Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استعادة أليس نيل رسامة مهمشي أميركا وبؤسائها

معرضها الباريسي الحالي يكشف سطوة رؤيتها الواقعية لوطنها

الرسامة الأميركية أليس نيل (خدمة المعرض)

تحظى الأميركية أليس نيل (1900 - 1984) بمعرض استعادي ضخم في باريس طال انتظاره، ينظمه حالياً لها مركز بومبيدو. ونقول "طال انتظاره" لأن هذه الرسامة الشهيرة في وطنها تستحق القدر نفسه من الشهرة خارجه، نظراً إلى موهبتها الفنية الفريدة طبعاً، لكن خصوصاً لأنها استثمرت هذه الموهبة لممارسة رسم يقع، بواقعيته وراديكالية خطابه الإنساني، على نقيض ما دعت إليه جميع الحركات الطلائعية (تجريد، بوب آرت، فن مينيمالي، فن تصوري...) التي عايشتها.

وفعلاً، طوال مسيرتها الإبداعية لم تهتم نيل سوى برسم مهمشي المجتمع الأميركي، أولئك المستبعدين بسبب أصولهم أو لون بشرتهم أو غرابة أطوارهم أو ميولهم الجنسي أو راديكالية التزامهم السياسي. ومع أنها وسعت انطلاقاً من الستينيات نطاق رسمها فقاربت موضوعات أخرى بواسطته، لكنها بقيت دائماً وفية لقناعاتها اليسارية، وهو ما يتجلى في تصريحها، بضعة أسابيع قبل وفاتها: "في السياسة كما في الحياة، لطالما أحببت الخاسرين والمظلومين. رائحة النجاح تنفرني".

تعاطف نيل مع أكثر الناس حرماناً يدرجها ضمن خط الرسامين الواقعيين الملتزمين، وفي مقدمتهم غوستاف كوربيه وفان غوخ، في أوروبا، ثم "مدرسة القمامة" في الولايات المتحدة. حين استقرت في كوبا، منتصف العشرينيات، أقنعت زوجها بمغادرة الفيلا الفخمة التي كانا يسكنانها للاستقرار في أحد أحياء هافانا الشعبية، بغية الاقتراب من موديلاتها التي كانت تسعى إلى التماثل بها، بعيداً من أي عاطفية. بالتالي، لم يكن التزامها أبداً نظرياً أو عقائدياً، بل شخصياً بعمق، تغذى من تجارب حقيقية، وهو ما يفسر وقع لوحاتها على المتأمل فيها: "أنا إنسانية فوضوية"، أجابت يوماً أحد موديلاتها، حين سألها إن كانت شيوعية.

ضد تشييء البشرية

مشروع نيل الفني هو إعادة الحياة إلى مركز الفن لمواجهة خطر التشييء المتزايد للإنسان "أنا ضد الفن التجريدي وغير الموضوعي، لأنه ينم عن لا مبالاة بالكائن البشري"، صرحت يوماً، مضيفةً "شرق هارلم مثل ساحة معركة للإنسانية، وأنا إلى جانب هؤلاء الناس. هم الذين يلهمون رسمي". ولا شك في أن تفضيلها عبارة "صور ناس" على "بورتريهات"، لتحديد طبيعة لوحاتها، نابع من مقاومتها ذلك الفن الذي "يجردنا من إنسانيتنا"، بحسبها.

على مستوى عملها الفني، لم تكتف نيل بنقل بدقة ملامح وسمات موديل ما، بل جهدت لالتقاط فرادته، وكشف عالمه الدفين: "أحد الدوافع الأولى لعملي هو تسليط الضوء على اللامساواة والحرمان عن طريق الإمساك بسيكولوجيا الناس الذين أرسمهم". وهذا ما يتجلى في لوحتها "عائلة إسبانية" التي رسمت شخصياتها أمام سياج من حديد مشغول، كما لو أنها أرادت بذلك إعادة النظر بلوحة مانيه الشهيرة "سكة الحديد". فبدلاً من شابة بورجوازية تطالع كتاب بصحبة كلب صغير وطفلة ترتدي ثوباً صيفياً، على خلفية سياج حديقة، تضعنا أمام أم شابة تحدق بنا بعينين متعبتين، محاطة بثلاثة أطفال شاردي الذهن. وإذ نشعر فوراً بالبؤس الذي تتخبط هذه المرأة داخله، تجعلنا الفنانة نستشعر أيضاً قوتها وكبرياءها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بورتريه الصحافي آرت شيلدز الذي تعكس ملامح وجهه الغائرة الهزائم المتتالية التي واجهها أثناء نضاله الثابت ضد الجور الاجتماعي، لكن بما أن سلاح نضاله كان قلمه المشحوذ فقط، تأخذ يده اليمنى شكل مسدس.

سرديات بصرية

وهذا ما يقودنا إلى الجانب الأنثروبولوجي في طبيعة مسعى نيل، إذ تقدم لنا في لوحاتها أفراداً، واحداً تلو الآخر، مع قصصهم كما يمكن أن يرويها راو ينتمي إلى تقليد ثقافي شفهي. ولذلك، تنبثق من هذه اللوحات سرديات لا تتحكم بها قوى مجردة، بل فعل بشري. ويشكل هذا المسعى نقيض تقليد البورتريه الذي يحدد كل شخص وفقاً لانتمائه إلى فريق اجتماعي أو مهني فقط. فشخصيات الرسامة يتعذر اختزالها بوظيفتها الكنائية، وتحضر كل واحدة منها كفرد مميز وفاعل. وهذا تحديداً ما يميز عملها عن عمل كوربيه أو جول أدلر أو أوتو ديكس "لدي هدفان. الأول هو الإمساك بجوهر الشخص الذي أرسمه وخيط حياته، إضافة إلى مظهره الخارجي طبعاً، وهو أمر عسير لأن الحياة هي مثل سلسلة متحركة من التعشيقات، يتغير فيها كل شيء في كل لحظة. الهدف الآخر هو الإمساك بروح العصر. أعتقد أن الفن هو أيضاً تأريخ، فكل لوحة تروي قصة زمنها، وزمننا يخضعنا لضغوط هائلة".

وبخلاف ديكس الذي كان يفضل عدم معرفة موديلاته، ويرسمها بطريقة حيادية باردة، كانت نيل تتعلق بالشخص الذي ترسمه، وبرفق كبير، كانت تحاول استكشاف آثار مرور الزمن عليه. ولذلك، كانت تتحدث باستمرار معه، وهي تتفحص وجهه ولغة جسده: "حين أتحدث مع الشخص قبل رسمه، يأخذ من دون إدراك وضعيته الأكثر تمييزاً له، التي تعري كل شخصيته وموقعه الاجتماعي، وأيضاً ما فعله العالم به وطريقة رده على ذلك". ولأنها كانت مقتنعة بالجدلية الماركسية التي تعتبر أن البيئة تشكل الناس والناس يشكلون بيئتهم، جهدت أيضاً لالتقاط في بورتريهاتها ذلك التوتر بين الخاص والعام.

واقعية سيكولوجية

واقعية الأسلوب، لم تهمل نيل أبداً البعد السيكولوجي لموديلاتها، ورفضت دور المراقب الحيادي: "إن كان لدي موهبة في علاقتي مع الناس، فهي قدرتي على التماثل بهم. حين أرسمهم، أتماثل بهم إلى حد أنني أشعر بقلق حين يغادرونني. في حضرتهم، أفقد ذاتي وأنزلق تحت جلدهم. إنها طريقتي لتجاوز الاغتراب، وتذكرتي إلى الواقع". بالتالي، حين يتعلق الأمر بمحاصرة الجانب السياسي لعملها، يتوجب الحديث عن رؤية، لأن التزامها يكمن تحديداً في طبيعة نظرتها للآخرين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفعلاً، مثل المخرج جان لوك غودار الذي رفض صنع أفلام سياسية وفضل تصوير أفلام بطريقة سياسية، لم تمارس نيل فناً ملتزماً، بل رسمت بالتزام العالم المحيط بها. ولذلك، عدد قليل جداً من لوحاتها سياسي بشكل واضح، كاللوحة التي رسمت فيها بأسلوب كاريكاتيري القادة الأميركيين الثلاثة، أيزنهاور ومكارثي ودولس، على شكل مسوخ نصف بشرية ونصف حيوانية تطير فوق أميركا الوسطى مثل فرسان نهاية العالم أو طيور كاسرة.

باختصار، لم تهتم نيل أبداً في رسمها بمقاربة الأحداث السياسية والتاريخية وتداعياتها من دون مرشح القرابة الحميمة. وفي ذلك، تقترب من المصورين الفوتوغرافيين الذين تنطبق على عملهم عبارة "النظرة الملتزمة" (عنوان معرضها). فعلى غرار عدسة الكاميرا، تستحضر داخل حقل رؤيتنا أشخاصاً كانوا يقبعون في العتمة أو غياهب النسيان، ويعانون الأمرين في حياتهم. وبخيار التأطير الذي اعتمدته طوال مسيرتها الإبداعية، لا تضعنا فقط وجهاً لوجه معهم، بل على مسافة شبه معدومة منهم، بغية عدم ترك لنا أي مخرج لتجنب النظر إليهم. بقوة تصويرية نادرة، تفرضهم علينا، موفرة بذلك لهم الانقشاع الذي حرموا منه، ويستحقونه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة