Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جويس كارول أوتس عاشت مرارة الترمل مرتين

في روايتها الجديدة "تنفس" تسترجع جو احتضار زوجها الثاني بحال من التشوش

الروائية الأميركية جويس كارول أوتس (صفحة الكاتبة - فيسبوك)

لطالما حظيت السيرة الذاتية بأجواء مشحونة لم يرتق الخيال لبلوغها، وعلى رغم ما ابتلي به البوح من انتقاد المتحفظين وضابطي النفس، فقد تمكن دون سواه من تمديد التجربة البشرية على طاولة الفحص والتشريح، سواء على مستوى القراء أو بالنسبة إلى الكاتب نفسه، وبقدر ما أسفرت الكتابة الذاتية عن تكرار المعاناة وتشابهها في كثير من الأحيان، فهي برهنت على تفردها المطلق بتفرد راويها، وبما يؤهلها دائماً للاستحواذ على وعي القارئ وتقديم واجب العزاء له على اختلاف مشاربه، نتيجة كهذه تدحض رأي البعض في ضرورة اقتصار كتابة السيرة الذاتية على الشخصيات المهمة، بزعم أنها لا تكتسب أهميتها إلا من خلاله.

في روايتها "تَنَفَس" التي صدرت للمرة الأولى في أغسطس (آب) 2021 عن دار إكو، وأعادت دار لا ناف دي تيسيو نشرها في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، تستثمر الكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس معاناتها الشخصية في بطلتها ميكايلا البالغة من العمر 37 سنة، لفهم مشاعر الفقدان من خلالها بشروطه المخيفة وحقيقة أننا سنفقد في النهاية من نحبهم، شئنا ذلك أو أبينا، لكن أهمية هذه السيرة لا تعود إلى كون كاتبتها مشهورة لها أكثر من 50 رواية، فضلاً عن عدد من المسرحيات والمجموعات القصصية ودواوين الشعر والكتب غير السردية، بل تنبع بالأحرى من طبيعة تجربة أوتس الخاصة كامرأة محبة جربت مرارة الفقدان أو الترمل مرتين.

الحب لا يصنع المعجزات يا حبيبي

كرست أوتس روايتها "تَنَفَس" لزوجها الثاني، تشارلز غروس، الذي توفي في 2019، ومثل أوتس، الشخصية الرئيسة في الرواية هي ميكايلا، كاتبة ومحاضرة ناجحة، أما زوجها جيرارد، فهو عالم أعصاب مثل غروس تماماً، جيرارد وميكايلا أكاديميان انتقلا لتوهما من بيتهما المريح في ماساتشوستس للعمل في معهد مرموق في مدينة صحراوية، حيث لا أحد يعرفانه هناك، ويبدو أن طبيعة عملهما المستغرقة لكامل وقتهما لم تتح لهما تكوين صداقات، أو أن علاقتهما تكفلت بتعويض هذا الجانب.

 

في المنزل الجديد تستوقف ميكايلا الحضارة الأميركية المفتقرة للأصالة، حين تحدق في التماثيل والقطع الأثرية القبيحة المتناثرة في كل مكان، ومنها تمثال لأنثى فظيعة الخلقة، وعلى رغم فشلها في كبح شعور الانقباض المتصاعد، تخشى أن تخبر زوجها بهواجسها حتى لا تثير قلقه، بل يتعين عليها أن تعدل توقعاتها ولا تثقل على جيرارد بمخاوفها وخيبات أملها، لكن ما يدعو للأسف في تلك القصة رغبة ميكايلا الجارفة في اختبار شهر عسل لم يتح لها أن تعيشه وقت زواجهما قبل 12 عاماً، فطمحت أن تكون الرحلة إلى أرض جديدة تعويضاً عن هذه اللحظات التي لم يتسن لها معايشتها في حينها.

يبدو أن من يخا ف العفريت يتراءى له أو أن الإنسان مجبول على استشعار الشر قبل قدومه، فما بين غمضة عين وطرفتها يقع جيرارد فريسة لمرض عضال، ويلوح في الأفق احتمال الترمل للمرة الثانية وفقد الشخص الذي شكلت هويته هويتها، "إذا لم يكن هناك من يحبنا، فهل نحن موجودون؟"، "إذا لم يكن هناك من يحبنا فهل نستحق الوجود؟ "هل نستحق الحياة بعد موت من نحبهم؟"، و"كيف نحافظ على تقديرنا لذواتنا عندما نخسر أولئك الذين كنا نقدرهم أكثر منا؟". حمم من الأسئلة تتدافع إلى ذهنها المستشيط غضباً وهي تشهد انطفاء النور على وجه زوجها تدريجاً، فتخجل من جذوة الحياة المتقدة داخلها وتتوسل إليه بيأس أن يتنفس، "لا تتوقف عن التنفس"، تقول له.

جيرارد هو سندها وحاميها، يحتل في حياتها منزلة أقرب إلى الأب منه إلى الزوج، لقد عاشت الاثنتي عشرة سنة الماضية من حياتهما على ضوء حبه وحضوره ورعايته، ولا يمكنه التخلي عنها هكذا يجب أن يتنفس، "تنفس يا حبيبي"، تقول له. لو استطاعت، لمنحته كل أوكسجين رئتيها، كيف يمكن أن تستمر في عالم لم يعد موجوداً فيه؟ من هي من دونه؟ لا أحد لا شيء.

 

في لحظات الأمل يتغلب عليها نوع من الاعتقاد الطفولي، تعتقد أن حبها وحده يستطيع أن ينقذه ويطرد الموت خارج بيتهما، وبأن بوسع رغبتها في الحياة أن تهبه الحياة، لكن إرادتها تتحطم على أرض الواقع فمن غير المتوقع حقاً أن ينجو جيرارد من مرضه المهلك لأنها تحبه فحسب.

 الحياة تنتصر في النهاية

تجسد الفصول الأولى، وهو ما أخذ عليها، حال الارتباك والتشوش الذي يحيق بامرأة على وشك الترمل عبر الجمل والفقرات غير المكتملة بتيار الوعي التي غالباً لا تفضي إلى معنى، بل تعكس فقط مرحلة من الفوضى والتهلهل في مقابل مدينة ساكنة بسمائها التي تشبه "سماء إل غريكو المظلمة"، وفق رأي النقاد، هذه المشاعر ترسخها التماثيل المقبضة لآلهة بويبلو، وتفضي بها إلى حالة من التوجس المصحوب بالإذلال من أن تكون ضحيتها الوشيكة، "إله بتجويفين بلا عينين، إله يشبه الجمجمة، وحش، إله المصائب على استعداد لالتهام أعضاء الجسم".

وكلما زاد الهذيان، ازداد تلاعبها بالضمائر من المتكلم إلى المخاطب وحتى الغائب، كما الحال في تذبذب التسلسل الزمني بين الماضي والحاضر والمستقبل في الفصل نفسه، مما جعل البعض يرونها رواية مفككة، ولكن "كيف تعطي للسرد معنى، عندما تكون طبيعة ما حدث غير واضحة حتى للشخص الذي حدث له"، لذا تستخدم علامات التعجب بإفراط للتعبير عن هذا الاغتراب الجنوني والانجراف إلى المرض، ولعل تغيير مسرح الأحداث من نيو إنغلاند أو نيوجيرسي، ومعظم الأماكن التي اعتادت أوتس رسم مشاهدها في إطارها إلى تضاريس صحراوية مخيفة، ساعد إلى حد كبير في تحفيز وتيرة القلق المقصودة، فتصف المناظر الطبيعية وأجواء هذا الموقع الجنوبي الغربي بنوع من التطير، "سماء من السحب المنحوتة على نحو حاد يجرح العين، مثل هذا الجمال غير المعروف في الشرق حيث يلتهم منظر المدينة ثلاثة أرباع السماء مع هواء مشبع بالضباب"، هذا ما يجعل من المؤثر بقاؤها العنيد في هذا المنفى الذي فرضته على نفسها بدافع الشعور بالواجب، ولأن المغادرة تعني الاعتراف بأنها فقدت زوجها حقاً، فهي لا تخشى من المبالغة لتوضيح أن فقدان من تحبه يقتطع جزءاً منها، ويفضي بها في النهاية إلى تكوين صورة كاريكاتيرية لبطلتها التي لا يوفر لها العلم ولا الدين الراحة المنشودة.

 

غالباً ما تتعلق روايات أوتس بإشكالية البقاء على قيد الحياة لأولئك الذين يواجهون مواقف استثنائية، وخلال مسيرتها المهنية الغزيرة التي استمرت ستة عقود شحذت بعض الاستراتيجيات لنقل تلك الحالة ببراعة لا نظير لها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في عام 2011، نشرت روايتها "قصة أرملة" التي جمعت نصوصاً عن وفاة زوجها الأول، ريموند سميث، عام 2008 من مضاعفات الالتهاب الرئوي، وكان الكتاب مليئاً بالتفاصيل اليومية، ولاحظ النقاد أن أوتس غطت كل شيء تقريباً باستثناء حقيقة أنها تزوجت من غروس بعد أقل من عام من وفاة سميث. وها هو غروس يلحق به وعلى نحو مفاجىء وكأنها إزاء لعنة تتكرر، في أثناء الجنازة تسهب في الحديث عن سخافة اسم المكان الذي تتم فيه (معبد الأجراس) وعبثية كلمة رماد الجثة، وعلى رغم أن عالمها قد تلاشى فعليها المواصلة وتحرير المخطوطة التي تركها غروس غير مكتملة بعنوان "الدماغ البشري وإزعاجاته"، في الوقت الذي تزاول عملها في تدريس دورة في كتابة المذكرات، لمجرد أن الحياة لابد أن تستمر، وأن علينا أن نتحلى بالأمل، مما يدفعها إلى تحوير جملة إميلي ديكنسون الشهيرة إلى "الأمل هو الطعم المسموم، يأكل منه الرجال ويموتون".

سيدة الأدب الأميركي 

أوتس من مواليد 16 يونيو(حزيران) 1938، كاتبة غزيرة الإنتاج، حتى الآن تستخدم القلم والورق في الكتابة، وتعمل يومياً من الثامنة صباحاً حتى الواحدة بعد الظهر، ثم تستأنف لمدة ساعتين أو ثلاث في المساء، في عام 1989كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" أن "اسم أوتس مرادف للإنتاجية"، وفي عام 2004، أشارت صحيفة "الغارديان" إلى أن "كل مراجعة لكتاب أوتس تقريباً، على ما يبدو، تبدأ بقائمة إجماليات منشوراتها".

منذ روايتها الأولى "بسقوط مرتعش" 1963 ظهرت قدرتها الفائقة على التحليل الاجتماعي، لا سيما ما يخص المجتمع الأميركي والتحولات التي مر بها إلى جانب اهتمامها بالطابع القوطي والرعب، تأثراً بكافكا وعوالمه الغامضة، وهو ما يبدو جلياً في مجموعتها القصصية "الأنثى كنوع" المترجمة إلى العربية في سلسلة الجوائز الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وصدر لها عن السلسلة نفسها أيضاً رواية بعنوان "الشلالات".

تأثرت أوتس أيضاً بهنري جيمس وهنري ديفيد ثورو، ووليام فوكنر وولعت بجيمس جويس، وهي من محبي الشاعرة والروائية سيلفيا بلاث، ووصفت رواية بلاث الوحيدة "الناقوس الزجاجي" بأنها عمل فني شبه مثالي، ولكن على رغم أنها غالباً ما تقارن ببلاث، فهي تتنصل من رومانسية بلاث وإنهاء حياتها بالانتحار، وتفضل الناجين الماكرين من النساء والرجال أمثالها تقريباً.

من بين الموضوعات المتكررة في أعمالها الفقر، والاعتداء الجنسي، والتوترات الطبقية، والرغبة في السلطة، ومرحلة طفولة الأنثى ومراهقتها، فضلاً عن العنف المتجذر في كل أعمالها، حتى إنها اضطرت إلى كتابة مقالة رداً على السؤال، "لماذا كتابتك عنيفة إلى هذا الحد؟".

أوتس أيضاً من المهتمين بالتغريد على "تويتر"، والتفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعرضت لانتقادات بسبب تغريدة عن ارتفاع نسبة التحرش في مصر، كانت قد تساءلت فيها باستهجان "ما الدين السائد في هذا البلد؟"، فذهب البعض إلى اتهامها بمعاداة الإسلام، وتعرضت أيضاً لانتقادات لردها على مدرسة في ميسيسيبي إثر سحب كتابها "أن تقتل طائراً مغرداً" من مناهج الصف الثامن بتغريدة تدعي أن سكان ميسيسيبي لا يقرأون، وكانت من أشد المنتقدين للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وسياساته على "تويتر" كذلك.

لقبت أوتس بـ"سيدة الأدب الأميركي السوداء" ونالت كثيراً من الجوائز، منها جائزة الكتاب الوطني وجائزة أو هنري وجائزة بن مالامود وجائزة فيمينا وجائزة القدس، ورشحت لجائزة بوليتزر ثلاث مرات، وتعد المرشحة الدائمة لجائزة نوبل كل عام تقريباً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة