخبز المدعم أو السياحي أحاديث لا أول لها أو آخر، وعلى وقع رائحة الخبز الساخن وإن تأثرت استدارته بالأحداث وجودته بالمجريات، يتكهن بعضهم بما سيجري في الأيام القليلة المقبلة من قرارات تمهد لها تصريحات الخبز الرسمية، ويتندر آخرون على الرغيف الحائر بين الأنظمة السياسية، ومثار الشد والجذب بين أنصار الرئيس السيسي ومعارضيه، والباحث عن "حشو" مناسب للظروف الراهنة، إذ يبقى في نهاية الأمر شاطراً ومشطوراً من دون شرط الطازج".

المزيد من تحقيقات ومطولات