Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حدود الإضراب بين المسؤولية والفوضى والثورية والابتزاز

تبقى الرؤى المختلفة تجاهه تتجاذبها السياسة حيناً والأيديولوجيا والمعتقد حيناً والدولة وهامش التعبير دائماً

سمعة فرنسا في الإضرابات تسبقها ورغم أنها لا تتصدر القائمة فإن المتابعين يعرفون أن ثقافة الإضراب متأصلة هناك (أ ف ب)

من أكبر الإضرابات في التاريخ الذي حدث في الإمبراطورية الرومانية عام 494 ق.م، عندما أضرب العوام، وهم طبقة أعلى من العبيد ويشكلون عمال البناء والمخابز والخدمات، لاعتراضهم على قانون يزيد من حجم ديونهم. ولم يؤد توقفهم التام عن العمل إلى إلغاء القانون المجحف فقط، بل ضمن وجود ممثل عنهم في الحكومة.

ومن أغرب الإضرابات كان إضراباً شهدته فرنسا –المعروفة أصلاً بغرابة موضوعات إضراباتها- العام الماضي، حين أضرب آلاف القضاة عن العمل بعد ما توفي قاض فرنسي بسبب إجهاد العمل وكثرة القضايا.

ومن أطول الإضرابات أمداً إضراب عمال فندق وكازينو "فرونتير" في لاس فيغاس في ولاية نيفادا الأميركية اعتراضاً على تدني الرواتب والمعاملة غير اللائقة، وذلك في سبتمبر (أيلول) عام 1991. استمر الإضراب ست سنوات وأربعة أشهر وعشرة أيام. وتم إنهاؤه في فبراير (شباط) عام 1998. ويشار إلى أن الإضراب كان على مدى الـ24 ساعة طوال أيام الأسبوع، ولم يخرقه عامل واحد، وانتهى لصالح العمال.

أما أول إضراب مسجل في التاريخ فكان في مصر بحسب موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية. نظم حرفيو المقبرة الملكية في "دير المدينة" إضراباً عن العمل في عام 1152 ق.م، وكان ذلك في عهد الفرعون رمسيس الثالث، وأحداث الإضراب مدونة بالتفصيل على بردية مصرية.

البردية لا تنص على حق العامل في الإضراب، لكنها تشير إلى أن العامل أضرب بالفعل، وإلى أن إضراب العامل أدى أحياناً إلى نتائج في صالحه، وأحياناً أخرى لصالح صاحب العمل أو الحاكم أو الحكومة.

الحكومات لا تحب الإضرابات

الحكومات لا تحب الإضرابات لكن العمال يحبونها. وحين يصل عامل ذو تاريخ عريق في دنيا الإضراب إلى كرسي من كراسي الوزارة يجد نفسه ممزقاً بين تاريخه الإضرابي وحاضره السياسي، إنها سنة الإضراب.

وبحسب "منظمة العمل الدولية" فإن الإضراب هو أحد الوسائل الأساسية المتاحة للعمال ومنظماتهم لتعزيز مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، لكنه يظل الشكل الأكثر جرأة وإثارة للجدل من أشكال العمل الجماعي في حال حدوث نزاعات أو اعتراضات عمالية، إذ يفترض أن يكون الملاذ الأخير للعمال أو اتحاداتهم ومؤسساتهم الساعية إلى تحقيق مطالبهم.

والحق في الإضراب –بحسب منظمة العمل الدولية أيضاً- ليس مطلقاً، بمعنى آخر هو يخضع لشروط وقيود وقواعد قانونية، وقد يحظر لظروف استثنائية. وتشير المنظمة إلى أن العمال في بعض الدول يتمتعون بحق الإضراب سواء كانوا يعملون في القطاع العام أو الخاص، من دون النظر إلى أثر توقف العمل في مؤسساتهم. وفي دول أخرى يمنع من الإضراب العاملون في القطاع الحكومي، أو العاملون في الخدمات الأساسية التي تقدم الخدمات اليومية الضرورية للحفاظ على الحياة والصحة والسلامة العامة والأداء المجتمعي الأساسي (مثل الأطباء والتمريض والشرطة والجيش). ومن الدول ما يحظر الإضراب في أحوال استثنائية تتعلق بالطوارئ، وبالطبع هناك دول تحظر الإضراب بشكل مطلق.

الإضراب والديمقراطية

الخبثاء يربطون بين هامش الحق في الإضراب ومدى اتساعه وهامش الديمقراطية ومجال هيمنتها. اليساريون كذلك باختلاف أطيافهم من اشتراكيين واشتراكيين ديمقراطيين وماركسيين ولينينيين وتروتسكيين وغيرهم يفاخرون بأن الحق في الإضراب سمة من سمات اليسار عكس اليمين الكاره له.

لكن واقع الحال يشير إلى أن دولاً تحكمها تيارات اليمين والمحافظين التي أتت بها أصوات الناخبين، وأخرى يتقاسم فيها اليمين واليسار الشعبية السياسية بمقدارين أقرب ما يكونان إلى التطابق، تتنافس في ما بينها على صدارة "الدول الأكثر إضراباً".

الدول الأكثر إضراباً بحسب موقع "ستايستا" المعنى بالإحصاءات والنسب هي بالترتيب: فرنسا والدنمارك وبلجيكا وكندا وإسبانيا والنرويج وفنلندا وإيرلندا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وسويسرا.

سمعة فرنسا في الإضرابات تسبقها على رغم أنها لا تتصدر القائمة، لكن المتابعين لأحوال الإضرابات يعرفون أن ثقافة الإضراب في فرنسا متأصلة. وكالة الأنباء الفرنسية نشرت عام 2019 موضوعاً عنوانه "ولدت لتضرب" في إشارة إلى فرنسا التي تبدو دائماً وكأنها إما غارقة في إضراب كبير، أو أن إضراباً ما يلوح في الأفق.

الأفق المزمن للإضراب في فرنسا له أسباب كثيرة تتراوح بين الأصول الثورية للجمهورية الفرنسية وفلسفتها التعليمية وتقاليدها النقابية ونظامها الانتخابي. ويكفي أن فرنسا تشهد إضراباً واحداً في الأقل سنوياً في قطاع السكك الحديدية منذ عام 1947.

وتحاول بريطانيا جاهدة منافسة فرنسا على صدارة الإضرابات العمالية. وقد أبلت بريطانيا بلاء جيداً، ولكن عليها بذل مزيد لتنافس "صديقتها اللدودة فرنسا، وهما الدولتان الملقبتان بأفضل صديقتين عدوتين أو Best frenemies، في إشارة إلى المنافسة الحامية والسخرية المتبادلة بينهما على مدى قرون.

إضراب التمريض

أحدث وأحد أخطر الإضرابات البريطانية التي تشق صف البريطانيين تجاه الفكرة هو الإضراب الذي تم التصويت لصالحه من قبل العاملين والعاملات في قطاع التمريض في كل بريطانيا. قبل أيام قليلة، أعلنت نقابة "الكلية الملكية للتمريض" البريطانية أن العاملين في قطاع التمريض في كل أنحاء بريطانيا صوتوا لصالح تنظيم إضراب وطني للمطالبة بزيادة الأجور.

ويعد ذلك هو الإضراب الأكبر من حيث اتساع نطاقه والأخطر من حيث آثاره المتوقعة في المرضى بمستشفيات بريطانيا، لا سيما في هيئة التأمين الصحي التي تعاني الأمرين أصلاً لأسباب اقتصادية ضاغطة تفاقمت مع معدلات التضخم القياسية الحالية، إضافة إلى آثار الإغلاق وشبه الإغلاق أثناء عامي "كوفيد-19"، وهو ما تسبب في فوضى شديدة في قوائم المرضى والعمليات الجراحية والعلاجات وغيرها.

الإضراب الذي يتوقع أن يبدأ قبل نهاية العام الحالي سيؤثر في غالب مستشفيات بريطانيا التي صوتت لصالح الإضراب. وأشار بيان النقابة إلى أن "النتائج واضحة. لقد تحول الغضب إلى أفعال، وأعضاء نقابتنا قالوا: كفى".

رضا الناس

الرضا من قبل المواطن العادي شديد الـتأرجح والتباين. فعلى رغم التعاطف بشكل عام مع أعضاء النقابات العمالية الذين يطالبون بظروف عمل أفضل وبالطبع رواتب أعلى ولا سيما في الظروف الاقتصادية الصعبة، فإن موقف البريطانيين من الإضرابات يختلف باختلاف درجة التأثر بها.

أكثر الإضرابات العمالية شهرة وتكراراً واعتياداً في بريطانيا هي إضرابات عمال القطارات ومترو الأنفاق وأحياناً باصات النقل العام. وعادة ما تجري إدارة هذه الإضرابات المتكررة بشكل احترافي، حيث يتم توفير وسائل انتقال بديلة، أو خفض معدلات التقاطر، أو التنبيه قبلها بوقت كاف حتى يدبر المواطنون أمورهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في يونيو (حزيران) الماضي، وفي عز تواتر إضرابات القطارات في بريطانيا، أظهرت نتائج استطلاع أجرته "إبسوس" (المتخصصة في بحوث السوق) أن البريطانيين منقسمون في تأييدهم لإضرابات عمال القطارات. 35 في المئة قالوا إنهم يؤيدون الإضراب و35 في المئة يعارضونه. وعلى رغم أن الغالبية قالت إنها تؤمن بأن النقابات العمالية تلعب دوراً بالغ الأهمية من أجل ضمان حقوق العمال في شتى القطاعات، فإن كثيرين قالوا إن الإضرابات أثبتت أنها غير مجدية، إذ لم يسفر عنها تحسن في أوضاع العاملين، إضافة إلى أنها تسبب الكثير من الفوضى والخلل للمواطنين.

هذه المرة الفوضى والخلل المتوقعان سيضران بقطاع التمريض بالغ الحيوية للمرضى وسلامتهم. الممرضات والممرضون المؤيدون للإضراب يقولون إنهم يضربون ليس فقط للمطالبة بأجور أفضل وظروف عمل أحسن، ولكن للحفاظ على سلامة المرضى التي باتت في خطر بسبب قلة عدد طواقم التمريض بعد أن هجرها كثيرون بحثاً عن مهن أخرى تدر دخلاً أوفر، وتحميل المتبقين قدراً أكبر من العمل مما أثر سلباً في أداء التمريض في معالجة المرضى بالتالي تعرضهم للخطر.

لكن المرضى –حتى أولئك الذين يؤيدون في قرارة أنفسهم حق طواقم التمريض في الإضراب لتحسين ظروفهم- يجدون أنفسهم في موقف رافض للإضراب خوفاً على سلامتهم.

المعروف أن إعلان التصويت لصالح الإضراب لا يعني بالضرورة إعلان الإضراب فعلياً. فالتصويت بغالبية لصالح الإضراب يعد مرحلة من مراحل التصعيد والضغط على الحكومة أو صاحب العمل لتنفيذ المطالب المشروعة والعادلة. يسميها البعض مراحل كسب الوقت، لكن كسب الوقت لعبة تتقنها كل الأطراف. وأكثر الأطراف احترافاً في هذه اللعبة غالباً هي الحكومات.

"نقدر ونتفهم لكننا نعجز"

الناطق باسم رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك قال "إننا ننظر بتقدير كبير إلى العمل الجاد والتفاني من الممرضين والممرضات، والحكومة تؤيد تسوية عادلة للأجور مع نقابة الكلية الملكية للتمريض".

في الوقت نفسه، قال إن مطلب زيادة الأجور بنسبة 17 في المئة يعني تسعة مليارات جنيه استرليني (نحو 11.8 مليار دولار أميركي) ليغطي كل العاملين في التأمين الصحي الوطني، وهذا ما لا يمكن تحقيقه حالياً.

يشار إلى أن العجز الحالي في الميزانية يصل إلى 40 مليار جنيه استرليني (نحو 46 مليار دولار).

وليس إضراب التمريض هو الوحيد الذي يلوح في أفق البريطانيين، بل يأتي مصحوباً بإضرابات عمال القطارات وانتهائها ثم التلويح بمزيد منها، وكذلك مفاوضات إضراب عمال الإطفاء والمحامين الجنائيين وعمال البريد وعمال الموانئ وعمال الاتصالات والمعلمين وعمال جمع النفايات وغيرهم.

حق الإضراب غائب

الغريب أن الحق في الإضراب ليس منصوصاً عليه في بريطانيا، لكن قواعد الإضراب تنص على أنه في حال تصويت غالب أعضاء نقابة ما على الإضراب فإن الإضراب يتم، ولكن بعد إخبار صاحب العمل أو الجهة بـ14 يوماً في الأقل. وقد يخسر العمال المضربون أجورهم عن الوقت الذي أضربوا فيه ولم يعملوا.  

العمل اللائق هو الحد الفاصل، أو هكذا يفترض، بين الإضراب من عدمه. وفي دراسة عنوانها "المؤشرات الإحصائية للعمل اللائق: إحصاءات الإضرابات وحالات الإغلاق في السياق الدولي" للباحث الأكاديمي في منظمة العمل الدولية إيغور شيرنيشوف، اعتبر الإضراب مقياساً لفشل الحوار المجتمعي بين العمال وجهة العمل. وميزة الإضراب أنه يحظى بتغطية إعلامية كبيرة ويصل إلى الجمهور ويحوز اهتمامه، لكنه يشير كذلك إلى أن عدم حدوث إضرابات ربما يكون بسبب غياب الحق في الإضراب وكذلك الحق في إقامة حوار بين العامل وصاحب العمل أو جهته.

نزاع الحقوق والواجبات

ويعرف الإضراب بأنه توقف موقت عن العمل تقوم به مجموعة أو مجموعات من العمال بغرض فرض مطالب غالباً تتعلق بظروف العمل والأجور، أو مقاومة مطالب "غير عادلة" تفرضها جهة العمل أو صاحبه.

حين تتعلق الأمور بالحقوق والواجبات تلوح في الأفق نظرية النسبية. فما يعتبره العامل حقاً يراه صاحب العمل طلباً قد يقبل وقد يرفض. وإن قبل فهو تيمن وفضل منه. وما يعتبره صاحب العمل حقاً له من حيث زيادة ساعات العمل أو مسؤولياته أو التغاضي عن ظروف العمل الضاغطة هو ظلم وعدوان وقهر من وجهة نظر العامل.

أحد رجال الأعمال المصريين قال قبل سنوات معلقاً على إضراب نظمه عمال مصنعه "هم يضربون عن العمل، وأنا أضرب عن سداد رواتبهم. العين بالعين والسن بالسن والإضراب بالإضراب".

والإضراب بالطبع لا يفترض أن يقابل بالإضراب، لأنه في الأصل مرتبط بحق مهدر أو ظرف مجحف أو استقواء من قوي على من هو أقل قوة منه. التيارات السياسية اليسارية غالباً تعتبر الإضراب إحدى نقاط قوتها الرئيسة. وهي كذلك بالفعل، إذ إن النسبة الكبرى من النقابات والاتحادات العمالية غالباً تطغى عليها انتماءات وأهواء يسارية.

لينين والثوران

ثمة مقال عنوانه "لماذا يكره الرأسماليون –ويخافون من- الإضرابات؟" على موقع "صوت اليسار" (شبكة دولية لأصوات المنتمين إلى اليسار في عدد من الدول) يعتمد في جوهره على تحليل ما كتبه المفكر والسياسي الشيوعي ومؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين عن الحكومة –أي حكومة- باعتبارها "وكيل رأس المال".

كتب لينين أن "كل إضراب من شأنه أن يقوي ويطور فهم العمال بأن الحكومة الممثلة في رأس المال هي عدوهم، وأن الطبقة العاملة يجب أن تعد نفسها للنضال ضد الحكومة، أي ضد رأس المال، من أجل الحصول على حقوق الشعب".

ومضى لينين شارحاً محورية الإضراب وأهميته حيث "لا يتحقق الإضراب وأهدافه إلا باتحاد ونضال العمال ضد الرأسماليين، أي ضد طبقة أصحاب المصانع وضد الحكومة البوليسية التعسفية. ولهذا السبب يسمي الاشتراكيون الإضرابات مدرسة الحرب. إنها المدرسة التي يتعلم فيها العمال شن الحرب على أعدائهم من أجل تحرير الشعب من نير المسؤولين الحكوميين ومن نير رأس المال".

وعلى رغم هذا الإصرار على ربط الإضراب باليسار والتيارات الاشتراكية والأيديولوجيا الشيوعية بأطيافها، فإن أكثر الاتحادات والنقابات العمالية إضراباً تقع في الدول الغربية.

ثقافة الإضراب

تظل فكرة الإضراب وثيقة الصلة بالثقافة وطبيعة المجتمع وتكوينه وخصائصه، وبالطبع تركيبة النظام السياسي فيه. وتتراوح هذه الثقافة عربياً بين القبول والرفض المجتمعي، وبين الاستغلال السياسي والوأد الاجتماعي، وبين التوظيف الانتخابي والتحريم أو التحليل الديني بحسب المراد.

على سبيل المثال، فإن ثقافة الإضراب كانت متأصلة لدى نقابات عمالية في مصر لا سيما مدينة المحلة الكبرى التي كانت تزهو بمصانع الغزل والنسيج. ويعود تاريخ إضرابات العمال في هذه المدينة إلى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي. وقد شهدت المحلة في يوليو (تموز) عام 1938 الإضراب العمالي الكبير الأول اعتراضاً على تنظيم العمل في ورديات كل وردية 11 ساعة مع إجحاف شديد في الأجور.

وشهدت المدينة تواتر الإضرابات على مدى العقود، تارة للمطالبة بحقوق العمال وأخرى تضامناً مع عمال في مصانع أخرى بمدن أخرى. وتسارعت حدة الإضرابات في السنوات القليلة المؤدية إلى أحداث يناير (كانون الثاني) 2011. واستمرت إلى حد ما في السنوات القليلة التالية، إلى أن توقفت تماماً.

انتشار فيروسي

توقف الإضرابات في مصر –أو توقيفها- جاء بعد أشهر طويلة من سيولة الفكرة وتحولها إلى فيروس ينتشر في كل القطاعات المطالبة بزيادات في الرواتب مع غيبة كاملة لأي تنظيم لسير الأوضاع أثناء الإضراب أو وضع مخطط زمني له، كما تحول بعضها إلى العنف، وتزامن توسعه في عشرات المؤسسات والقطاعات في ظل أوضاع أمنية غير مستقرة. من جهة أخرى، بدأت الإضرابات تخرج من حيز المطالب والحقوق العمالية وتتلون بألوان الاستقطاب السياسي الحاد الذي ساد بعد صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم.

الغريب أن الجماعة تأرجحت مواقفها من فكرة الإضراب بين التحليل والتحريم، والتشجيع والتنديد بحسب موقعها وقت الإضراب. فوقت أن كانت في السلطة كان الإضراب حراماً وإخلالاً بالأمن والنظام، وخارج السلطة يكون الإضراب حلالاً وتحقيقاً للمطالب المشروعة.

وتبقى الرؤى المختلفة تجاه الإضراب تتجاذبها السياسة حيناً، والأيديولوجيا والمعتقد حيناً، ومفهوم قبضة الدولة وهوامش التعبير دائماً.

يشار إلى أن دار الإفتاء المصرية أصدرت فتوى عام 2012 قالت فيها إن الدعوة إلى الإضراب العام، بمعنى إيقاف السكك الحديدية والمواصلات والنقل والعمل في المصانع والمؤسسات والجامعات والمدارس والتوقف عن سداد الأموال المستحقة للحكومة من ضرائب وفواتير كهرباء ومياه وغاز، حرام شرعاً، وذلك لخطورته على تفاقم الأوضاع الاقتصادية السيئة وتعطيل مصالح الناس وتعريض حياتهم للخطر، فضلاً عن أنها قد تؤدي إلى تفكيك الدولة وانهيارها.

وعلى رغم ذلك فإن مصادر الفتاوى المتعددة بينها ما يعتبر إضراب الموظف عن العمل حلالاً شرعاً حتى تتحسن أوضاعه الوظيفية، ومنها ما يربط الإضراب بعقيدة الحاكم فإن كان "كافراً" فالإضراب حلال وإن كان مؤمناً فحرام، وهلم جرا.

الإضراب عن الطعام

أما ما يجري في بعض الأحوال من إضراب عن الطعام، فغالباً يكون بقرارات فردية من أشخاص يعتبرون توقفهم عن تناول الطعام شكلاً سلمياً من أشكال الاحتجاج. وغالباً يرتبط الإضراب عن الطعام بالمقاومة السياسية، سواء للأفراد العاديين أو المسجونين. وفي المنطقة العربية يعد إضراب الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية عن الطعام أشهر أنواع الإضراب.

الإضراب عن الطعام وسيلة للتعبير عن الاحتجاج على وضع ما أو المطالبة بمطالب يراها المضرب مشروعة. وهناك طرق عدة للإضراب عن الطعام. فهناك من يبدأ إضرابه بداية كلية حيث يمتنع عن الأكل مكتفياً بالسوائل والماء، وهناك من يمتنع عن كليهما، وهناك من يكسب وقتاً عبر تقليل الأكل تدريجاً عسى أن تستمع الجهات المسؤولة وتخشى موته وما يترتب عليه من سمعة سيئة أو ما شابه.

بمعنى آخر، الإضراب عن الطعام هو أن يمتنع الشخص عن الأكل إلى أن يصل عند باب الموت. وقتها تختار السلطات إما أن تحول دون موته بتنفيذ مطالبه، أو تتركه ينتقل إلى العالم الآخر.

وتجدر الإشارة إلى أن الإطعام القسري تمنعه وتجرمه وتحذر منه منظمات أممية وجماعات حقوقية عدة. اللجنة الدولية للصليب الأحمر مثلاً تعارض الإطعام أو العلاج القسري للمضرب عن الطعام في أماكن الاحتجاز. وتطالب باحترام خيارات المحتجزين والحفاظ على كرامتهم الإنسانية. وينص إعلانا مالطا وطوكيو (2006) في هذا الشأن على أنه "لا ينبغي اللجوء إلى التغذية الصناعية في حال قيام سجين برفض الطعام في الوقت الذي يرى فيه الطبيب أنه قادر على اتخاذ حكم عقلاني سليم في ما يخص العواقب المترتبة على رفضه الطعام طوعاً. وينبغي أن يعزز في الأقل طبيب مستقل آخر القرار الخاص بقدرة السجين على إصدار مثل هذا الحكم. ويشرح الطبيب للسجين النتائج المترتبة على امتناعه عن الطعام".

والتاريخ، لا سيما المعاصر عامر بشخصيات مشهورة سارت في طريق الإضراب عن الطعام. أشهر المضربين كان المهاتما غاندي، وكذا "إضراب طعام إيرلندا" عام 1981 الذي قام به محتجزون من أفراد "الجيش الجمهوري الإيرلندي" ليلقوا معاملة السجناء السياسيين، بعد أن انتهجوا طريق "إضراب القذارة" حيث امتنعوا عن الاستحمام أو الخروج من زنازينهم وغطوا جدرانها بفضلاتهم، ثم بدأوا إضراباً عن الطعام، وانتخب أحدهم وهو بوبي ساندز عضواً برلمانياً من محبسه، لكنه وتسعة من رفاقه ماتوا بسبب الإضراب.

عربياً، يتلون الإضراب عن الطعام كذلك بألوان العقيدة، حيث لا يخلو الأمر من سؤال رجال الدين حول رأي الدين في من يضرب عن الطعام لا سيما أنه يلحق الضرر بنفسه وقد يموت. نسبة كبيرة من الفتاوى تحرم الإضراب عن الطعام، لكن هناك من يجعلها مشروطة بسبب هذا الإضراب.

المزيد من تحقيقات ومطولات