Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بيزنس الجنازات" في العالم العربي يلاحق الموتى حتى مثواهم الأخير

استدانة مبالغ ضخمة من المال لإقامة "عزاء لائق" وإسراف في الأكل والضيافة رغم أوضاع اقتصادية صعبة

تختلف تكلفة العزاء من طبقة إلى أخرى وقد تتجاوز التكلفة 15 ألف دولار (أ ف ب)

لا موت مجانيا في العالم العربي... فالرحلة الأخيرة للإنسان من هذه الدنيا الفانية، إلى تلك المكتوبة على كل نفس، تشبه تماما، رحلة القدوم، وغيرها من "الرحلات" التي يخوضها كل فرد على امتداد عمره... من ناحة التكلفة.

الموت حق، لكن "ثمنه" يشبه القضاء الذي لا فكاك من تحمل أعبائه المادية على من قدر له أن "يعيش" التجربة، لكي "يكرم" من مات فيها... بحفنة من تراب غالية جدا.

بعضهم يستعد لهذه التجربة بالادخار. وكثر تعييهم وهم يتحسبون لها.

ومع ارتفاع كلفة الجنازات ما يناهز الضعفين خلال السنتين الماضيتين للأسباب نفسها التي أدت إلى رفع أسعار كل مواد الاستهلاك حول العالم وفي العالم العربي تحديداً، بدأ بعض الشركات والمؤسسات التي تتكفل إقامة الجنازات تقديم خيارات منخفضة الكلفة للعائلات الفقيرة، وبات عدد كبير من المتوفين يحددون لعائلاتهم كيفية تأبينهم، وبعضهم يدخر كلفتها سلفاً لكيلا يضعوا عائلاتهم وأقاربهم أمام أزمة أو ضائقة مالية.

ولجأت العائلات الفقيرة في أوروبا والولايات المتحدة، وحديثاً في بعض العواصم العربية إلى مؤسسات الدفن وتحضير الجنازات التي تقدم عروضاً بسيطة بكلفة لا تزيد على 10 في المئة من الكلفة المعتمدة لجنازة في المدينة، فمساحة القبر وحدها في المدن العربية، تستحوذ على النسبة الأكبر من كلفة الجنازة التي تتضمن أيضاً الطقوس الدينية ومائدة الطعام والزينة من الزهور والصور والدعاوى وغيرها من الإضافات التي تزيد أو تنخفض بحسب الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها المتوفى، إلا في حالات استثنائية يكون قد جمع المتوفى مالاً خصصه لما بعد موته من كلفة جلسات العزاء والجنازة، وهذا ما بات يقوم به كثيرون ينوون التخفيف عن كاهل عائلاتهم كلفة إضافية مفاجئة. وعلى المبدأ نفسه تقوم شركات ومؤسسات معنية بلوازم الدفن بتقديم بوالص تأمين على الحياة تذهب فائدتها إلى كلفة التأبين، وقد تفيض عن مبلغ يعود لعائلة الفقيد كإرث بسيط.

دخل عالم الموت وأعماله بعد جائحة كورونا مرحلة جديدة قائمة على الابتكار والتنافس بين شركات التأبين والدفن لتقديم دفن متوسط، ولكن بسعر منخفض يناسب ذوي الدخل المحدود الذين تصبح كلفة الموت المفاجئ بمثابة مفاجأة مالية عليهم في زمن التضخم.

لبنان... تكلفة الموت تختلف بين القرية والمدينة

في لبنان تختلف الكلفة بين القرى والمدن ولدى جميع الطوائف. ففي القرى ما زالت العلاقات العائلية متماسكة، ومقبرة القرية مفتوحة أمام الجميع، وغالباً ما يتكفل الأهالي تسديد الكلفة البسيطة لتأمين قبر المتوفى غير المقتدر. 

 

 

لكن في المدن اللبنانية، وتحديداً في العاصمة بيروت، يختلف الأمر تماماً، فقد نشأت شركات خاصة تقوم بتأمين كل متطلبات العزاء والدفن من "الألف إلى الياء" مقابل مبلغ مالي يختلف من طائفة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى، وبحسب ما يطلبه أهل المتوفى من خدمات تبدأ من سعر أرض القبر، ومن ثم تجهيزاته من تابوت وحجارة ورخام، ومن ثم صالات التعزية في المراكز الدينية أو في الكنائس.

وهناك طبع بطاقات النعي، وأجرة سيارت نقل الجثامين وتشييعهم، والزهور لمن يطلبها، والكراسي المستأجرة لاستقبال المعزين، ورجال الدين الذين يحيون مجلس العزاء أو يقيمون الصلاة لراحة نفس المتوفى، فهؤلاء يتقاضون مبالغ مختلفة تبعاً لطبقة المتوفى الاقتصادية، أو بحسب رتبة رجل الدين الذي يقيم الطقوس. وفي المجموع العام التقريبي فإن كلفة الموت لا تقل عن 2000 دولار، ويمكنها أن تصل إلى 20 ألف دولار، بحسب أحد مكاتب دفن الموتى في بيروت.

وفي الولايات المتحدة انتشرت الإعلانات عن أفضل طريقة لـ"جعل موتك أقل ثقلاً على عائلتك والمقربين منك"، بأن تضع خطة قوية قبل وفاتك تلحظ ادخار المال الكافي لتنفيذ خطتك بعد وفاتك. وقد قامت الشركات الجديدة بالإجابة عن موقعها على شبكة الإنترنت على سؤال "ما متوسط كلفة الجنازة؟".

وبحسب إحصاءات الولايات المتحدة لعام 2022 تقام نحو 2.4 مليون جنازة سنوياً، وتتراوح كلفة الواحدة منها بين سبعة آلاف دولار و10 آلاف دولار. ووفقاً لمؤشر أسعار المستهلك ارتفعت كلفة الجنازات بنسبة هائلة بلغت 227.1 في المئة في الـ30 عاماً الماضية.

 

 

السودان... هل تكبح الضائقة الاقتصادية كلفة "بيزنس الموت" المتصاعدة؟

على رغم الضائقة الاقتصادية التي تخيم على المجتمع السوداني، إلا أن كثيراً من مظاهر الإسراف والتبذير آخذة في الزيادة خصوصاً في المناسبات الاجتماعية ومنها المآتم.

ومع عدم إغفال الفوارق الطبقية التي أحدثتها الأزمة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، لكن عندما تعتزم الأسرة أياً كان وضعها الاجتماعي إقامة مناسبة ما، تسبقها بكثير من التجهيزات سواء ببيع الأراضي والأملاك أو الاستعانة بالأقارب الميسورين أو أفرادها المغتربين بالخارج.

وإذا كان عنصر الاستعداد حاضراً في المناسبات السعيدة مثل الزواج وغيرها فإنه ينعدم في المآتم، ولكن مع ذلك تتداركه الأسرة باستدانة مبالغ ضخمة من المال لإقامة "عزاء لائق" لا يقل عما هو معمول به عند بقية الأسر بنصب سرادق فخمة للعزاء لأيام عدة وإيلام الولائم، وهي على ثقة بأنها ستسدد جزءاً منه من "كشف العزاء".

و"الكشف" هو قيام المعزين كل على حدة بتسليم مبلغ مالي لأحد المسؤولين عن ترتيبات العزاء وتدوين اسمه في دفتر مخصص لهذا الغرض حتى تثبت مشاركته المالية ويحفظ حقه ويرده إليه طوعاً إذا مر بالظروف نفسها، وذلك دعماً للأسرة المكلومة لتغطية كلف العزاء.

 ولكن مع تزايد الكلف التي تجاوزت الطعام بإعداد ثلاث وجبات كبيرة يومياً خلال كل أيام العزاء، وتقديمه طوال اليوم لأن المعزين قد لا يصلون في الوقت المخصص للغذاء، إضافة إلى تقديم الشاي والقهوة وقوارير الماء البارد على مدار الساعة وغيرها من مظاهر الضيافة، لا يبدو أن ما يسهم به المعزون من مبالغ ستفي بسداد هذه الكلفة التي قدرت بحوالى 3 آلاف دولار يومياً.

طعام العزاء

ويرتبط تقديم الطعام عادة بالكرم وتختص به حالات الاحتفاء مثلها مثل إكرام المواسين، وفي المآتم كانت الفكرة الأصيلة هي إعداد الطعام لأهل المتوفى بسبب انشغالهم وحزنهم، ويقدم للمعزين القادمين من أماكن بعيدة ومن المدن والأرياف للمواساة، وعادة يمكثون لأيام عدة كانت قديماً لا تقل عن 40 يوماً، ويشاركهم الطعام الأقارب والجيران الذين يأتون للعزاء.

وفضلاً عن الثقافة المحلية يتمسك المجتمع في إعداد الطعام بكثير من العادات والتقاليد القديمة ابتداء من الذبائح والطبخ في قدور كبيرة حتى لو فاض عن الحاجة، وتنويع أصنافه التي تشمل أطباقاً شعبية مع اللحوم والدجاج والأسماك وأنواع السلطات والحلويات، وكانت تقوم على هذه الخدمة سيدات من الأقارب والجيران وأصبح الآن يقوم بها طباخون مستأجرون.

 

 

وتستمر الذبائح من بداية العزاء لخمسة أيام متتالية بسبب استمرار وفود المعزين، إضافة إلى "المعاودة" وهي تكرار المجيء للذين قاموا بواجب العزاء خلال الأيام الماضية، وفي اليوم الخامس يقام ما يعرف بـ "رفع الفراش" وهو نظرياً يفترض أن يكون ختام أيام العزاء ويغادر المعزون من غير الأقارب الذين قدموا من مناطق بعيدة، وفيه يضاعف عدد الذبائح وتقدم كذلك "اللقيمات" المحلاة.

ولكن لا يغادر الجميع ويظل الأقارب إلى اليوم الـ 10 وفيه أيضاً يضاعف الطعام و"معاودة" المعزين، ثم يغادر بعض الأقارب ويمكث البقية إلى اليوم الـ 15، وتكرر فيه الطقوس نفسها حتى يغادر الأهل جميعهم، وفي بعض الحالات تمكث النساء كبيرات السن بانتظار "الأربعين"، وهو اليوم الـ 40 من يوم العزاء الأول وفيه يجتمع أهل المتوفى مرة أخرى، إذ ربما يفد معزون جدد لم تمكنهم ظروفهم من أداء واجب العزاء خلال أيامه الأولى، وتقام فيه الولائم كما يقدم الرز المطبوخ بالحليب والسكر ويضاف إليه السمن، ومع نهاية اليوم يتفرق الجميع ثم يجتمعون مرة أخرى إذا كان المتوفى زوجاً بمناسبة إكمال الزوجة عدتها الشرعية في الإسلام بعد أربعة أشهر و10 أيام، وتتكرر عادات الطعام نفسها.

عادات متغيرة

 قدم الباحث نبيل فريد دراسة عن الأطعمة التي تقدم في المناسبات خصوصاً المآتم، وذكر فيها أن "المأتم في منطقة المحس شمال السودان قديماً تقدم فيه أطعمة غير مكلفة بل متقشفة لتتناسب مع حال الحزن والفقد، أما الآن فقد تغير كل شيء".

وأضاف، "كانت الأطعمة الخاصة التي تقدم في المأتم الذي یستمر مدة أسبوع، إذ یعطى المشیعون بعـد عـودتهم من المقابر التمر والبليلة، وهـي عبارة عـن قمح مغلي، وفي مناطق أخرى بليلة لوبيا بنية اللون مغلية أيضاً، وتتكفـل القریة بإعداد الطعام في الیوم الأول للوفاة نیابة عن أهل المتوفى وإمعاناً في التكافل والتخفیف على أهل المیت".

وتابع، "في الأیام التالیة وحتى الیوم السابع یقوم أهل المتوفى بإعداد الطعام الذي یتكون بصفة رئیسة من الویكة [البامية المجففة المطحونة] والملوخیة، أما في الیوم السابع فتعد بعض الأطعمة الأخرى المكونة من مرق الفول وهي وجبة غير مكلفة، ومن الأطعمة أيضاً الكداد وهي وجبة نباتية من منتجات المنطقة تطبخ معاً وتقدم مع الكسرة المصنوعة من الذرة الرفيعة".

وواصل، "بعد مرور أسبوعين وفـي الیوم الـ 15 یذبح أهل المتوفى كبشاً، ویقلى لحمه ویوزع على الخلاوى [مؤسسـات شعبیة لتحفيظ وتجوید القـرآن] كوجبة للدارسین فیها، ولشیوخ الخلاوى راجین منهم الدعوات للمتوفى، أما بقیة الحضور في هذا الیوم للمأتم فتقدم لهم شوربة الفول والكداد مع الكسرة، أما الآن "فالشـيء الملاحظ أن أیام المأتم اختصرت لثلاثة أیام وأحیاناً إلى يوم واحد وأصبحت تكثف فيها صنوف الأطعمة المتنوعة والفاخرة على رغم الحال الاقتصادية والمعیشیة الصعبة".

مظاهر جديدة

لم تتغير العادات والتقاليد المصاحبة لإقامة العزاء في المجتمع السوداني كلياً، بل تسربت إليها بعض المظاهر الأخرى وبات ما يصاحبها خلال هذه الأيام موسماً تجارياً لكثير من أصحاب الأعمال، وعليه زادت أسعار إيجار السرادق التي تنصب في أماكن فسيحة أمام منزل المتوفى لاستقبال الأعداد الكبيرة من المعزين، وتفنن أصحابها في تهيئتها بوسائل الراحة من مكيفات وسجاد وطاولات وكراس فاخرة، كما انتعشت سوق إيجار الحافلات التي تنقل المعزين من مناطقهم إلى "بيت العزاء"، ففي المجتمع السوداني يفد المعزون في جماعات ولا يأتون فرادى إلا في حالات نادرة، لأن الكل يكون حريصاً على أداء الواجب باكراً، كما أنها حال عاطفية اجتماعية تعبر عن التآزر بالأهل والتعزز بكثرتهم في مصاب جلل مثل الموت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن المظاهر الغريبة التي تنعش سوقاً نسائية موازية في مثل هذه الظروف أن بعض السيدات من غير أهل المتوفى لا تأتي الواحدة فيهن إلى العزاء حتى تغشى الكوافير النسائي وتضع آخر صيحات الحناء على يديها وقدميها، ثم ترتدي الثوب السوداني على أن يكون جديداً لم تلبسه في مأتم سابق، وتتزين بالمصوغات الذهبية أو الأكسسوارات، وليس في الأمر نوع من الشماتة أو عدم المشاركة في الحزن كما يبدو، ولكن لأن المأتم يكون جامعاً للناس من كل حدب وصوب، فتحرص على الظهور بزينتها الكاملة.

وهذا الأمر ندبته السيدة حاجة فاطمة بابكر إذ ذكرت أنها "عاصرت المآتم قديماً وكان يوضع الرماد الباقي من إعداد الطعام بالحطب والفحم والأفران التقليدية الذي يتم تجميعه على مدى أشهر وربما سنوات، عند مدخل باب دار المتوفى، ولا تدخل أي امرأة للعزاء إلا بعد أن تهيل الرماد على رأسها وتشارك في النحيب مثلها مثل أهل المتوفى"، كما أضافت بابكر أن "جلب أهل العزاء في الفترة الأخيرة  للمادحين الذين يؤدون مدائح نبوية كختام لأيام العزاء هو تطور لعادة [ضرب النحاس]، المستمدة من حضارة مملكة كوش القديمة، وتكون بالضرب على طبول تقليدية عند الملمات والأمور الجلل مثل المآتم، أو إيذاناً ببداية الحروب أو احتفاء  بنهايتها أو عند الصلح بين القبائل".

 

 

العراق... مراسم الدفن والعزاء ترهق كاهل الأسر المنكوبة

تمثل حالات الوفاة داخل الأسرة العراقية ضغطاً كبيراً على كاهلها بخاصة ميزانيتها المالية نظراً إلى استمرار أغلب الأسر بطقوس وعادات مراسم العزاء المتضمنة نصب سرادق وتوزيع المأكولات والمشروبات والشاي داخلها بكميات كبيرة على مدى يومين قد تصل تكاليفها في بعض الأحيان إلى أكثر من 10 ملايين دينار عراقي (6750 دولاراً)، فضلاً عن مراسم الدفن للمتوفى.

رحلة المعاناة

تبدأ تلك المراسم بتكاليف الدفن والبحث عن أرض للدفن في حال لم يملك ذوو المتوفى أرضاً، وقد يصل سعر الأرض الخاصة بمدافن الأسرة إلى 15 مليون دينار (10 آلاف دولار) في أقل تقدير في بعض المناطق المقدسة عند الشيعة مثل كربلاء والنجف، فضلاً عن تكاليف الدفن التي تصل إلى مليون دينار (750 دولاراً).

كورونا قلصت المصاريف

وعلى الرغم من أن جائحة كورنا قد خففت وطأة هذه المصاريف من خلال تقليص وقت نصب السرداق إلى يوم واحد بدلاً من ثلاثة أيام في بعض الأحيان أو إقامة مراسم العزاء في داخل قاعات تابعة للجوامع تقدم فيها وجبة طعام واحدة طوال فترة العزاء، هذا الأمر لم يتحقق إلا بعد سلسلة من الفتاوى لرجال دين أسهمت في الحد من التكاليف الباهظة في السابق التي كانت تتحملها الأسر العراقية.

التباهي والهيبة

يؤدي اختلاف العرف الاجتماعي والعشائري واختلاف العادات والتقاليد من منطقة إلى أخرى وشخص المتوفى ومكانته المجتمعية إلى زيادة ونقصان التكاليف، فمثلاً تشهد المناطق الجنوبية والوسطى والغربية من العراق زيادة في كلف مراسيم العزاء بسبب زيادة الانتماءات العشائرية وتقاليدها التي تعتبر أن هذه المراسم أساسية، وتعد زيادة البذخ على موائد الطعام أمراً ضرورياً وأي تقصير ينتقص من هيبة ذوي المتوفى.

ويعتبر البعض أنه نوع من أنواع التباهي وآخرون يضطرون لذلك خوفاً من الانتقادات واللائمة التي ترمى عليهم من قبل المجتمع، فيما تزاد تلك المراسم إذا كان المتوفى ذا مكانة اجتماعية أو أحد وجهاء العشائر، إذ يتطلب استقبال المعزين لفترة أطول وتقديم أصول الضيافة بشكل يليق بالمتوفى.

العرف باهظ التكاليف

يقول علي فاضل الذي فارق والده الحياة قبل شهرين، إن مراسم الدفن والعزاء تكلفت ما يقارب ثلاثة ملايين دينار (2000 دولار) على الرغم من أنه كان على مستوى ضيق وأقامها في أحد الجوامع ببغداد.

وتوفي والد فاضل بعد مرض عضال استمر أشهراً عدة جعله طريح الفراش، بعد أن واجه بعد وفاته مشكلة كبيرة تمثلت بتكاليف الدفن الباهظة، فضلاً عن تكاليف العزاء مما اضطره إلى الاستدانة من الأقرباء لإكمال مراسم العزاء.

وتابع أن "مراسم العزاء باهظة وتثقل كاهل ذوي المتوفى، بسبب عرف اجتماعي متبع لا بد من السير عليه وإلا سنكون في موضع انتقاد المعزين والأقرباء على حد سواء". ويبدو أن المصاريف تبدأ قبل موت المتوفى حيث عدد كبير من العراقيين لا سيما الشيعة يبحث عن قطعة في أماكن مقدسة مثل كربلاء والنجف التي تتضاعف فيها أسعار الأراضي.

 

 

يقول عامر حسين الذي يبحث عن قطعة أرض مقدارها 50 متراً مربعاً فقط في كربلاء، إنه وجد قطع الأراضي تصل إلى 10 ملايين (6800 دولار) في مقبرة كربلاء. ويضيف "أنا مضطر لشراء قطعة بموقع يبعد عن الشارع الرئيس لأحصل على سعر أقل كون قطع الأراضي تزداد أسعارها كلما اتجهنا نحو الشارع الرئيس".

تجارة رابحة

يبدو أن التجارة في أسعار قطع الأراضي المخصصة لدفن الموتى باتت جزءاً مهماً من التجارة في المناطق التي تحتوي على مراقد دينية، حيث بلغ سعر بعض هذه القطع نحو 20 مليون دينار (13 ألف دولار)، فيما تراوحت تكاليف مكان دفن شخص واحد من 750 ألفاً إلى مليون دينار بحدود (500 إلى 680 دولاراً) .

مقبرة استثمارية

شجع هذا الأمر أحد المستثمرين إلى إنشاء مقبرة خاصة مزودة بالخدمات في محافظة النجف زودت بخدمات من تعبيد الطرق والإنارة لتباع قطعة الأرض الواحدة مساحة 50 متراً مربعاً بـ2.5 مليون دينار (1700 دولار).

الولائم حاضرة بقوة

عملية إعداد الولائم الضخمة في مجالس العزاء باتت أمراً شائعاً بالمناطق الجنوبية من البلاد لطغيان النزعة العشائرية. في المقابل. يقول الباحث الاجتماعي حسن حمدان إن "عمل الولائم الكبيرة لا يقتصر على المآتم وإنما جميع المناسبات التي تتضمن حضور الضيوف"، مبيناً أن هذه عادة عربية شائعة تكون في أغلب المجتمعات ذات الانحدار البدوي حيث يقاس الكرم على ما تقدمه من كرم للغرباء الذي يطلق عليه صفة الضيف.

وأضاف حمدان أن "هناك مآدب في مجالس الأعراس والعزاء فيها أصناف متنوعة من الأطعمة وينظر للذي يقدم الطعام أنه ذو حظوة عالية وأكثر كرماً في المجتمع". ولفت إلى أن هذا الأمر شائع في بعض المحافظات أكثر من غيرها، فكلما انتقلنا إلى المناطق العربية يزداد الكرم، فيما يقل في مناطق وجود الأقليات الدينية والعرقية، مبيناً أن جذور هذا الأمر يمتد إلى ما قبل ظهور الإسلام، وهناك قصص معروفة في الكرم العربي مثل قصص حاتم الطائي في إكرام الضيف.

إسراف كبير

وأشار الباحث الاجتماعي إلى وجود إسراف حاد في حجم الطعام المطبوخ المقدم للضيوف سببه عدم وجود تخطيط ومن أجل الاستهلاك المظهري، ومحاولة إظهار الكرم بشكل أكبر من بقية الأسر والأشخاص.

 

 

المغرب... شركات متخصصة بالعزاء

ما كان يشغل بال السيدة زهوة قبيل وفاة والدتها التي كانت تحتضر هو كيف يمكنها إقامة "عزاءً لائقاً" لأمها بعد وفاتها، إذ اقترضت من صديقاتها وجاراتها مبلغاً من أجل تنظيم "حفل عزاء" بشكل يناسب قيمة والدتها التي كانت تحبها كثيراً.

ليست زهوة وحدها من تلجأ إلى خدمات "بيزنس الموت" بهدف الظهور أمام الآخرين من عائلة وجيران وأصدقاء بمظهر المحتفي بالميت، حتى صار لحفلات العزاء في المغرب تجارة قائمة الذات تدر الأرباح الوفيرة سواء عند الدفن وبعده وفي إقامة مناسبات العزاء أو حتى في نقل الموتى سواء داخل البلد أو ترحيلهم إلى البلد الأم.

الاحتفاء بالميت

تقول السيدة زهوة إنها لجأت إلى خدمات شركة متخصصة في إقامة المناسبات سواء كانت أفراحاً أو أتراحاً، لتتكلف بمناسبة العزاء لأمها "من الألف إلى الياء"، مضيفة أن العزاء كلفها حوالى 20 ألف درهم (2000 دولار)، مما دفعها إلى الاقتراض لتوفير الموازنة الكافية.

 

 

ووفق زهوة فإن عدداً من أقربائها عاتبوها وانتقدوها بشدة في شأن هذه المصاريف المالية الباذخة في إقامة "حفل العزاء"، باعتبار أنه كان بالإمكان أن تكتفي بعزاء بسيط لا يكلف كل ذلك المال من دون جدوى.

واستطردت المتحدثة بأن المنتقدين يرون أنها تريد "التباهي الاجتماعي" بتنظيم مناسبة عزاء كبيرة، لكنها لم تكن لها هذه النية أبداً لأن المهم لديها أن تكرم والدتها المتوفية حتى لو كانت في قبرها من خلال الاحتفاء بها وتقديم "صدقة العزاء" للحاضرين.

في المقابل، يقول عبدالله بنها وهو موظف في شركة خاصة، إنها لجأ إلى شركة متخصصة في إقامة وتموين الحفلات المختلفة إلى مسألة انشغال أسرة المتوفى بهذا الحدث الجلل وعدم كفاية الوقت للطبخ وما إلى ذلك.

وبعد أن نفى عن نفسه الرغبة في التباهي بين الجيران عند إقامة حفل عزاء "لائق" لشقيقه المتوفى بسبب مرض عضال، أكد على أن التعاقد مع شركة أو متخصصين في إقامة مراسم العزاء يغني أسرة المتوفى عن كثير من التفاصيل والأعباء التي لا تستطيع القيام بها في وقت صعب مثل الموت.

واستدرك أنه بالفعل لا يزال المجتمع المغربي يتميز بقيم التضامن والتآزر في مثل هذه المناسبات الأليمة، إذ يهب الجيران لمساعدة أسرة المتوفى من خلال جمع مبالغ مالية لتوفير خدمات الأكل والشرب للمعزين وبخاصة الذين يفدون من مناطق نائية، لكن يظل هذا الأمر مرتبطاً بمدى جاهزية الجيران والأسرة للاضطلاع بهذه المهمة.

التخفيف من الأعباء

من جانبه يعتبر أسامة بنيس، وهو مسؤول في إحدى شركات تموين الحفلات بالمغرب، "أن تنظيم مراسم العزاء بطريقة احترافية ومهنية له فوائد اجتماعية ونفسية وتنظيمية عدة لأسرة المتوفي على رغم كلفته المالية التي قد تبدو لبعضهم باهظة لكنها بالمقارنة مع ما يتم تقديمه فإنها مناسبة تماماً".

ويشرح أن الأسرة عندما تكلف شركة متخصصة لتنظيم مناسبة العزاء فإنها بذلك تترك لنفسها الوقت الكافي لتلقي العزاء وأيضاً لاستقبال أفواج المعزين القادمين من كل حدب وصوب.

ويوضح بنيس أنه عندما تتكلف الأسرة نفسها أو حتى الجيران بتنظيم مراسم العزاء فإن بعض العشوائية قد تطبع هذه المناسبة الأليمة، كما أن الشعور الطبيعي والتلقائي بالألم لفقدان الشخص ينقص بشكل كبير عند الاهتمام بتفاصيل المأكل والمشرب والمأوى، وهي أمور تهتم بها شركات تموين الحفلات.

وجواباً على سؤال الكلف المالية التي تجعل من هذا القطاع يقود "بيزنس الموت"، أفاد المتحدث بأن هناك مراسم قد تكلف 5 آلاف درهم (500 دولار)، وقد تصل إلى 100 ألف درهم (10 آلاف دولار)، وذلك كله تبعاً لمطالب أسرة المتوفى في تفاصيل الأكل والشرب والمجالس التي يطلبها ذوو الميت للمعزين والحاضرين، وبحسب أعداد هؤلاء أيضاً.

نقل الجثامين إلى الوطن

"بيزنس الموت" لا يتوقف عند مراسم العزاء فقط بل تسبقها إجراءات الدفن في المقابر أيضاً، فهذه المهنة لها محترفوها وتجارتها أيضاً، بل صارت هناك شركات متخصصة في توفير خدمات الدفن وبناء المقابر وزخرفتها وغيرها من الأمور المتعلقة بهذا الصنف المزدهر من "البيزنس".

 

 

وعلاوة على تجارة الدفن وتشيد المقابر، يظهر "بيزنس" مواز أيضاً يتمثل في نقل المتوفين خارج البلاد إلى الوطن الأم، إذ تتلقف هذه التفاصيل شركات متخصصة تكسب أرباحاً طائلة من عمليات النقل والترحيل من الخارج إلى البلد الأصلي.

وتبدأ "تجارة ترحيل المتوفين" من الخارج إلى المغرب بوضع الجثمان داخل صندوق معدني خاص يقاوم التسريب ويبتعد من الحرارة، في شروط تتكلف بها شركة متخصصة في خدمات الجنازات مقابل اتفاق مسبق على تعويضات مالية بينها وبين أسرة المتوفى التي أرسلته من البلد الأوروبي أو أسرته داخل البلاد الأم والتي تصل مثلاً في فرنسا إلى أكثر من 10 آلاف درهم (1000 دولار).

وتقف إكراهات عدة في هذا الصدد أمام شركات نقل الجثامين، لعل أكبرها وصول الجثمان في أسرع وقت للتعجيل بدفن الميت بالنظر إلى التعاليم الإسلامية خاصة التي توصي بإكرام الميت من خلال الإسراع في دفنه، وهو ما يضع أمام الشركة تحدي الإسراع بإيصال الجثمان على رغم "التعقيدات الجمركية والإدارية".

وتضطلع الشركة التي تقدم خدمات الجنازة في الخارج بمهمة تغسيل وتكفين المتوفى في شروط لائقة ووفق تعاليم الإسلام، قبل وضعه في تابوت يلائم شروط النقل عبر الجو ليصل الجثمان فتهتم به شركة أخرى متخصصة في نقل الجثمان من المطار إلى المقبرة.

 

 

الجزائر... عادات دخيلة تبحث عن مكانة في المجتمع

قصائد وأشعار تُتلى، وأموال تُصرف لإقامة عزاء للميت وأقاربه الحاضرين في الجنازة، إذ باتت مراسم دفن الموتى تقترن بطقوس وعادات وتقاليد تبدو "غريبة" على خصوصية المجتمع الجزائري وتم ابتداع إجراءات بروتوكولية لدفن الموتى لم تكن موجودة من قبل.

ويُعتبر "بزنس الموت" كما يصطلح عليه، حرفة دخيلة على المجتمع الجزائري، مع محاولات أصحابها إيجاد فضاء مجتمعي حاضن لها وسط المواطنين لمساعدتهم على الخلاص من تعب التكفل بمراسم الجنازة، كما يجري التسويق له.

مهنة واستهداف

وبات هناك شركات متخصّصة في بناء القبور للتكفل بالميت، وبيع الحجر لتثبيت القبور، وتستهدف هذه الشركة فئة معينة من الأغنياء والمهاجرين من عدة دول أوروبية ممن يجدون صعوبات كبيرة في دفن ميتهم.

يقول السيد محمد (47 سنة) إنه اضطر للتعامل مع شركة خاصة للتكفل بشقيقه الذي توفي بمدينة مرسيليا الفرنسية، "توفي أخي غرقاً في عرض البحر، وجدت عائلتي صعوبات كبيرة لنقله إلى الجزائر ودفنه، فاضطررت للتعامل مع شركة خاصة للتكفل به ودفنه في أرض الوطن مقابل 1000 يورو".

في المقابل يضطر كثير من المواطنين محدودي الدخل للتعامل مباشرة مع أصحاب المحال المتخصصة في صناعة القبور، نظراً لانخفاض سعر التكفل بالميت مقارنة بالشركات الخاصة.

وفي هذا الصدد يوضح مراد (42 سنة) من العاصمة الجزائرية صاحب محل متخصص في بناء القبور "أقوم ببناء مقابر بحسب طالبها، وقد تختلف أسعارها وفقاً لنوعيتها وشكلها، منها المصنوعة من الإسمنت والمزينة بمختلف أنواع الخزف وأخرى مصنوعة من الرخام الفاخر، ويتراوح سعرها بين المقبول والغالي".

عشاء بدعوة

لعل ما بات لافتاً للانتباه أيضاً هو إقامة المآتم بتحضير أطباق متنوعة من الأكل والشرب ودعوة الجيران والأهل والأحباب والتي يطلق عليها بـ "ثلاثة أيام"، أي في اليوم الثالث من وفاة الميت، والتي تُكلف ميزانية كبيرة.

وفي بعض مناطق الغرب الجزائري، يتم إقامة ما يسميه السكان بـ "الفروق"، وهو عبارة عن مأتم يتم من خلاله تحضير أطباق متنوعة من الأكل والشرب ودعوة الجيران والأهل والأحباب بعد الانتهاء من مراسم الدفن مباشرة، ويستنزف "الفروق" أهل الميت ويكلّف أموالاً طائلة إذ يعتبرون أنه صدقة عن الميت وكل ما يقدم هو إكرام له وخير يلحقه إلى قبره.

في وقت تعمد بعض العائلات في مناطق أخرى من الوطن على جلب مشايخ تستأجرهم للدعاء للميّت خلال الليلة التي تلي مراسم الدفن، ويقوم فيها المدعوون أيضاً بالتصدق عليهم ببعض المال، وقد تتجاوز هذه العادة إلى دعوة أئمة لإلقاء خطب ومواعظ يليها الثناء على محاسن الفقيد والدعاء له.

بين العادة والعبادة

من جهة ثانية، يعتبر مواطنون هذه التقاليد تخفيفاً من شدة فراق الميت، ويساعد أهل الراحل على ضبط الانفعالات واستيعاب وتقبل الموت.

ويجمع رجال دين على أن هناك مغالاة في طريقة دفن الميت، مشيرين إلى أنها بدأت تتخذ أشكالاً متعددة جعلها تخرج عن إطارها الشرعي. وضمن هذا السياق يؤكد الأستاذ في الشريعة بجامعة البليدة بوجملين عبد النور أن حُرمة المقابر على أعتاب الانتهاك بسبب ممارسات غير أخلاقية من قبل ما يسمون بـ "بزنس الموت"، مشيراً الى أن وضع الرخام أو الخزف أمر غير جائز، والأحسن لأهل الميت أن يتصدقوا لميتهم بذلك المال.

 

 

الأردن... الاستثمار في الموت تجارة رائجة

تحول الموت إلى تجارة رائجة وقائمة بحد ذاتها بعد أن أصبح الاستثمار في العزاء والدفن وتغسيل الموتى مجدياً ويدر دخلاً جيداً، بفعل تحولات اجتماعية تغيرت بفعلها عادات الأردنيين وتقاليدهم خلال المناسبات الحزينة كثيراً وطاولتها الحداثة.

ومع رفع الحكومة الأردنية لرسوم القبور بنسبة 105 في المئة، أصبحت الكلف مرهقة مادياً ومعنوياً لأهل الميت، وعلى رغم ذلك يفضل كثير من الأردنيين أن تتولى مؤسسات خاصة تجهيز المراسيم كافة، ما بين دفن وغسل للميت وحجز للقبر، إضافة إلى ترتيبات مكان العزاء الذي تحول تدريجياً على بساطته من مأتم عائلي يكون غالباً في منزل الميت إلى قاعات وصالات مخصصة يقوم عليها طاقم ضيافة وخدمة للمعزين.

عادات سلبية

ولطالما أثقلت ثقافة الأردنيين وعاداتهم المرتبطة بالموت والحداد كاهلهم بسبب بعض المظاهر التي تتسم بالمغالاة والتفاخر، مثل استمرار الحداد والعزاء لثلاثة أيام، وتقديم الولائم لكل الحاضرين، بل إن بعضهم يقدم أنواعاً من الحلويات بسبب عادات قديمة، فضلاً عن بعض المظاهر السلبية المرتبطة بالحداد مثل إغلاق الشوارع واحتلالها لإقامة بيوت العزاء وتعطيل حركة السير ومصالح الناس. 

 وعلى رغم التقنين الإجباري الذي فرضته جائحة كورونا على عادات الأردنيين في العزاء والحداد، إلا أن ذلك كان موقتاً، إذ عادت تقاليد التقبيل والولائم وغيرها من المظاهر مجدداً بمجرد انتهاء الجائحة.

وتشمل كلفة الجنازة في الأردن نفقات الدفن وشراء القبور التي ارتفعت أثمانها داخل العاصمة عمّان من 70 دولاراً إلى 150 دولاراً، وعادة ما تتجه الجنازة في موكب سيارات إلى المقبرة المخصصة. وتشير إحصاءات إلى أن المقابر العامة في العاصمة عمان تستقبل عادة ما بين 15 و20 جنازة يومياً.

 

 

لكن رغم ذلك يقدم الاتحاد العام للجمعيات الخيرية في الأردن خدمات الدفن المجانية لمن لا يستطيع تحمل كلفها، وبينما بدأت العاصمة عمّان بالتحلل شيئاً فشيئاً من سطوة بعض المظاهر المرهقة، مثل اقتصار العزاء على يوم واحد بدلاً من ثلاثة أيام والتوقف عن تقديم الطعام والولائم، لا تزال بعض هذه المظاهر السلبية حاضرة في مدن أخرى مثل استمرار التوافد على أهل الميت يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، وتقديم أهل الميت ما يسمى الونيسة، وهي وليمة يشترط فيها ذبح حيوان ليؤنس الميت في قبره بحسب اعتقادهم، بينما تقوم بعض العائلات بتقديم الحلويات للحاضرين عن روح الميت.

وتبقى ظاهرة الولائم والتبذير في تقديم الطعام أبرز المظاهر المرهقة لذوي المتوفى، إذ يجدون أنفسهم أسرى العادات والتقاليد التي تحتم عليهم تقديم "المنسف"، وهو الغداء التقليدي لدى الأردنيين في المناسبات، لآلاف الحاضرين حتى لو كانوا غير مقتدرين مالياً، مما يدفع كثير منهم إلى الاقتراض تلبية لسلوك اجتماعي متوارث.

 بينزنس الموت

ويعد بيت الدفن الإسلامي أحد أبرز الجمعيات التي تعنى بمراسم الدفن والحداد، ويقول القيمون عليها إن هدفها التخفيف من آلام صدمة الموت، بخاصة في اللحظات الصعبة، إذ تتكفل بكل ما يتعلق بالوفاة من غسل الجثمان وتكفينه وتأمين سيارة نقل الموتى والحصول على تصريح الدفن والقبر، وحفظ جثمان المتوفى في الثلاجات لأي مدة زمنية مطلوبة، إضافة إلى جميع الخدمات الأخرى للعزاء مثل الإعلان عن الوفاة في وسائل الإعلام المختلفة.

وتتقاضى شركة أخرى متخصصة في مراسم العزاء نحو 1000 دولار لقاء التكفل بكل تجهيزات الحداد والدفن لثلاثة أيام، ويقول مسؤولون عنها إن كثيراً من مراسم العزاء في الأردن لا تخلو من التفاخر والتباهي الاجتماعي، إذ يعمد بعضهم إلى طلب نصب خيم فاخرة مجهزة بالتدفئة شتاء والتبريد صيفاً ومفروشة بالسجاد الفاخر، على رغم توافر قاعات مخصصة لهذه المناسبات الاجتماعية، فضلاً عن حرص آخرين على التنافس في استضافة الدعاة والمشايخ المشهورين.

وفي المقابل تبرز بين الحين والآخر مبادرات إيجابية في بعض مناطق المملكة مثل مبادرة "ارحمونا" للتخلص من التبذير والمغالاة في بيوت العزاء التي أطلقها شيوخ عشائر وناشطون في مدينة الكرك جنوب البلاد.

ويقول المتحدث باسم المبادرة زياد المدادحة إن الفكرة تشمل مراسم الدفن ومناسبات الأفراح أيضاً، وإنها تلقى رواجاً وقبولاً لدى كثيرين في مدينته على أمل انتشارها في كل المدن الأردنية، فيما أصدرت إحدى أبرز العشائر الأردنية، وهي عشيرة النعيمات، وثيقة شرف لتغيير العادات والمظاهر الاجتماعية المتعلقة بمراسم العزاء بهدف توفير النفقات المبالغ فيها والتي تثقل كاهل أهالي المتوفى وبخاصة ولائم الغداء والعشاء.

ونصت الوثيقة على ضرورة التخلص مما سمته "النفاق الاجتماعي"، وتقليص عدد أيام العزاء وساعاته.

 

 

مصر... تكلفة الموت لم تعد في المتناول

كان شائعاً على مدار الفترة الماضية، أن يتوجه المصريون بالسخرية تجاه الإعلانات الممولة التي تظهر لهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ترويجاً لمقابر متعددة المزايا، حيث كانت المفارقة أن أسعار بعضها تتجاوز أسعار الشقق السكنية، كما أن الدهشة جاءت من أن أمراً كان يبدو بسيطاً مثل "تكريم الميت" بات فيه تنافسية واستعراض، بخلاف أن عدداً من المتندرين أكدوا استغرابهم من استهدافهم بمثل تلك الحملات على رغم أنهم حتى الآن لم يدخلو "دنيا" بعد من الأساس.

لكن بحسب حالات كثيرة كشف عنها أخيراً لم يعد الأمر يسيراً أبداً، حيث تواترت شكاوى كثيرة من أهال فقدوا ذويهم بشكل مفاجئ وعانوا الأمرين لتوفير مدفن ومستلزمات الجنازة والدفن، نظراً لعدم انتشار الشركات التي تقوم بتنظيم تلك الأمور بشكل احترافي في مصر على نطاق واسع، وأيضاً لأن توفير مقبرة خلال ساعات ليس شيئاً سهلاً هذه الأيام.

مقابر فارهة!

تجهيزات تشييع الجثمان والصلاة وتصريحات الدفن، عقب الوفاة يمكن تدبيرها عادة حتى لمن يعانون من المشكلات المادية وذلك من طريق جمعيات خيرية تتكفل حتى بنقل التابوت، ولكن حين يتعلق الأمر بالدفن فقد جرت العادة أن يكون لكل أسرة مدفن خاص بها، كما أن كثيرين يفضلون دفن ذويهم في مسقط رأسهم وهو أمر شائع جداً، حتى من يسكنون المدن الكبرى مثل القاهرة والجيزة والإسكندرية، وتعود أصولهم إلى جنوب مصر مثلاً فتكون مقابر عائلاتهم هناك، بالتالي تنقل الجثامين حيث تقع المقابر.

وتبدو المقابر المتوارثة منذ عقود بخاصة في القرى الصغيرة لا تكلف مالاً تقريباً، ولكن بالنظر إلى الأسعار المطروحة حالياً وتتعلق بمقابر في القاهرة وضواحيها وعلى أطراف المحافظات، فإن الأسعار تترواح ما بين 100 ألف جنيه مصري (5000 آلاف دولار) وتزيد على المليون (50 ألف دولار)، وتبدأ عادة مساحتها من عشرين متراً، كما أن هناك تسهيلات للسداد عن طريق نظام التقسيط، أما المقابر ذات المساحة الأقل من عشرة أمتار فأسعارها لا تزيد على ألفي دولار، ولكنها بحاجة إلى وسيط للحصول عليها.

لا مجال لإلغاء مراسم العزاء

في رحلات البحث عن مقبرة كثيرون تعاملوا مع سماسرة يحاولون توفير مدافن بسعر أقل بعض الشيء بمساحات أقل وجودة متواضعة، كما أن الجهات الرسمية مثل وزارة الإسكان تطرح أيضاً مدافن بحق الانتفاع مقابل مبالغ ضخمة، كذلك تطرح الإدرات المسؤولة عن المقابر في المحافظات مقابر بأسعار تبدو متوسطة مقارنة مع أسعار السوق، ولكن بمساحات أقل بالطبع.

ويشير ما يحدث إلى أن المثل الشهير "إكرام الميت دفنه" لم يعد سهل التحقق أبداً، حيث كشف خالد جاد الذي فوجئ بوفاة أحد أقاربه ولم يكن قد أمن مدفناً له، إذ خاض رحلة صعبة للحصول على مكان بشكل سريع، ولم يكن أمامه سوى التعامل مع سمسار عرض عليه بعض المقابر الفورية الجاهزة، وهنا يجب أن يدفع المستفيد من الخدمة مبلغاً إضافياً كأجر للوسيط العقاري الذي يعرض خيارات متنوعة الأماكن والمساحات ومختلفة في مستوى التشطيب.

ويبرر الوسطاء هنا ارتفاع الأسعار نظراً إلى زيادة تكلفة مواد البناء والأراضي عامة، ما انعكس على المقابر أيضاً، وبدلاً من أن يكون ذوو المتوفى غارقين في الحزن الخاص جداً يجدون أنه لزاماً عليهم توفير المثوى الأخير في ظل أسعار لا تكون في المتناول عادة، فيما يكون تنظيم العزاء بنداً آخر في الميزانية، حيث أن العادات المصرية الراسخة حتى الآن توقر كثيراً وجود عزاء يليق بالمتوفى.

ففكرة الاكتفاء بتلقي المواساة على المقابر غير منتشرة بين العائلات إلا في ما ندر، وقد جرت العادة أن تحجز قاعة في دار مناسبات من تلك المنشترة في أنحاء البلاد متنوعة المستوى والتكلفة، ففي بعض الأحياء الشعبية قد لا يكلف الأمر ما يوازى 200 دولار، ويتضاعف الرقم كلما زادت التجهيزات والمساحة،  وهو أمر يضيف عبئاً آخر، بخلاف العبء الضروري الذي لا يمكن إسقاطه وهو أن يوارى الجثمان الثرى في مقبرة عليها شاهد يحمل اسمه، ويزداد الأمر صعوبة حين يكون الفقيد خارج مصر، حيث تنطلق رحلة موازية لإعادة الجثمان، وبحسب التقديرات فإن الأمر يكلف عادة ما يعادل 5000 آلاف دولار، وهذا الحد الأدنى الذي يرتفع بعد أن تتم الاستعانة بوسيط ليساعد في سرعة إنجاز الإجراءات وتقليل مدة الانتظار، ويحدد السعر بناء على مدى صعوبة وضع المهاجر وأيضاً مدى مرونة الاجراءات في البلد التي فيها الجثمان، فالعائلات لا تستريح إلا إذا استقبلت جثمان فقيدها، وفي الظروف العادية لا تقبل أبداً بأن يكون مثواه الأخير في "الغربة".

ثمن "إكرام الميت"

في عام 1992 قدمت ليلى علوي والفنان الكوميدي محمد عوض فيلماً هزلياً بعنوان "آي آي" من إخراج سعيد مرزوف وسيناريو بسيوني عثمان، عن رحلة أسرة فقيرة لدفن عائلها الذي فارق الحياة في أحد المستشفيات الباهظة، حيث ترفض الإدارة تسليمهم الجثمان من الأساس، إلا بعد أن تدفع الابنة نفقات العلاج التي كانت ضخمة للغاية في ذلك الوقت، فتلجأ لمحاولة سرقة الجثمان لتتمكن من "إكرام الميت" الذي كان قد أوصى وصية مستحيلة في الحسابات المنطقية، وهي أن تقام له جنازة مهيبة مثل كبار المسؤولين.

 

 

وهو الأمر الذي يقودنا إلى الحديث عن تنظيم الجنازات في مصر، حيث إنه يبدو شاقاً ومكلفاً أيضاً، فمثلاً بالنظر إلى جنازات المشاهير وقعت عشرات الحوادث التي سببت إزعاجاً لعائلات الفقيد، بخاصة في ما يتعلق بالتغطية الإعلامية والتنسيق، وعلى الأغلب فإن السبب يعود إلى ندرة وجود مؤسسات تنظم الجنازات والعزاءات أيضاً بعكس ما يحدث في العالم.

ولكن أخيراً باتت هناك محاولات عدة، وأكثر من شركة ناشئة تحاول اقتحام السوق لجعل أهل المتوفى يتفرغون لحزنهم والوداع الأخير، لتتكفل تلك الشركات بالإجراءات كافة، وتقوم بالدور البديل لـ"الحانوتي" وهو الاسم الشعبي لمن يتولى تجهيز توابيت الموتى، حيث أن عمله يبدو بسيطاً وليس معقداً وينحصر في الضروريات فقط.

فهي مهنة عتيقة ومعروفة منذ عقود طويلة، وعلى رغم التطور فحتى الآن تلك الشركات لا توفر مقبرة الدفن، وإنما يقتصر دورها على خدمات أخرى من نوعية تجهيز المقبرة وإنجاز إجراءات وتصريح الدفن، والنقل وكذلك إعادة الجثامين من خارج البلاد، وبالطبع تجهيز الجثمان وفقاً لديانة كل متوفى، وأيضاً الاستعانة بشيخ أو قس في العزاء، وصولاً إلى كتابة النعي الرسمي، وبعضها أيضاً يتكفل بالصدقة الجارية وتوزيع التذكارات الدينية.

وفي ما يتعلق بالشخصيات الكبرى فمتاح أيضاً أن تتكفل تلك المؤسسات بتصوير مراسم الجنازة والعزاء، وبحسب الخدمة التي يطلبها أهل الفقيد، تأتي التكلفة التي تترواح ما بين 300 دولار وقد تزيد على 1500، إذا كان الجثمان داخل الوطن بالفعل، هذا بخلاف المدفن الذي يعد بنداً خاصاً في حد ذاته ويعد الأصعب في تلك الرحلة التي لم تعد سلسة مثلما كانت، بل باتت مكلفة للغاية بالنسبة إلى الأسر متوسطة الدخل.

المزيد من تحقيقات ومطولات