Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استراتيجية العقوبات الأميركية الجديدة

كيف يمكن لواشنطن إيقاف آلة الحرب الروسية وتعزيز النظام الاقتصادي الدولي؟

السفارة الروسية في واشنطن العاصمة، فبراير 2022 (رويترز)

في صباح الأحد، 27 فبراير (شباط)، اجتمعت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين مع مجموعة من كبار مسؤولي الخزانة، بمن فيهم أنا، في غرفة آمنة من أجل مناقشة مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والمالية الاستثنائية ضد الاتحاد الروسي.

قبل أيام قليلة، كانت روسيا قد غزت أوكرانيا، في انتهاك صارخ وعنيف للقانون الدولي. وبتوجيه من الرئيس الأميركي جو بايدن، كانت وزارة الخزانة قد فرضت بالفعل عقوبات حظر كاملة على عدد من أكبر البنوك الروسية، ووضعت ضوابط تصدير على مستوى روسيا على التقنيات الحساسة، وأنزلت عقوبات بعدد من النخب الروسية، وقررت أن أي شركة خدمات مالية روسية يمكن أن تشكل هدفاً لعقوبات إضافية. لكن رداً على العدوان الروسي المتزايد، كان بايدن يدعونا إلى اتخاذ مزيد من الخطوات الرامية إلى حرمان الكرملين من الموارد التي يحتاج إليها من أجل مواصلة حربه غير القانونية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خلال عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت اجتماع يوم الأحد، عملنا مع حلفائنا في آسيا وأوروبا وزملائنا في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي وعلى نطاق الحكومة الأميركية من أجل اتخاذ حزمة جديدة من الإجراءات، على غرار شل أصول البنك المركزي الروسي، وإنشاء فريق عمل دولي للعثور على الأصول الروسية وتجميدها حول العالم، وإزالة المؤسسات المالية الروسية الرئيسة من نظام "سويفت" SWIFT لخدمة الرسائل المالية العالمية.

كان عدد كبير من هذه الخطوات غير مسبوق في نطاقه وحجمه. لكن الأهم من ذلك كان السرعة التي توحد بها هذا الائتلاف الدولي من أجل تلك الإجراءات. في غضون ثلاثة أسابيع من استمرار الغزو الروسي، انضمت أكثر من 30 دولة، بما في ذلك أستراليا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وأعضاء الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع (G7)، إلى الولايات المتحدة من أجل مواجهة العدوان الروسي.

على مدار القرن الـ20، استخدمت الولايات المتحدة بشكل متزايد العقوبات الاقتصادية كأداة أساسية في السياسة الخارجية، عوضاً عن اعتبارها مجرد إجراء داعم

 

الجدير بالذكر أن هناك سبباً وراء دعم كثير من الدول لتلك العقوبات. في الواقع، يعكس النظام الاقتصادي الدولي اليوم البنية المالية القائمة على القواعد التي بنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها جماعياً بعد الحرب العالمية الثانية من أجل تعزيز السلام والازدهار والتكامل الاقتصادي. وقد صُمم هذا النظام لجعل تلك الأهداف تعزز بعضها البعض عن طريق تمكين الدول المشاركة فيه من منع الدول التي تنتهك مبادئه من جني الفوائد منه.

وكانت جهود وزارة الخزانة المبذولة لردع الكرملين والعمل في وقت لاحق على جعل شن أي حرب أمراً صعباً، تعتمد على قدرة الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها على الاستفادة من مواقعهم داخل النظام. وليس من قبيل المصادفة أن الائتلاف يضم مصدري العملات الرئيسة العالمية القابلة للتحويل، ومعظم المراكز المالية الأساسية العالمية، فضلاً عن أكثر من نصف الاقتصاد الدولي.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الجهود تحقق نجاحاً. في الحقيقة، اعتُبرت شجاعة الشعب الأوكراني وعزمه، إضافة إلى عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات الأمنية والاقتصادية التي قدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها، أمراً بالغ الأهمية في دفاع أوكرانيا الشجاع ضد روسيا.

لكن بطريقة موازية، لعبت العقوبات الاقتصادية أيضاً دوراً داعماً بالغ الأهمية. على مدار الأشهر الـ10 الماضية، حرمت واشنطن وحلفاؤها وشركاؤها المؤسسات المالية الروسية الرئيسة من الوصول إلى البنية التحتية التي تشغل النظام المالي العالمي وعزلت روسيا عن الواردات والتقنيات المتقدمة الضرورية للإنتاج الاقتصادي الحديث.

وقد كان تعدد الأطراف حاسماً من أجل فعالية هذه التدابير الاقتصادية. وبالاسترجاع، بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا بسبب غزو شبه جزيرة القرم عام 2014، أمضت موسكو ثماني سنوات وهي تعمل على الحد من انكشافها على النظام المالي الأميركي، على أمل حماية الاقتصاد الروسي من تأثير أي عقوبات أميركية مستقبلية.

لكن، على الرغم من تمكن روسيا من الحد من انكشافها على الولايات المتحدة والدولار، فإنها لم تستطع تجنب النظام الاقتصادي الدولي والعملات الرئيسة الأخرى القابلة للتحويل من دون قيود، التي تشكل جوهر هذا النظام، ما جعل موسكو ضعيفة للغاية.

تبين أن العقوبات تكون أكثر فاعلية عندما يجري تنسيقها مع الحلفاء والشركاء، لأن التنسيق يعزز الدبلوماسية ولأنه من الصعب التهرب من العقوبات المتعددة الأطراف

 

وإضافة إلى البنية التحتية المالية في العالم، فإن الشركات التي تنتج سلعاً حيوية معينة، على غرار أشباه الموصلات والتقنيات المتقدمة الأخرى، موجودة في الغالب في مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي والاقتصادات الأخرى التي انضمت إلى الولايات المتحدة في استجابتها لما يحدث. نتيجة لذلك، كانت العقوبات والقيود التي فرضها الائتلاف على الكرملين أشد وطأة.

وتواجه روسيا الآن سنوات أو حتى عقوداً من التراجع الاقتصادي. لقد غادرت الشركات الأجنبية البلاد بشكل جماعي، ما أدى إلى تدهور كبير في القاعدة الاقتصادية الروسية. ومن دون القدرة على الوصول إلى هذه الواردات المهمة، ستشهد روسيا انكماشاً في قطاع التصنيع.

ووفق ما يتوقعه أحد التحليلات، فالاقتصاد الروسي سينكمش على المدى الطويل بنسبة تتراوح بين 30 و50 في المئة مقارنة بالمستوى المسجل ما قبل الحرب. والأهم من ذلك، أن هذه الإجراءات ستتسبب في إضعاف المجمع الصناعي العسكري الروسي وتقويض قدرته على إبراز قوته.

إذاً، فالدرس المستفاد من هذه الإجراءات هو أن فعاليتها لا تعتمد على حجم النظام المالي الأميركي أو الاستخدام الواسع للدولار فحسب، بل أيضاً على امتداد النظام الاقتصادي الدولي ومرونته ككل. وعوضاً عن تقويض هذا النظام، أكدت هذه الاستجابة الدولية المنسقة قوته وقيمته وأهميته.

دراسة ينبغي تطبيقها

على مدار الـ80 عاماً الماضية، تطورت سياسة العقوبات الأميركية بشكل كبير. في عام 1940، عندما غزت ألمانيا بقيادة أدولف هتلر الدنمارك والنرويج، جمدت وزارة الخزانة الأميركية الأصول التي يمتلكها البَلدان في الولايات المتحدة.

خلال العام التالي، جمدت أيضاً أصول الدول الأخرى التي غزتها ألمانيا. ولكن خلافاً لعقوبات اليوم، فهذه الإجراءات لم تكن مُصممة إلا من أجل منع وقوع تلك الأصول في أيدي النظام النازي، واستطراداً، لم تحظر وزارة الخزانة التجارة أو المعاملات المالية مع ألمانيا على نطاق أوسع، إلا بعد أن دخلت الولايات المتحدة الحرب رسمياً.

على مدار القرن الـ20، استخدمت الولايات المتحدة بشكل متزايد العقوبات الاقتصادية كأداة أساسية في السياسة الخارجية، عوضاً عن اعتبارها مجرد إجراء داعم. على سبيل المثال، فرضت مجموعة من العقوبات وضوابط التصدير على الاتحاد السوفياتي وبلدان داخل المجال السوفياتي ابتداءً من أربعينات القرن الماضي، فضلاً عن إنزال عقوبات بجنوب أفريقيا في الثمانينيات بسبب سياسات الفصل العنصري.

وبعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، قامت واشنطن بتحديث سياساتها الخاصة بالعقوبات. وفي عام 2004، أنشأت الحكومة مكتب وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية من أجل تنسيق عقوبات وزارة الخزانة وأنشطة الاستخبارات، وقد مكنها ذلك أيضاً من استخدام استراتيجيات عقوبات متطورة لاستهداف الإرهابيين والأعداء الآخرين غير التابعين للدول، وكذلك الدول التي تؤويهم.

قررنا استهداف ثلاثة عناصر من الاقتصاد الروسي: نظامها المالي، والنخب، والمجمع الصناعي العسكري

 

ولم تكن الهجمات الإرهابية وحدها الأمر الذي تطلب حدوث تغييرات في سياسات العقوبات الأميركية. في الواقع، على مدى العقدين الماضيين، نما حجم النظام المالي الدولي وأهميته، ما تطلب أجهزة عقوبات أكثر تطوراً. بين عامي 2001 و 2021، تضاعفت تقريباً حصة الأصول الخارجية العالمية من الناتج المحلي الإجمالي للدول.

ومن عام 2011 إلى عام 2021، قفزت نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 15 عاماً ويملكون حساباً في أحد البنوك أو يستخدمون مزود خدمة الأموال عبر الهاتف المحمول، من 50 في المئة إلى 76 في المئة. في الوقت نفسه، أدى توسع نطاق استخدام العملات المشفرة والتمويل اللامركزي [الذي لا يخضع لقوانين البنوك المركزية للدول] إلى إيجاد طرق جديدة من أجل الاحتفاظ بالقيمة وتحويلها خارج الأنظمة التقليدية، ما يتيح للدول والأفراد والمنظمات طرقاً بديلة لغسل الأموال غير المشروعة. لقد أوجد هذا التطور سبلاً جديدة لمحاولة تجاوز نطاق العقوبات، ما زاد الرهانات [رفع مستوى التحدي] بالنسبة إلى الحكومات التي تستخدم هذه التدابير الاقتصادية لمحاسبة الجهات الفاسدة.


في ضوء هذه التغييرات، وفي ربيع عام 2021، طلبت مني الوزيرة يلين العمل مع زملائنا في وزارة الخزانة ووزارة الخارجية من أجل إجراء مراجعة شاملة للطريقة التي تطورت فيها السلطات والاستراتيجيات وخطط التنفيذ الأميركية المرتبطة بالعقوبات، وهي أول دراسة من نوعها منذ هجمات 11 سبتمبر 2001.

وفي أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، نشرنا نتائج هذه الدراسة تحت عنوان "مراجعة عقوبات وزارة الخزانة لعام 2021" 2021 Treasury Sanctions Review. ومن بين عدد من النتائج المهمة التي توصلت إليها المراجعة، تبين أن العقوبات تكون أكثر فاعلية عندما يجري تنسيقها مع الحلفاء والشركاء، لأن التنسيق يعزز الدبلوماسية ولأنه من الصعب التهرب من العقوبات المتعددة الأطراف.

وخلصت المراجعة إلى أن العقوبات يجب أن تكون مرتبطة بسياسة خارجية استراتيجية واضحة المعالم، التي بدورها، تكون متصلة بأهداف مميزة. كذلك، حددت المراجعة أن العقوبات الأميركية يجب أن تتضمن تحليلاً اقتصادياً مفصلاً لتأثيراتها المتوقعة، بما في ذلك الآثار الجانبية.

حاضراً، قد تبدو هذه الاستنتاجات واضحة، بيد أن العقوبات السابقة لم تكن دائماً محسوبة جيداً. إجمالاً، زادت نسبة تسمية [إدراج] الجهات المستهدَفة بوضوح في لوائح العقوبات الأميركية بأكثر من 900 في المئة بين عامي 2000 و2021، علماً أن بعض التسميات مدروسة بعناية أكثر من البعض الآخر، وبطريقة موازية زاد عدد برامج العقوبات الأميركية بأكثر من مرتين ونصف. وجدت مراجعتنا أن التحليل الأكثر تفصيلاً سيسمح لمسؤولي العقوبات بتحديد القيود بشكل أفضل وتحقيق أهداف أكثر دقة، وفي الوقت نفسه تقليل الآثار غير المرغوب بها.

بعد أقل من شهر على انتهاء المراجعة، كشفت المخابرات الأميركية أن روسيا بدأت في التخطيط لغزو محتمل لأوكرانيا. لقد كان من حسن الحظ أننا أكملنا عملنا. في تصريحات عامة وخاصة، أوضح بايدن أنه في حالة حدوث الغزو، فالعقوبات ستكون أساسية في رد الولايات المتحدة.

ومن أجل ضمان استعدادنا، كلف بايدن الوزيرة يلين بوضع استراتيجية عقوبات من شأنها زيادة التكاليف المفروضة على الاقتصاد الروسي إلى الحد الأقصى، مع تخفيف التداعيات التي قد تطال الولايات المتحدة وحلفاءنا وشركاءنا والاقتصاد العالمي على نطاق أوسع.

الرد على روسيا

في 24 فبراير 2022، بدأت روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا. منذ البداية، كان من الواضح أنه لن يكون من السهل إعداد استجابة فعالة وفي الوقت نفسه محسوبة بشكل صحيح. على الرغم من أن وحشية الكرملين كانت تتطلب رداً قوياً، فإن حجم الاقتصاد الروسي واندماجه مع باقي الاقتصادات في العالم جعلا من الصعب فرض تكاليف كبيرة عليه، لا سيما من دون التسبب في ضرر واسع النطاق للاقتصاد العالمي.

في الواقع، تُعد روسيا واحدة من أكثر الدول اكتظاظاً بالسكان في العالم، ولها دور محوري في أسواق الطاقة العالمية. ومن أجل إلحاق الضرر بالجهود الحربية الروسية من خلال استخدام الأدوات الاقتصادية، احتاجت الولايات المتحدة إلى دمج الدروس المستفادة من مراجعة العقوبات، وكان عليها أن تفعل ذلك بسرعة.

يتبع الائتلاف أيضاً نهجاً جديداً يرمي إلى الحد من عائدات بوتين من صادرات النفط الروسية، ولكن من دون إخراج هذا النفط من السوق، ويتمثل هذا النهج بسياسة وضع سقف للسعر

 

بدأ ذلك بدرس مفاده أنه ينبغي ربط العقوبات باستراتيجية خارجية واضحة المعالم، وربط تلك الاستراتيجية بأهداف محددة. في هذه الحالة، كان الهدف الشامل واضحاً، يتمثل بإضعاف قدرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على شن حربه غير الشرعية.

ولتحقيق هذه الغاية، استخدمت الولايات المتحدة مجموعة من العقوبات المبتكرة والشاملة وضوابط التصدير من أجل حرمان روسيا من الإيرادات والموارد اللازمة لمواصلة غزوها واستعراض قوتها، بما في ذلك تقليص مجمعها الصناعي العسكري.

كذلك، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتدخل دبلوماسي كبير وقدموا دعماً عسكرياً واقتصادياً وفيراً لأوكرانيا، بلغت قيمته عشرات المليارات من الدولارات، فضلاً عن أن إدارة بايدن طلبت 38 مليار دولار إضافية من الكونغرس بغية تقديم مزيد من المساعدة. هذه الأهداف تعكس حقيقة أن العقوبات وحدها لن توقف على الأرجح غزو بوتين بالكامل، ولكن يمكنها أن تجعل من الأصعب بكثير على بوتين مواصلة حربه، وأن تقلل بشكل كبير من فرصه في النجاح في ساحة المعركة.

وقد يكون بوسعنا أن ننظر إلى هذه الاستراتيجية على أنها مجموعة من الضربات الدقيقة التي تستهدف قدرة روسيا على شن الحرب. وقد سمحت للولايات المتحدة بأن تؤثر بشكل كبير على روسيا، وإنهاك قدرة موسكو على متابعة غزوها ودعم اقتصادها، وفي الوقت نفسه حدت من التأثير الجانبي على الاقتصاد العالمي، وبخاصة على حلفاء الولايات المتحدة والاقتصادات النامية.

واستطراداً، قررنا استهداف ثلاثة عناصر من الاقتصاد الروسي: نظامها المالي، والنخب، والمجمع الصناعي العسكري. من أجل استهداف النظام المالي، فرضنا عقوبات على المؤسسات المالية الرئيسة في روسيا، وجمدنا احتياطيات البنك المركزي، وعزلنا عدداً من بنوكها عن نظام رسائل "السويفت" في الأيام التي أعقبت الغزو مباشرة.

وبغية ضرب شبكة النخب والأقلية الحاكمة التي تدعم الحكومة الروسية وتعمل كوكلاء وأدوات لها، أنشأنا فريق عمل دولياً، اسمه "فرقة العمل المعنية بالنخب الروسية والوكلاء والأوليغارشيين" (REPO) يتضمن ممثلين من ثماني دول والمفوضية الأوروبية، من أجل تحديد أصولهم وممتلكاتهم ومصادرتها في المناطق الخاضعة لسلطتهم القضائية حول العالم.

هذا الجهد من شأنه أن يمنع الأوليغارشية الروسية من الوصول إلى الموارد التي يمكن استخدامها لدعم نظام بوتين. واستكمالاً، لاستهداف المجمع الصناعي العسكري الروسي وسلاسل التوريد الحيوية في روسيا، فرضنا ضوابط على الصادرات وقيوداً أخرى تحرم روسيا من الواردات الضرورية التي تخولها إبقاء آلتها الحربية عاملة، ما أجبر الجيش الروسي على التحول بشكل مطرد إلى أسلحة قديمة وأقل موثوقية.

ومن أجل إنجاح هذه الاستراتيجية المحددة الأهداف، كان على وزارة الخزانة العمل بشكل وثيق مع ائتلاف عالمي من الحلفاء والشركاء، بما يتفق مع استنتاجات المراجعة التي أجريت حول العقوبات. منذ البداية، جعل بايدن ويلين العمل المتعدد الأطراف أساس الاستجابة لروسيا، بناء على التزام الإدارة بإعادة إنشاء التحالفات الأميركية واستعادة الثقة في دور الولايات المتحدة العالمي.

وبتوجيهات من بايدن، بدأنا في بناء ائتلافنا قبل الحرب بوقت طويل، والتواصل مع كثير من الحلفاء والشركاء الذين استشرناهم أثناء مراجعة العقوبات. في نوفمبر (تشرين الثاني) [2021]، شارك مجتمع الاستخبارات الأميركية بسرعة المعلومات الاستخباراتية التي تشير إلى الغزو الروسي المحتمل مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في أوروبا ثم بدأوا في إرساء الأسس اللازمة للرد. على الرغم من عدم التوصل إلى صيغة نهائية في جميع القرارات بحلول فبراير 2022، إلا أن الولايات المتحدة وحلفاءها وشركاءها استطاعوا تطوير مجموعة شاملة من الإجراءات الأولية.

والجدير بالذكر أن تركيبة هذا الائتلاف كانت حاسمة لجهة فعاليته. فمن منظور مالي، شمل الائتلاف مصدري العملات الرئيسة العالمية القابلة للتحويل من دون قيود، علماً أن هذه العملات تشكل النسيج الضامن للمصارف العالمية وأنظمة الدفع، ما يتيح التمويل والتجارة عبر الحدود بكفاءة وبمخاطر منخفضة.

وفي الواقع، فإن حاجة روسيا إلى التعامل بهذه العملات تفسر سبب التأثير الكبير الذي خلفته العقوبات المالية، وعدم تمكن روسيا من الهروب من الانعكاسات المترتبة، على الرغم من بذل قصارى جهدها.

 على سبيل المثال، في عام 2019، كانت 87 في المئة من معاملات الصرف الأجنبي في روسيا تمت بالدولار. في الوقت نفسه، يُعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا، ما يجعل إجراءات الاتحاد الأوروبي لعزل روسيا اقتصادياً شديدة الفاعلية.

وبما أن هذا الائتلاف يضم اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، أهم منتجي التقنيات المتقدمة الرئيسة في العالم، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة، فقد نجحت ضوابط التصدير المفروضة في منع روسيا من الوصول إلى الواردات المهمة مثل أشباه الموصلات، ما أدى إلى إضعاف جيشها بشكل كبير. وطالما أن هناك مخاطر كبيرة مرتبطة بالعقوبات الأحادية الجانب، فإن الدرس المستفاد من رد الولايات المتحدة على روسيا هو أن العمل إلى جانب الحلفاء والشركاء في مجموعة السبع، وعبر أوروبا وآسيا، هو أفضل طريقة لتخفيف تلك المخاطر.

قواعد لعب جديدة

أظهرت واشنطن وحلفاؤها وشركاؤها إبداعاً في تنفيذ هذه الاستراتيجية. فمن أجل حرمان روسيا من الموارد المالية اللازمة لتمويل غزوها، قام الائتلاف مثلاً بتجميد صندوق الثروة السيادية واحتياطيات البنك المركزي في روسيا. وكان لهذه الخطوة تأثير هائل.

على مدى السنوات الثماني الماضية، جمعت روسيا  630 مليار دولار في الثروة السيادية وأصول البنك المركزي لحماية اقتصادها من تأثير العقوبات المحتملة، بيد أن الإجراءات التي اتخذها الائتلاف جعلت الوصول إلى جزء كبير من هذا الصندوق الحربي متعذراً، ما أضعف تأثير التدابير الاستباقية الروسية.

واستكمالاً، يتبع الائتلاف أيضاً نهجاً جديداً يرمي إلى الحد من عائدات بوتين من صادرات النفط الروسية، ولكن من دون إخراج هذا النفط من السوق، ويتمثل هذا النهج بسياسة وضع سقف للسعر [الحد الأقصى للسعر] التي طبقها الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع وأستراليا في وقت سابق من هذا الشهر.

صُممت هذه السياسة من أجل التغلب على معضلة واضحة. فمنذ بداية الصراع، أعدت الولايات المتحدة وحلفاؤها العقوبات بطريقة تسمح لصادرات النفط والغاز الروسية بالوصول إلى السوق العالمية، حتى في الوقت الذي حظرت فيه الولايات المتحدة وبعض الحكومات الأخرى استيراد هذه الماد في دولها. وقد تم ذلك لأسباب وجيهة. فمع تعرض المستهلكين والشركات في الولايات المتحدة والعالم لضغوط بسبب الارتفاع في أسعار الطاقة، الذي نتج في جزء كبير منه عن تصرفات الكرملين، لم ترغب هذه الحكومات في التصعيد أكثر.

لكن هذا يعني أن روسيا استمرت في جني أرباح كبيرة من صادراتها من الطاقة، وبخاصة النفط. في فترة من الفترات، حصلت روسيا على أكثر من 100 دولار للبرميل الواحد. وخلال الصيف، حققت زيادة بنسبة 60 في المئة في سعر البرميل الواحد مقارنة مع العام السابق، ما يعني أنها جنت مزيداً من الأموال على الرغم من انخفاض حجم صادراتها.

في استراتيجيات العقوبات التقليدية، سيكون التعارض بين هذين الهدفين، المتمثلَين بتقييد عائدات روسيا وفي الوقت نفسه الاستمرار في السماح لنفطها بالوصول إلى السوق، تعارضاً عسيراً. لكن سياسة سقف السعر تحقق توازناً بين الهدفين من خلال اتباع نهج جديد وهو الجمع بين العقوبات التي تمنع توفير الخدمات الحيوية، مثل التأمين والتمويل التجاري والشحن، لشحنات النفط الروسية المنقولة بحراً، باستثناء النفط المباع بسعر محدد أو ما دون هذا السعر.

وعوضاً عن فرض حظر تام، فإن وضع حد أقصى للسعر يؤدي بشكل أساسي إلى إنشاء سوقين للنفط الروسي: سوق بسعر محدد أو ما دونه، تستمر فيها صادرات النفط الروسية في التدفق مع الاستفادة من هذه الخدمات، وسوق أخرى بسعر أعلى، لكن لا يمكن شحن النفط الروسي فيه إلا باستخدام خدمات من موردين بدلاء من المرجح أن تكون أكثر تكلفة وأقل موثوقية. وهذا ينظم [يضفي الطابع المؤسسي على] خفض أسعار النفط الروسي من خلال تحديد سقف للمشترين الذين ينضمون رسمياً إلى الائتلاف الذي يفرض ذلك السقف وإعطاء نفوذ أكبر للمشترين خارج الائتلاف من أجل التفاوض على أسعار منخفضة، حتى لو لم يتبنوا السياسة رسمياً.

هكذا، ستستفيد جميع البلدان المستوردة الصافية للنفط والمستهلكة له على مستوى العالم من انخفاض أسعاره، بينما يحصل الكرملين على إيرادات أقل. وكميزة إضافية، من المرجح أن تكون الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل التي تعتبر أشد حاجة إلى هذا النفط الأقل ثمناً هي المستفيد الاقتصادي الرئيس من تحديد سقف للسعر.


إضافة إلى الإبداع الذي تحمله، فإن سياسة تحديد سقف للسعر تمثل أيضاً رمزاً لجهود الولايات المتحدة الرامية إلى إدخال تحليل اقتصادي دقيق في عقوباتنا، وهي النتيجة الرئيسة الثالثة للمراجعة. إضافة إلى عملنا التقليدي مع وزارة الخارجية، فإن الفريق المؤلف من خبراء العقوبات والاقتصاديين وخبراء السوق المالية في وزارة الخزانة، وبالتنسيق مع وزارة الطاقة، تعاون بشكل وثيق مع المحللين الاقتصاديين في وزارات المالية والإدارات الأخرى في المفوضية الأوروبية وعبر مجموعة الدول السبع من أجل تعزيز دقة تقدير الآثار المترتبة على السعر والناجمة عن حظر الخدمات المنقولة بحراً؛ ومعايرة السعر المناسب للسقف نفسه بناء على أنماط التسعير التاريخية؛ وتقييم استجابة روسيا المحتملة بناء على إنتاج البلاد من النفط والمعدات والمتغيرات الأخرى.

هذه الطريقة الجديدة لفرض العقوبات، المتمثلة بتقسيم سوق النفط الروسي بدلاً من حظره بالكامل، تطلبت ابتكاراً موازياً في الأساليب التحليلية. وبناء على هذه التجربة، تقوم وزارة الخزانة حالياً بتعيين رئيس للخبراء الاقتصاديين المعنيين بالعقوبات سيساعد في تطوير وحدة كاملة وقدرات تحليلية مناسبة لتعزيز قدرة الولايات المتحدة على إجراء هذا النوع من التحليل الاقتصادي التفصيلي في حالات أخرى.

في منحى مقابل، شكل تعطيل سلاسل التوريد الحيوية التي تغذي المجمع الصناعي العسكري الروسي تغييراً جذرياً في سياسة العقوبات. وظلت الولايات المتحدة تركز بشدة على إنهاء الحرب الروسية ووحشيتها في أوكرانيا. والهدف، ببساطة، هو إحباط قدرة روسيا على استخدام الأموال التي لديها من أجل بناء الأسلحة التي تريدها.

لكن بدلاً من التركيز على إلحاق ضرر اقتصادي محض، عمدت وزارة الخزانة، بالتنسيق مع وزارة الدفاع ووزارة التجارة وحلفاء الولايات المتحدة، إلى استخدام العقوبات وضوابط التصدير لاستهداف التقنيات والمدخلات التي تحتاج إليها روسيا من أجل خوض حربها. يتضمن ذلك عناصر مثل أشباه الموصلات والترانزستورات والبرمجيات التي لا يجري تصنيعها إلا خارج روسيا، وفي كثير من الحالات لا تصنعها إلا الولايات المتحدة وحلفاؤها.

ووفق تقديرات مكتب مدير المخابرات الوطنية في الولايات المتحدة، فالإجراءات التي اتخذتها واشنطن وشركاؤها قد أضعفت قدرة روسيا على استبدال أكثر من ستة آلاف قطعة من المعدات العسكرية، وأجبرت المنشآت الصناعية الدفاعية الرئيسة على وقف الإنتاج، وتسببت في نقص المكونات الحيوية المستخدمة في الدبابات والطائرات والغواصات.

وفي الواقع، يشهد العالم نتائج هذا النقص في ساحة المعركة، حيث أَجبر مقاتلو أوكرانيا المتماسكون روسيا على استنفاد إمداداتها من الأسلحة الحديثة بسرعة والتحول إلى معدات قديمة تعود إلى الحقبة السوفياتية أو بدائل منخفضة الجودة اشترتها من كوريا الشمالية وإيران.

تشكل هذه الأساليب مجتمعة استراتيجية مصممة خصيصاً لحرمان روسيا من الوصول إلى الإيرادات التي تحتاج إليها من أجل دفع تكاليف حربها، وقطع روسيا عن الموارد التي تدعم اقتصادها المتدهور، وتقويض قدراتها العسكرية. وقد تطلب تصميم هذه الإجراءات وتنفيذها خبرة فنية وتنسيقاً دبلوماسياً متقناً، وسيتعين على الدول التي تقف وراء تلك الإجراءات مواصلة العمل معاً، وبشكل خاص لمنع روسيا من التملص من القيود المتنوعة. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذه التدابير الاقتصادية تقوض بالفعل قدرة روسيا على استعراض قوتها وستصوغ السياسة الاقتصادية الدولية لعقود قادمة.

مسار المضي قدماً

عندما بدأنا حملتنا لمحاسبة روسيا، مستخدمين جميع أدواتنا الاقتصادية والمالية، واجهنا انتقادات من البعض بأن أفعالنا قد تؤدي إلى تفكيك النظام المالي العالمي. وبعد 10 أشهر من هذا الصراع، يمكننا أن نستنتج العكس تماماً بثقة.

وعوضاً عن إحداث شرخ بين الولايات المتحدة وحلفائها، قدمت هذه العقوبات أقوى بيان ممكن لوحدتنا في وجه العدوان الروسي. لقد أظهرت أن واشنطن وشركائها على استعداد للدفاع عن المبادئ التي تقع في صميم النظام الاقتصادي الدولي، بما في ذلك تقرير المصير، والسيادة الإقليمية، والتبادل الاقتصادي الحر والمفتوح، حتى لو كان ذلك يعني التأثير باقتصادهم، ما يمثل فعلياً استثماراً في مستقبل النظام الاقتصادي الدولي.

والجدير بالذكر أن رد الائتلاف على الغزو الروسي يعكس في الوقت نفسه الاستنتاجات التي خلصت إليها مراجعتنا للعقوبات، وعناصر معينة في تركيبة النظام الاقتصادي الدولي تشمل دور الدولار، وشبكات البنوك المراسلة التي تسهل المدفوعات داخل النظام، وجغرافية مقدمي الخدمات الذين يدعمون التبادل الاقتصادي الحقيقي بين المشاركين فيه، وهي عناصر تتيح إمكانية الوصول إلى الفوائد التي يوفرها هذا النظام.

وبطريقة موازية، فهذه الميزات هي أيضاً ما يجعل الحرمان من فوائد النظام وسيلة فعالة للغاية. واستكمالاً، إن التنسيق المتعدد الأطراف الذي دعم إجراءات الائتلاف من البداية إلى النهاية، من الإستراتيجية إلى التكتيكات والتنفيذ، عزز قوة هذا النظام نفسه في مواجهة أكبر تهديد له منذ جيل.

لا يعني أي من هذا أن النظام الاقتصادي الدولي لا يحتاج إلى تحديث. فهو سيتطلب استثمارات جديدة في الوقت الذي يتكيف فيه بشكل أفضل مع القرن الـ21. إذاً، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها تحديث المؤسسات الدولية التي تشكل العمود الفقري لهذا النظام، مثل بنوك التنمية المتعددة الأطراف؛ واستكمال الاتفاقية الدولية في شأن الحد الأدنى العالمي للضريبة التي توصلت إليها أكثر من 135 دولة في "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" Organization for Economic Cooperation and Development الخريف الماضي؛ وتحديث البنية التحتية للمدفوعات الدولية من أجل جعلها أسرع وأقل تكلفة وأكثر شمولاً.

في الواقع، ستساعد هذه الإجراءات على ضمان أن يستمر النظام الاقتصادي الدولي في تعزيز الرخاء العالمي، وأن يفي بالقيم التي حُددت عند إنشائه، وأن يظل قوياً بما يكفي ليكون له تأثير مهم عندما تُحرم الجهات الفاعلة الخبيثة من الوصول إليه.

وبالطبع، يتعين بذل مزيد من الجهود في هذا السياق. لكن ليس هناك شك في أن ما أنجزته الولايات المتحدة وحلفاؤها تاريخي ومُشجع. فهذا الائتلاف لا يحاسب روسيا على حربها غير المقبولة فحسب؛ بل هو يفعل ذلك ضمن إطار متعدد الأطراف يُظهر القوة الثابتة والأهمية التي يتمتع بها الاستثمار في النظام الاقتصادي الدولي.

سنظل نركز على محاسبة روسيا بينما تشن الدولة حربها الوحشية وسنستمر في دعم أوكرانيا مهما استغرق الأمر. وبعد سنوات أو عقود من الآن، سيُعتبر الغزو الروسي وما نجم عنه من استجابة جماعية، لحظة قام فيها النظام الاقتصادي الدولي بتعزيز دوره الأساسي عندما واجه تحدياً هائلاً.

* والي أدييمو  نائب وزير الخزانة الأميركية 

مترجم عن "فورين أفيرز" 16 ديسمبر (كانون الأول) 2022

المزيد من آراء