غالباً ما ينفر الناس من قراءة النصوص الفلسفية، سواء تلك التي تصدر في المجلات والكتب أو تلك التي تنشرها الصفحات الثقافية في الجرائد والدوريات العربية. أسباب شتى تسوغ هروب القارئ العربي من النص الفلسفي أو من المقالة الفلسفية. قد يكون أخطرها على الإطلاق رغبة الإنسان في السير على المنهج المألوف الذي تعوده في حياته اليومية، ذلك بأن التفكير الفلسفي يزعج بأسئلته الوجودية المربكة، ويضطر الناس إلى بذل الجهد الاستثنائي من أجل تغيير النمط الحياتي السائد في الفكر والمسلك.
ومن ثم حين يقارن القارئ العربي حقول المعرفة بعضها ببعض، سرعان ما يدرك، على سبيل المثال، أن حقول التاريخ والجغرافيا والأدب والآثار وعلم النفس أبسط وأسهل وأقرب إلى الأذهان. ثمة حقول معرفية سهلة وحقول أخرى صعبة. من أصعب هذه الحقول على الإطلاق الفلسفة التي تهتم بكل شيء في الحياة، من غير أن تنحصر في ميدان بحثي واحد. يعرف الجميع أن موضوعات البحث في العلوم الإنسانية والعلوم الوضعية مفروزة، محددة، واضحة. فالآداب تبحث في التعابير اللغوية التي تستثيرها اختبارات الوجدان الإنساني، والتاريخ ينظر في الأحداث ويترصد المسارات والتطورات، والجغرافيا تفحص هيئة الكرة الأرضية وتضاريسها وخصائصها، وعلم الآثار يتحرى الأعمال الهندسية والمعمارية والفنية التي خلفتها الحضارات القديمة، وعلم النفس يغوص في الباطن الإنساني يتقصى أحواله ومقاماته واعتمالاته وتفاعلاته. لا ضرورة إلى التوسع هنا في تعيين موضوعات العلوم الوضعية من فيزياء وكيمياء ورياضيات وما شابه.
المعرفة والوجود
وحدها الفلسفة تنفرد بخصوصية الاعتناء المعرفي والوجودي الشامل، ولكن من غير أن يقتصر نظرها على ميدان من الميادين أو موضوع من الموضوعات. جراء طبيعة تفكيرها الحاوي، تنظر في قضايا الكون والطبيعة والحياة والوجود والإنسان والوعي والتاريخ، بيد أنها لا تكتفي بهذه الحقول، بل تمضي إلى النظر في الأصول القصية التي يقوم عليها الوجود الكوني والإنساني برمته. المثال على ذلك مبحث التأصيل الفلسفي الذي يتفرع ثلاثة ميادين: الأونطولوجيا التي تنظر في جوهر الأمور، أي في ماهية الكائنات والموجودات والأشياء، وقد نحت لها الفلاسفة اصطلاح الكينونة، والميتافيزياء التي تستشرف حدود العالم المنظور وتستطلع ما يقوم وراء الطبيعة، واللاهوت الذي يتخطى هذه الحدود ليتدبر إشارات العالم العلوي المفترض. وضعت اللاهوت في قمة المساعي الفلسفية التأصيلية، إذ إن التفكير يكف، في مبحث اللاهوت، عن الاعتصام بالحذر العلمي والتهيب المعرفي والتطلب الموضوعي، فينسحب من الميدان ويخلي الساحة للشطح الروحاني الصوفي التذوقي الاستنسابي.
زد على ذلك أن الفلسفة تعمل فكرها في سائر العلوم الأخرى التي لا تهتم بالفلسفة اهتماماً مباشراً، ذلك بأن الفيلسوف ينظر في التاريخ وعلمه واستقصاءاته ويتدبر منطقه وحركته ومقاصده وغاياته، في حين أن عالم التاريخ أو المؤرخ يكب على البحث في المسائل التي تتصل بحقل التاريخ على وجه الحصر، لذلك نشأت مباحث فرعية في الفلسفة تنظر في أصول العلوم الإنسانية والوضعية الأخرى، ومنها فلسفة التاريخ وفلسفة اللغة وفلسفة السياسة وفلسفة الاجتماع وفلسفة الاقتصاد وفلسفة الدين، وما إلى ذلك من حقول تعتني بها الفلسفة جراء اهتمامها بشمولية الوجود الإنساني. من مفارقات الفلسفة وصعوباتها أنها في الوقت عينه مجردة من الموضوعات العينية التي تعالجها العلوم الأخرى، وشاملة جميع حقول الحياة الإنسانية التي تتوزعها هذه العلوم وتختص بها ميداناً ميداناً.
الاصطلاحات المجردة والتنظير العسير
من جراء اتساع التفكير الفلسفي تتحول الفلسفة إلى علم شمولي يقوم في أصل العلوم كلها. غير أن هذا المقام يفرض على الفلسفة أن تتخلى عن منهجية الوصف الواقعي المباشر، على نحو ما تفعل العلوم الإنسانية والوضعية الأخرى، وأن تستخرج من هذه الوقائع المضامين الجامعة والجواهر الحاضنة والماهيات الضابطة. لا يخفى على أحد أن كل علم من العلوم الأخرى يستخدم قدراً معيناً من التجريد النظري. لا شك في أن أرفع ضروب هذا التجريد يتحقق في الرياضيات التي يدعوها بعضهم العلم المحض.
بيد أن تجريد الفلسفة غير تجريد العلوم، إذ إن التفكير الفلسفي يجرد الظاهرة أو الحدث أو الاختبار أو الواقعة من العناصر الظرفية العابرة، ويسعى إلى الربط التعليلي بين جميع الظواهر والأحداث والاختبارات والوقائع المتشابهة. المثال على ذلك واضح في مسعى الفلسفة الإغريقية القديمة، لا سيما عند أفلاطون (نحو 428 – نحو 347 ق م) الذي كان يجتهد في حث محاوريه على الانتقال من معاينة إلى أخرى من أجل الوصول إلى ماهية الشيء. إذا أراد الإنسان أن يدرك معنى الجمال كان عليه أن يقارن الجمالات الجزئية التي يعاينها في المشهد الطبيعي والجسم الإنساني والتعبير الأدبي واللوحة الفنية حتى يبلغ مستوى الجمال بحد ذاته، أي قيمة الجمال المطلقة. والإطلاق يعني هنا الانعتاق من كل رابط ظرفي أو انتساب محلي أو تأثر عرضي.
لا يملك جميع الناس أن يتجاوزوا حدود الجمالات الحسية الواقعية الجزئية المنظورة، ولا يستطيعون أن يربطوا هذه الجمالات بعضها ببعض من أجل بلوغ ماهية الجمال. غالباً ما نكتفي بالجمال المتجسد في لوحة أو رقصة أو مشهد أو تعبير، ونغفل الأبعاد المحجوبة التي تقوم عليها التجليات الجمالية هذه. كلما أمعن الفيلسوف في تجريد المفاهيم، تحرر كلامه من الارتباطات الحسية المنظورة، وطفق يتدبر الأمور في أصولها العميقة المنحجبة. يذهب بعض الفلاسفة مذهباً متطرفاً، إذ يعلنون أن الفلسفة تنظير مجرد وإبداع حر للمفاهيم، على نحو ما أعلنه الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز (1925 - 1995)، أو يصرون على تجريد الفلسفة من كل مسعى عملي فعلي حياتي وجودي أخلاقي نافع، على غرار ما كان يصرح به الفيلسوف الألماني هايدغر (1889 - 1976).
بيد أن دلوز وهايدغر لا يهيمنان على المشهد الفلسفي العالمي، بل يشاركهم في المسعى عينه فلاسفة آخرون يعدون الفلسفة شأناً حياتياً مرتبطاً بمعاناة الإنسان الوجودية. ها هو ذا الفيلسوف الفرنسي سارتر (1905 - 1980) يعلن في وجوديته أن الإنسان الفرد الذي يعاني القهر والظلم والقلق والخوف ورهبة السؤال المصيري إنما هو قائم في صميم التفكير الفلسفي السليم. وها هو ذا الفيلسوف الفرنسي إمانويل لڤيناس (1906 - 1995) يصر على مقام الوجه الإنساني في اقتبال المعنى الوجودي المنبثق من ملاقاة الآخرين في صميم الاختلاف الأصلي الناشب بين الناس.
تحديات اللغة الفلسفية
حقيقة الأمر أن الفلسفة لا تستقيم على مذهب أو تصور واحد، ولا تستقر على نهج تجريدي فريد، ولا تعترف بحقيقة مطلقة. في الفلسفة مباحث شتى، منها الأصعب ومنها الأسهل. من المباحث الصعبة في الفلسفة الأونطولوجيا والميتافيزياء واللاهوت والإبيستمولوجيا (نظريات المعرفة) والمنطق الصوري وفلسفة العلوم، وكل المساعي التأصيلية النظرية المجردة. من المباحث السهلة فلسفات الأخلاق والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والفن، لذلك حين يقع القارئ العربي المتوسط الثقافة على نص فلسفي يعالج كينونة الكائنات بوصفها الماهية المجردة المطلقة، لا بد له من أن يتهيب المقام وأن يرتبك ارتباكاً عظيماً يفضي به إلى الإعراض عن القراءة. أما حين يعثر على نص فلسفي مستل من مبحث فلسفة السياسة ينظر في قضايا الديمقراطية وتداول السلطة فإنه سرعان ما يرتاح إلى المسألة ويرضى بالمجازفة.
خلاصة القول إن صعوبة الفلسفة تنجم عن ثلاثة أسباب: طبيعة الحقل المعرفي، والتجريد النظري المفرط، وخصوصية المسائل الفلسفية التي تعتني بشؤون الإنسان الحياتية. غير أن ثمة سبباً خفياً ينحجب وراء الأسباب الثلاثة هذه، عنيت به اللغة التي بها يتناول الفلاسفة القضايا المطروحة، سواء في المباحث المعرفية الصعبة أو في المباحث السهلة. غالباً ما نرشق الفلاسفة بتهمة تعقيد الأمور. والعبارة الشعبية الشائعة (لا تفلسف الأمور!) خير دليل على سقوط بعض الفلاسفة في محنة اللغة المعقدة الشائكة الصعبة. أعتقد أن الجانب اللغوي هذا لا يرتبط بدعوة الفلسفة على قدر ارتباطه بخلفية الفيلسوف وذهنيته وثقافته وطقوسه الكتابية. من الفلاسفة من يهوون التعقيد المتعمد، فيغلفون عباراتهم بضباب كثيف من الغموض الإيحائي. ومنهم من ينهجون السبيل اليسير ويعتمدون بلاغة السهل الممتنع، فيفصحون عن أعمق الأفكار في أبسط العبارات.
فلسفة النخبة وفلسفة المعدومين
على رغم هذا الاختلاف لا بد من الاعتراف بأن للفلسفة لغة خاصة لا يليق بها أن تتحول إلى سردية وجدانية تأوهية، أو أن تنقلب إلى تحليلية تبسيطية سطحية، ذلك بأن المسائل التي تعالجها الفلسفة تصيب عمق الوجود الإنساني، وتتطلب الدقة والإتقان والوضوح والصرامة والإصابة. ومن ثم يعتقد بعض الناس أنهم عاجزون عن التفكير الفلسفي بسبب من قلة زادهم المعرفي، أو لعلة كامنة في بنيتهم الذهنية الفطرية. لست من الذين يقسمون الناس فريقين: النجباء والمعدومين. لا يصح مثل هذا الاختلاف إلا في مسائل العلوم النظرية الشديدة التعقيد، كعلم الرياضيات المحض. دليلي على ذلك أن الفلسفة مقترنة بحياة الناس اقتراناً وثيقاً يفوق ارتباط أي علم آخر من العلوم الإنسانية والوضعية. فالإنسان يستطيع أن يحيا سعيداً إذا عجز عن فهم المعادلات الرياضية المفرطة في التجريد، ولكنه لا يمكنه أن ينعم بحياته إذا أعرض عن استجلاء طبيعة الوعي والضمير والوجدان والباطن والجسد والروح والنفس والعقل والفكر والعاطفة والإحساس والحدس، وأهمل معنى الكرامة والسعادة والحب والأخوة، وأغفل مقام الحق والواجب والمساواة والحرية والإبداع والفن، وتجنب النظر المتروي في مفاهيم البحث والشك والتردد والخطأ والصواب والمساحة الرمادية الفاصلة بينهما والقلق والاضطراب والألم والمعاناة. ذكرت بضعاً من القضايا الوجودية الملحة التي تستنهض وعي الإنسان العادي الذي يرغب في فهم أساسات الوجود.
أظن أن بعض الناس مفروزون للاضطلاع بمسؤوليات التخصص الدقيق بمجالات البحث الفلسفي على مستوى الشهادات الجامعية العليا. ولكني لا أعتقد أن هناك أذهاناً بشرية فلسفية وأخرى غير فلسفية، إذ إن الفلسفة تعتني بالإنسان في جميع أبعاد اختباراته الحياتية. ومن ثم، ينبغي للفلاسفة وأساتذة الفلسفة ومؤرخيها والقيمين على مصائرها أن يتقنوا لغة التواصل الإنساني الأبسط من أجل خدمة الإنسان واستنهاضه للاعتناء بمشكلات حياته اعتناءً فلسفياً. من الأسباب الجوهرية التي تستولد الأزمات الوجودية أن معظم الناس يرتجلون الأمور ويتسرعون في معالجة مسائل التوتر في العلاقات، في حين أن الفلسفة تقدم لهم نموذجاً راقياً من المنهجية التحليلية الموضوعية التي تساعدهم في معالجة أشد المعضلات الحياتية إزعاجاً وإرباكاً.
مقاصد الفلسفة: التنظير من أجل التنظير أم مخاطبة الوجدان الإنساني؟
وعليه، يجدر بالفلسفة أن تخاطب الوجدان الإنساني الفردي والجماعي، فتتقن لغة التواصل والتبليغ حتى يفهم الجميع ما تروم أن تكشف عنه من خطير المسائل ورصين المباحث. من أعظم المعاصي التي يمكن أن ترتكبها الفلسفة طلب التنظير من أجل التنظير، أي استخدام المفاهيم المجردة الضبابية الغامضة واستثمارها في توسعات وتحليلات وفتوحات لا يفقه منها القارئ إلا النزر اليسير. دعوة الفلسفة أن تساعد الإنسان في فهم معنى حياته، وإدراك رهانات الوجود، وتدبر مشكلات الانخراط في معترك العلاقات الشائكة بين الناس، وفي مسار الترابط الوثيق بين الطبيعة والوعي، ذلك بأن الإنسان كائن تاريخي يدخل في علاقة جدلية تربطه بالكون الفسيح، وبالطبيعة المكتنفة، وبالبيئة الحاضنة. جراء هذا كله، لا بد للفلسفة من أن تفسر بالعبارة الدقيقة الواضحة طبيعة هذا الانخراط وخصائصه ومشكلاته وتحدياته وآثاره.
أعود إلى القارئ العربي لأسأله عن أسباب خوفه من النص الفلسفي، وذلك من بعد أن اتضحت رسالة الفلسفة. جل ما أطلبه أن يتفرغ للقراءة اليومية، وأن يطلع على تاريخ الأفكار في مساره الأرحب، وأن يتدبر أبرز المفاهيم الفلسفية الشائعة حتى يستطيع أن يتناول النص الفلسفي من غير ارتجاف أو ارتباك. لا بد، والحال هذه، من الاستنجاد ببعض الأمثلة الدقيقة أستلها من أقوال الفلاسفة أنفسهم. في كتاب "الخواطر" يعلن الفيلسوف الفرنسي باسكال (1623 - 1662) أن للقلب تسويغات عقلية يجهلها العقل. حين يقع نظر القارئ العربي على مثل العبارة الفلسفية هذه، لا بد له من أن يدرك أن منطق العقل يخالف نبض القلب، وأن الوجدان العاطفي يحث الإنسان على السلوك مسلكاً يخالف ما تفترضه الحكمة العقلية في أحوال شتى من الحياة اليومية. في "موسوعة العلوم الفلسفية"، يصرح الفيلسوف الألماني هيغل (1770 - 1831) بأن كل ما هو واقعي عقلاني، وكل ما هو عقلاني واقعي. أعترف بأن العبارة عسيرة المنال، لا سيما إذا كان المرء يجهل فلسفة هيغل المثالية التي تفترض أن الواقع التاريخي ينطوي على بذور الفكرة المثالية، ويسير بحسب ما تمليه عليه من منطق التطور الجدلي. معنى ذلك أن كل ما يحدث في التاريخ يخضع لقانون عقلاني، ومقصد مثالي، وغاية جامعة. حتى أحداث المصادفة والشرور والمآثم تخضع لمكر العقل وحيله من أجل إنضاج التاريخ الإنساني وبلوغ المطلق الأسمى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الشذرات الفلسفية التي أنشأها الفيلسوف الألماني نيتشه (1844 - 1900) عام 1887 ونشرت بعد مماته، يعلن أن ما من وقائع، بل تأويلات وحسب. حين يدرك القارئ العربي النبيه أن نيتشه كان يرفض كل الأنظومات والمؤسسات والشرائع والأحكام التي تفرض على الإنسان فرضاً علوياً، يدرك أنه فيلسوف يؤيد الحرية الإبداعية في فهم الحياة. فلا ينسب إلى الوجود حقائق صلبة، راسخة، قاطعة، نهائية، بل يترك لكل إنسان أن يصور الحياة بحسب اختباراته الوجدانية الخاصة. أما القول الفلسفي الأخير فأستله من كتاب الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913 - 2005) "الذات عينها كآخر"، وقد صاغه على هذا النحو "أقصر طريق من الذات إلى الذات يمر بالآخر". لا ريب في أن مثل هذا الإعلان يدل على مقام الإنسان الآخر في وعي الذات التي لا يمكنها أن تدرك هويتها ومقامها وفرادتها إلا إذا خالطت الآخر، واحتكت به، وتفاعلت وإياه، وعاينت ذاتيتها في مرآته التي تعكس لها وجهاً آخر يختلف عن الوجه الذي ترسمه لنفسها. ومن ثم، فإن الآخر ضروري في تعريف الذات، إذ إن الإنسان لا يمكنه أن ينغلق على هويته ويكتفي بما ينجلي له منها. الآخر نعمة للذات شرط أن تكتشف الذات مقامه المغني، وشرط أن يصون الآخر كرامة الذات التي تأتي إليه.
ذكرت هذه الأمثلة لكي أبين للقارئ العربي أن القول الفلسفي ليس منعزلاً عن مشاغل الناس وهمومهم وشجونهم وقضاياهم ومشكلاتهم وأسئلتهم وإرباكاتهم. يكفي الإنسان أن يعتصم بالعزم الصادق، وأن يجتهد الاجتهاد اللائق من أجل اكتساب الأساسات المعرفية التي تهيئه لقراءة النص الفلسفي. لست أدعي أن كل النصوص الفلسفية تحمل إلينا وعود الابتهاج باعتلان المعاني المضيئة المفيدة الهادية، ولكن المراس اليومي يجعلنا نفوز بمنعة ذهنية وصبر مقتدر وخبرة متعاظمة، فلا نعود نتهيب القول الفلسفي ونتهرب من التفكير الاستيضاحي والنقدي الذي يستطيع أن يهذب خلقنا ويطور وعينا ويرتقي بنا إلى مقام النضج الإنساني الرفيع.