يقول إميل دوركهايم، في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية": "إنّ الحياة الدينية، في كلّ أشكالها، موضوعها رفع الإنسان فوق ذاته وجعله يحيا حياةً أسمى من تلك التي كان سيحياها لو لم يطع نوازعه التلقائية الفردية".
لعل الباحث اللبناني أديب صعب (1945) الذي صدرت لكتابه المعنون "المقدّمة في فلسفة الدين" طبعته الجديدة (2022) عن دار النهار، سوف يعاود تذكير القرّاء العرب - وغالبيتهم الساحقة مؤمنة إيماناً راسخاً بدين من الأديان السماوية الثلاثة - لا بصلاحية الدين، ولزومه لحياتهم وما وراءها فقط، وإنّما بلزوم الربط بين الفلسفة والدين، توضيحاً للفوارق بين كليهما، وتمكيناً للمؤمن من فهم دينه، من منظار العقل.
والواقع أنّ المؤلّف الأكاديمي، أديب صعب، إذ يمضي في مشروعه الطّموح والمثير للردود الكثيرة ينطلق من ملاحظات ثلاث.
أولاها أنّ المادة المقترحة للدرس، عنيتُ "فلسفة الدين"، ليست مستحدثة، بدليل أنّ فلاسفة عرباً من أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي في المشرق، وابن طفيْل وابن رشد في المغرب سبقوه إلى ذلك. كما سبقت المذكورين فرقُ المعتزلة وعلماء الكلام، إبّان العصور العباسية، يشجّعها في ذلك الإقبال على ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية، والمناظرات بينهم وبين علماء اللاهوت النساطرة، في حينه.
أما الملاحظة الثانية فهي أنّ الدفاع عن الدين، الذي يُعدّ إحدى غايات هذه الفلسفة، والذي يزمع النهوض به مسلّحاً بالفكر والفلسفة، من بدء انطلاقهما مع أفلاطون، الهاجس بالمثُل والعالم المثالي، صنو الدين وقيَمه والفضائل التي يدعو إليها، أنّ هذا الدفاع عن الدين والفكر الديني صار إلى حالٍ من التجزئة؛ ذاك أنّ منهج دعاته اليوم مقتصرٌ على إيثارٍ دينٍ واحد، ومفاضلته مع الأديان الأخرى. في حين أن منهجية فلسفة الدين تقضي بطرح "أسئلة الإنسان الدينية الفطرية، وهي أسئلة مشتركة بين الأديان كلّها، ولا يختصّ بها دينٌ من دون سواه" (ص15)
مدونة الفلسفة الكبرى
على أنّ الملاحظة الثالثة، وهي تكوينية، ومفادها أنّ مادة فلسفة الدين ليست معطاة، ولا هي مصنّفة كذلك، في مدوّنة الفلسفة الكبرى. وإنّما يتعيّن على المؤلّف أديب صعب بشخصه أن يستخلصها، ويعالجها، ويبيّن حدودها، ومدى انطباقها على تصوّره فلسفة الدين، ومقدار مساهمتها في بلورة فهم هذا الجانب أو ذاك من الدين المعنيّ. وهذا ما قصد إلى بنائه تحت عنوان "فلسفة للدين متكاملة".
وبعد المقدّمة، يمضي الكاتب إلى التعريف بأهمّ مصطلحات مادّته، ومدوّنته الفلسفية واللاهوتية الممتدة عبر الزمن - من أفلاطون حتى سارتر، مروراً بالفلسفة الإسلامية وتراث التصوّف - فيرى إلى الدين، من منظار الأديان الثلاثة، وأديان أخرى لا تقلّ سيرورة عن السابقة، مثل الكونفوشيوسية والبراهمية، وغيرهما؛ إذ يرتبط وجود الدين، بنظر الكاتب وبعد الاستنارة بمتن أدبيات هذه الأديان، بالخطيئة لدى الإنسان، ومدى حاجته إلى إدراك الخلاص، وما يوجبه الأخير من أفعال على المؤمن وممارسات وشعائر وأسرار لبلوغه الخلاص. كما أنّ للدين، أيّاً يكن، قيماً وفضائل ينبغي للمؤمن أن يتقيّد بها، ويترسّم سبلَ الأنبياء والرّسل في حياته وعلاقاته في الدائرة الصغرى والكبرى.
وفي الفصل الثاني من الكتاب يشرح الكاتب العلاقة التي جمعت، قديماً، بين الدين والفلسفة؛ فيعرض للعلاقة المديدة التي جمعت بين الدين والفلسفة العربية، من القرن التاسع وحتى الرابع عشر، أي منذ أن تبنّى الخليفة المأمون آراء المعتزلة، مروراً بالفارابي وابن سينا والغزّالي، وأبو الحسن الأشعري، بحيث راوحت (العلاقة) بين شرح الدين من منطلقات العقل مع ميلٍ إلى تغليب أحكام العقل على أحكام الشرع، وبين تسليم لأحكام الشرع (أولية الشريعة، والخلق، على سبيل المثال) على حساب أحكام العقل والفلسفة. ولعلّ هذا الترجّح نفسه ما كان سائداً في الغرب، منذ أن شرعت الكنيسة، بدءاً من القرن الرابع، ومع القديس أوغسطينوس، بجعل الفلسفة ومصطلحاتها وأحكامها رديفة للدين، ومعينة على فهم أبعاده وأسراره وأحكامه، وصولاً إلى القرون الوسطى، وسيطرة ما سمّي بالفلسفة المدرسية، في القرن الحادي عشر، وصعود الاتجاه الفلسفي اللاهوتي مع كل من بونافنتورا، وتوما الأكويني الذي أجرى فصلاً حاسماً بين الفلسفة المعتمدة على العقل، وبين اللاهوت القائم على معطيات الوحي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإن كان لا يسعني تقديم كلّ ما انطوى عليه الفصل الثاني، فإنني أخلص إلى القول إنّ الكاتب لم يدع فلسفة مؤثّرة وذات صلة بالدين، تأييداً وتنديداً، إلاّ وأورده، وعلى نحو موجزٍ، وأرّخ لموقع العلاقة وتمايزها نسبة إلى السياق الزمني المعاصر.
وكذا هي الحال في الفصول اللاحقة (وجود الله، والخبرة الدينية، والعجيبة، ومسألة الشرّ، والدين والأخلاق، والوجه الآخر للحياة) والتي استنطق فيها أهمّ مصادره، عنيتُ بها الكتب المقدّسة (التوراة، والإنجيل والقرآن، وأعمال الرسل، وكتابات آباء الكنيسة)، بغية إرساء فهم شامل للأديان ولأهمّ مفاصل الإيمان التي تشكّل جوهر الدين وسبب بقائه وديمومته، وذلك على الرغم من سيطرة التيارات العلمانية المنكرة للدين، من أوائل القرن العشرين وحتى أواخره.
ومن الكتب الأخرى التي يعرض فيها الكاتب أديب صعب لمادّته، بل لأطروحته حول فلسفة الأديان، كتاب صادر حديثاً بعنوان "دراسات نقدية في فلسفة الدين" وعن دار النهار، وفيه مرافعة وافية الأسانيد والمراجع عن لزوم "المنهج الموحّد لفهم الدين"، بل لفهم الأديان بعامة، جرياً على إرث علمي كان قد افتتحه أبو الريحان البيروني (1048) في كتاباته عن أديان الهند، واستمراراً لخطّ كان قد كرّسه المؤرّخ والباحث الألماني فردريك ماكس مولر (1900). ويقضي هذا المنهج باحترام الباحث أموراً أساسية أهمّها: اتّخاذه موقفاً موضوعياً من الأديان كافّة، والنّظر إلى عناصر الدين الخمسة (النظام المادي الظاهر، والاعتراف بالحقيقة اللامحدودة، والنظر إلى العقائد والطقوس التي يتشكّل منها كلّ دين، نهج الفضيلة والقداسة الخاصّ بالمؤمن، والاقتداء بسيَر الأولياء والقديسين).
وفي الكتاب أيضاً مقالات بحثية، تتناول: لغة الدين بمستوياتها الستة (التاريخي والإيماني والخارق والرمزي والأخروي والخُلُقي)، وأوهام العلم وأوهام الدين، وتعليم الدين في المدرسة العامة، والدراسات الدينية في الثقافة العربية الراهنة، وسواها.
للكاتب أديب صعب كتب في فلسفة الدين، صدر منها إلى الآن: "الدين والمجتمع، رؤية مستقبلية"، "الأديان الحيّة نشوؤها وتطوّرها"، "وحدة في التنوّع: محاور وحوارات في الفكر الديني"، "هموم حضارية في الثقافة والسياسة والنهضة المنشودة"، و"وليم صعب شاعر القضايا الأزلية".
وله في الشعر خمس مجموعات شعرية هي: "قيثارة الضياء" و"أجراس اليوم الثالث" و"مملكتي ليست من هذا العالم" و"حيث ينبع الكلام" و"الوجه الآخر للكون".