Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائية مارغريت سكستون تكشف عن الوجه المعتم لأميركا

"البصيرات" مرافعة بصوتين نسائيين ضد عنصرية وطنها المزمنة

مشهد من التفرقة العنصرية في أميركا القرن التاسع عشر (موقع دي إن إي المجاني)

منذ روايتها الأولى "قليل من الحرية" (2017)، تمكنت الكاتبة الأميركية مارغريت ويلكرسون سكستون من إثبات مهارات سردية وكتابية كادت تحصد عليها "جائرة الكتاب الوطنية" العريقة في وطنها. وها هي تعيد الكرة في روايتها الثانية "البصيرات" (2020) التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود" بعنوان "الآنسة جوزيفين"، وتصف فيها بمعرفة تطور العنصرية والعلاقات بين ذوي البشرة السوداء وذوي البشرة البيضاء في أميركا، عبر تركيزها على ثلاث حقب تاريخية (1855، 1924، 2017) وحياة امرأتين من عائلة واحدة، جوزيفين وآفا.

جوزيفين ولدت في منتصف القرن التاسع عشر لأب وأم من "العبيد"، وعملت منذ نعومة أظافرها في مزرعة لعائلة بيضاء داخل ولاية لويزيانا. ومثل أمها التي كانت تملك قدرات خارقة، تتجلى باكراً قدرتها على تحقيق الرؤى التي تتخيلها. نعمة لن تلطف طفولتها الصعبة، كما لن تكون السبب في تمكنها لاحقاً مع زوجها من التحرر من العبودية ومن شراء المزرعة التي كانت تعمل فيها، لكنها تفسر قدرتها على التغلب على عقم النساء اللاتي كن يقصدنها، وأيضاً لماذا "كان الناس يأتون إلى من كل حدب كي أريحهم مما يعتمل داخلهم".

عام 1924، نرى جوزيفين، وقد باتت أماً وجدة تعيش وحدها، بعد وفاة زوجها وتولي ابنها أمور مزرعتها، وتختبر مجدداً اصطدام عالمها بعالم ذوي البشرة البيضاء، حين تطرق جارتها العاقر يوماً باب دارها وتسعى إلى إقامة علاقة صداقة معها. علاقة مغرية، نظراً إلى عزلتها، لكنها مشوبة بالخطر. ففي العام المذكور، كانت منظمة "كو كلوكس كلان" العنصرية الإرهابية ناشطة في المنطقة، وزوج هذه الجارة البيضاء عضواً فيها.

ذكريات حميمة

علاقة جوزيفين بهذه الجارة هي التي تستحضر إلى ذهنها ذكريات صداقتها الحميمة والمؤثرة، خلال طفولتها، مع الآنسة سالي، ابنة أصحاب المزرعة التي كانت تعمل فيها، ومآلها القاتم، وهو ما تنقله لحفيدها مع الحكايات التي ترويها له في المساء، حين يأتي للنوم في دارها. حكايات مشبعة بثقافة "العبيد" الغوطية (Southern Gothic) وأناشيدهم الروحية، وتشكل كماً من التحذيرات له من مخاطر الاحتكاك بذوي البشرة البيضاء.

لجوزيفين أيضاً حفيدة تدعى لوسيل، لكن لا دور لها في الرواية سوى نقلنا إلى عام 2017 حيث تعيش حفيدتها غلاديس، وهي امرأة في سن الـ58 وأم لشابة تدعى آفا، أنجبتها من علاقة مع شاب أبيض ينتمي إلى البورجوازية الثرية لمدينة نيو أورلينز. غلاديس كانت محامية قبل أن تختار أن تكون "دولا"، أي امرأة تقدم دعماً غير طبي للنساء الحوامل. ولأنها مسكونة بروح جدة جدتها جوزيفين وتملك بعضاً من قدراتها، تحذر ابنتها من عائلة والدها الأبيض الذي لم يتعرف إليها، بل غادر أمها فور حبلها منه.

آفا تتجاهل تحذيرات أمها وتحاول مواجهة إرثها المزدوج بمفردها، بموازاة اعتنائها بابنها المراهق كينغ الذي أنجبته من شاب أسود فر بدوره من واجبه كأب، لكن حين تنتقل مع ابنها للعيش مع جدتها البيضاء الثرية مارتا، بغية مد يد المساعدة لهذه العجوز التي بدأت تفقد عقلها، وكسب ما يكفي من المال لبداية جديدة تضمن لها ولابنها مستقبل أفضل، لم تكن تتوقع أن بضعة أسابيع في هذه البيئة الجديدة ستكون كافية لردها إلى ذاكرة جوزيفين ودفعها إلى معانقة روح سلفتها.

الرابط الروحي

وفعلاً، لا يلبث لطف مارتا وكرمها أن يتبددا مع كل عارض خرف ينتابها، لتحل مكانهما عنصرية متأصلة داخل عائلتها منذ أجيال عديدة. وهو ما يقود آفا إلى التقرب من أمها غلاديس ومن استكشاف تلك القدرة الخارقة التي يبدو أنها تنتقل داخل سلالتها من جيل إلى جيل، وذلك تحت أنظار جوزيفين التي لم تغادر صورتها الفوتوغرافية هذه الشابة أبداً.

ولا عجب في ذلك، فأبعد من الرابط الروحي الذي يمتد على مدى عدة أجيال، ومن القصة نفسها التي تتمدد وتتكرر، تجد جوزيفين وآفا نفسيهما منقادتين على حد سواء، كل واحدة في زمنها، إلى ولوج عالم مصغر ليس عالمهما، وإلى رؤية حياتهما تحتك بحياة امرأة بيضاء لا تنظر إلى البشرة السوداء من دون أحكام مسبقة عليها: والدة الآنسة سالي بالنسبة إلى جوزيفين، والجدة مارتا بالنسبة إلى آفا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى هذه القاعدة، تخلق سكستون حواراً ضمنياً بين هاتين المرأتين اللتين ترتبطان بإرثهما الثقافي والروحي، ولكن أيضاً بطبعهما وقوتهما. وقد تبدو آفا أحياناً تائهة، تبحث عن والد مفقود وأم بعيدة، عن رابط عائلي مقطوع تأمل به وتنتظره، لكنها لا تلبث أن تعي أن جذورها عميقة، مرسخة ومتينة، ما إن تتقبلها. ومع ذلك، مثل جوزيفين في زمنها، نراها مقيدة دائماً بلون بشرتها، بماضيها، بإرثها كامرأة سوداء، داخل عالم يشوبه التمييز العنصري. بالتالي، وكما في روايتها الأولى، تستعين سكستون مرة أخرى بقصة تعبر عدة أجيال من عائلة واحدة لتعرية جوهر ما تعانيه ولاية لويزيانا، مسقط رأسها، وأميركا عموماً، عبر تصويرها تلك الاحتكاكات بين العالم الأبيض والعالم الأسود اللذين ما زالا إلى حد اليوم يفشلان في الاختلاط والتعايش لكونهما مثقلين بصدمات الماضي الرهيبة، ووريثي انقسامات ثنائية يتعذر التوفيق بينها.

لكن هذا الموضوع، على رغم مركزيته، لا يختصر "البصيرات" التي هي أيضاً رواية عن نساء وأمهات يسائلن روابط الحب البنوي، مآزقه وجوانبه التي يتعذر فهمها. وفي هذا السياق، تبدو جوزيفين وآفا مدفوعتين بهاجس واحد، هاجس عالم أفضل وأكثر أماناً لأولادها، لكن إرثهما الذي تتسلط عليه صدمات معاشهما، تتحكم به أيضاً قوة شخصيتيهما وحماستهما على الحياة.

ولسرد قصة كل منهما، تلجأ سكستون إليهما كراويتين، فتعتمد مبدأ القفز الثابت بين الماضي والحاضر، وتناوب السرد بين جوزيفين وآفا، الأمر الذي يؤول إلى بنية روائية كان يمكن أن تؤدي إلى تيه القارئ، لكنها في الواقع تفضي إلى عكس ذلك. فبدلاً من ضياعه، تساعده هذه البنية على الانغماس داخل سردية معقدة تختلط داخلها الحقب والأماكن والنساء، ويحضر عبء التاريخ كثابتة يتعذر نسيانها أو تجنبها.

يبقى أن نشير إلى أن الجانب المعتم للرواية لا يجرد خطابها من الأمل، كما لا يمنعها من حمل رسالة إنسانية تختصرها والدة جوزيفين بقولها مراراً لطفلتها: "لا فائدة للكراهية، جوزي. كل ما تسعين إلى الفرار منه، تربطك الكراهية به". وسكستون التي نشأت في نيو أورلينز، لا تعرف فقط عما تتكلم، حين تكتب ذلك، بل تكتبه أيضاً بطريقة رائعة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة