مشهد الوداع الأخير لكبار المشاهير لا يمكن لمحبيهم غض الطرف عنه، فالكل يترقب لقطة ختام المسيرة كيف ستكون، بخاصة أن مساحة المحبة لنجوم الفن تتعدى أقاربهم وزملاءهم الذين يسارعون بدورهم لأداء واجبهم، فيما تحاول الجماهير المشاركة في تلك اللحظة، سواء بالوجود في الحدث نفسه أو من المتابعة خلال الشاشات، والمؤكد أنه من غير الطبيعي أن تمر تلك المواقف دون تسجيل ورصد وتأريخ، لكن أخيراً انطلقت دعوات لإعادة النظر في تغطية جنازات الفنانين في مصر بعد أصبحت أشبه بالحلقات الدرامية التي تمتلئ بالغضب والحزن والاستهجان والتجاوزات.
وأصحاب هذا الرأي يبررون دعوتهم بأن طريقة التغطية من قبل المراسلين تتضمن اقتحاماً للخصوصية والإلحاح بطرح أسئلة على الفنانين الحاضرين لا تراعي بالمرة هذا الظرف الخاص، فهل المطلوب هو أن تتجاهل وسائل الإعلام مراسم الجنازات والعزاءات الخاصة بفنانين لهم نصيبهم الكبير من الذاكرة الشعبية وألا تسجل لحظة مهيبة مثل تلك كي لا ينفعل زملاؤه؟
أين الكود الأخلاقي؟
إذا تصورنا أن أمراً كهذا تم تفعيله وتطبيقه مثلاً بأثر رجعي فلن يكون لدينا أرشيف لجنازات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وأحمد زكي وسعاد حسني، وغيرهم من فنانين ودعتهم الجماهير في مسيرات حاشدة بالدموع والدعوات، لكن في السنوات الأخيرة أصبحت أجواء التغطية تحمل تحفزاً شديداً ورفضاً من قبل حضور تلك المناسبات الحزينة، حيث تنتشر عشرات الفيديوهات لنجوم ينفعلون وينشغلون في مشاحنات جانبية مع مراسلي وسائل الإعلام، لكن الأمر قد يتطور أيضاً لأزمة بين بعضهم بعضاً، فمثلاً على الرغم من أن جنازة الفنان هشام سليم مرت بشكل شبه عادي ولم تصاحبها أزمات كبيرة معتادة، لكن أيضاً ظهر فيديو على هامش الحدث بدت فيه الفنانة إلهام شاهين منفعلة بسبب التصوير، وكانت نقابة المهن التمثيلية سارعت بإصدار بيان استباقي لحث المراسلين على الالتزام بالمعايير المهنية أثناء تغطية المراسم، وجاء فيه "تهيب نقابة المهن التمثيلية بالسادة المصورين والصحافيين والجمهور الحاضرين لجنازة الفنان الكبير هشام سليم الالتزام بالقواعد المتعارف عليها واحترام حق ذوي الراحل في الخصوصية، وتتقدم النقابة بخالص العزاء لأسرة الفنان القدير وكل محبيه في مصر والعالم العربي".
وبينما حرصت عائلة هشام سليم على إلغاء مراسم العزاء تماماً وتلقي رسائل الدعم والمواساة على هامش الجنازة، لكن الأمر كان متأزماً بصورة أكبر في جنازة الفنان سمير صبري، الذي شيع إلى مثواه الأخير في مايو (أيار) الماضي، وتصدرت أسماء نجمات محركات البحث بعد ترديد أسمائهن في ما يتعلق بأزمات حدثت خلال الجنازة، ومنهن إلهام شاهين وغادة إبراهيم وبوسي شلبي.
وفي سبيل البحث عن كود أخلاقي للتعامل الإعلامي مع تلك المواقف، تتوه حقائق كثيرة، بينها أن توثيق مشاهد مثل تلك تبدو واجباً وضرورة، فمن حق الأجيال المقبلة أن تمتلك أرشيفاً لتلك اللقطات بل ولكواليس تلك اللقطات، كمرجعية وتأريخ لشخصيات أثرت بمسيرتها في ثقافة ووعي ومتعة الجمهور، لكن ما الذي سينفع الناس، حينما يوشك نعش فنانة مثل سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة على السقوط، أو يتحول هذا الظرف إلى مهرجان لالتقاط "السيلفي"، أو يتسابق الكل للتدافع والاقتراب بشكل غير مقبول من الحضور دون مراعاة، ويفسدون عليهم حزنهم بعدم حرصهم على وجود مسافة ملائمة أو عدم الاستجابة لرفض بعضهم تصويره.
إنها حسبة قد تبدو مربكة، فالتغاضي عن تغطية مراسم الجنازات أو العزاءات يعد تجاهلاً لقيمة الفنانين الذين يتمتعون بجماهيرية، ومن ناحية أخرى تبدو معايير وشروط التعامل الإعلامي معها من قبل البعض غائبة، لكن هل المذنبون في هذه القضية هم المراسلون فقط أم أن النجوم أنفسهم باتوا أخيراً مستنفرين بشكل مبالغ فيه ناحية مهنة الإعلام بشكل عام، ويعتبرون أي سؤال لهم أو تصويرهم بمثابة اقتحام للخصوصيات حتى لو كانوا في حدث عام معروف سلفاً أنه سيحظى بتغطية واسعة مثل جنازات المشاهير، بخاصة أن هناك طرقاً كثيرة للحد من الفوضى وبينها إسناد مهمة تنظيم مشاركة وسائل الإعلام في تلك المواقف لمحترفين يجيدون التعامل مع "الميديا" وليس لحراس شخصيين، وأيضاً إقامة مراسم جنازات وعزاءات خاصة مقتصرة فقط على الأهل والمقربين كي لا ترهق أسرة الفقيد، فحينما تكون تلك الطقوس في مكان عام فهي تلقائياً تفقد صفة الخصوصية، لكنها بالطبع تبقى أمراً غير مستباح وينبغي التعاطي معه وفق قواعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالنظر إلى وسائل الإعلام العالمية فهناك تعطش طوال الوقت لرصد حركات النجوم في أي ظرف طالما أن التصوير والرصد لم يكن للفنان وهو في منزله أو في مكان خاص، ويتعاملون مع الأمر باعتباره طبيعياً، لكنه يصل إلى الفوضى إذا تعدى تلك المحاذير، إذاً ما يحدث في تغطية أي حدث حزين أو سعيد خاص بالمشاهير في مصر ليس اختراعاً، لكنه نوع من الخدمة الإعلامية التي توجد في كل العالم، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو، كيف تحولت فكرة الرصد والأخبار ومحاولة أداء العمل الإعلامي كما يجب إلى تصرف مستهجن من قبل بعضهم، ومن يمكنه إعادة ضبط هذا الوضع؟
سجادة سوداء
لا يجد الناقد الفني والمتخصص في شؤون الإعلام محمد عبدالرحمن مفاجأة جديدة في ما يتعلق بتغطية الجنازات أو العزاءات من قبل وسائل الإعلام، لافتاً إلى أنه طوال الوقت هناك مشكلات ومشاحنات ومزاحمات تحدث، ضارباً المثل بوقائع مشابهة في جنازات سعاد حسني وأحمد زكي، لكن الاختلاف في السنوات الأخيرة جاء بسبب تطور منصات البث والسوشيال ميديا، حيث زاد عدد وسائل الإعلام نفسها، بالتالي زاد عدد من يتوجهون لتغطية مثل تلك الأحداث، إضافة إلى أن هناك من يذهبون إلى الحدث بدافع الفضول ويسارعون بالتصوير عن طريق هواتفهم المحمولة، في حين أنهم مجرد هواة لا ينتمون لأي وسيلة إعلامية ويحسبون على مهنة الصحافة بغير حق، مستدركاً، "لكن الحقيقة أن هناك جيلاً من الصحافيين غير مؤهل بالمرة، وأعتقد أنه من الممكن أن تحاول الصحف والمواقع حل الأزمة بأن ترسل كل منها صحافياً واحداً ومصوراً واحداً لتغطية المناسبة وأن يلتزما المعايير، وأهمها أن يكون الرصد والتسجيل دون اقتحام للحدث، بخلاف ما يجري حالياً من محاولات بعضهم تصوير الجثمان أثناء وضعه في القبر، فهذا تزيد غير مقبول ومبالغ فيه".
ويرى عبدالرحمن أنه يمكن لأهل المتوفى اللجوء إلى الشركات الخاصة بتنظيم الجنازات، لتدير وتنظم عمل وسائل الإعلام بإبلاغهم بالمواعيد وتفاصيل سير الحدث، ويترك الحرية للنجوم في حال رغبتهم في التسجيل لمنصات إعلامية بعينها، ويمكن أن يطلق عليه تعبير "السجادة السوداء"، مشيراً إلى أن هذا التصرف تقوم به بعض أسر الفنانين في العزاءات، بالتالي تكون المشكلات الناتجة على هامشها أقل بكثير من نظيرتها في الجنازات.
لكن هناك نقطة أخرى، فمهما كانت الضوابط الصارمة ستخرج أيضاً بعض التصرفات التي لا تكون متوقعة، وهنا يقول عبدالرحمن، إنه يجب أن تكون هناك جهة ما ترصد ما يجري، لأن التجاوز ينسب للمهنة بأكملها في حين أنه يكون دوماً تصرفاً فردياً، لكن التركيز والتضخيم من قبل الحضور على هذا التجاوز يجعل الأمر يبدو وكأن كل وسائل الإعلام لا تصلح لمتابعة المراسم.
اقتراحات جادة
المتابع لما يحدث في مراسم العزاءات والجنازات المصرية سيجد مشادات ومشاحنات بين النجوم والمراسلين وبين النجوم وزملائهم أيضاً، مثلما حدث في جنازة سمير صبري واتهامات الفنانة غادة إبراهيم لبعض الفنانات بمحاولة إقصائها، وفي الجنازة نفسها ظهرت الفنانة إلهام شاهين منفعلة على أحد المراسلين بعد أن توجه لها بسؤال لم يرق لها، وفي ما قبل، دخل أحمد زاهر في مشادات أثناء حضوره جنازة الفنانة دلال عبد العزيز، والأمر ذاته تكرر من قبل بعض المشاهير في جنازات مختلفة مثل جنازة فاروق الفيشاوي، فيما كسرت فنانة هاتف أحد الأشخاص الذي كان يصورها في إحدى الجنازات، وهنا يعلق الناقد محمد عبدالرحمن بالتأكيد على أن التجاوز لا يخص وسائل الإعلام فقط، بل بعض المشاهير الحاضرين أيضاً، فمثلاً إذا وجد أحدهم أن سؤالاً وجه إليه لا يعجبه يمكن تجاهله وليس إهانة صاحبه، فقديماً كان الفنان السيد راضي في الجنازات يحب التسجيل مع وسائل الإعلام ونعي زملائه من خلالها، بينما غيره كان يذهب ولا يرغب من الأساس في الوقوف للتسجيل، في حين أن بعض المشاهير حالياً يتعامل وكأنه يجب أن يملي على المراسل ما يقول.
الحلول التي يقدمها عبدالرحمن ومناداته بضرورة تدخل نقابة الصحافيين بشكل جدي، تنقلنا إلى بروتوكول تعاون كان قد أعلن عنه قبل أسابيع من قبل نقابة المهن التمثيلية التي وقعت اتفاقاً مع إحدى الشركات لتولي تنظيم الجنازات والعزاءات الخاصة بالراحلين من الوسط الفني، لمحاولة تقنين الوجود في تلك المراسم، بخاصة أن هناك "بعض الدخلاء" حسب تعبير النقابة، وللحد من المشاحنات كذلك التي باتت سمة أساسية في هذه الأحداث، لتتولى تلك المؤسسة ضبط الوضع في المرحلة التي تلي إعلان الوفاة.
وأعلنت نقابة المهن التمثيلية في مؤتمر صحافي أنه تم الاتفاق كذلك مع المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام على معايير محددة لضبط حضور وسائل الإعلام، ومن المقرر مستقبلاً الاستعانة بشركة أخرى لتأمين تلك المراسم، بخاصة أن التنظيم الجيد لا يكفي دون تأمين، ولفت نقيب الممثلين أشرف زكي إلى تجربة هذه الجهة في تنظيم جنازة الفنانة الراحلة سهير البابلي في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي، وأثبتت جدارتها، بحسب قوله.
وكما هو واضح فإن تلك الاتفاقات جاءت بعد كثير من النداءات وبينها نداء الفنان أحمد السعدني الذي كان قد توجه في وقت سابق بتدوينة بشكل مباشر إلى نقابة الصحافيين واقترح أن تسجل مراسم الجنازة أو العزاء بالصور والفيديو من قبل مجموعة محددة بمعرفة نقابة الصحافيين، وبعد ذلك توزع تلك المادة على وسائل الإعلام، لافتاً إلى أن هذا من شأنه أن ينهي الأزمة، وحتى إذا كان السعدني يقترح حلاً لن يلقى قبولاً كبيراً، لأنه لا يراعي فكرة المنافسة ويدعو لأن تكون جميع المنابر نسخاً مكررة من بعضها بعضاً، ويلغي قيمة التميز واللقطة الفردية، لكنه في النهاية اجتهد ولم يطالب بالمنع الكامل مثل عدد من زملائه.
اللافت أن نقابة الصحافيين المصرية خرج عنها وعن أعضائها مراراً تعليقات حول طرق لحل تلك المشكلة، لكن لم تعلن أية ضوابط حتى الآن، وكان الصحافي أيمن عبدالمجيد عضو مجلس النقابة قد أفصح عن رأيه في ما قبل معلناً غضبه بسبب ما يحدث، بخاصة بعد تكرار المشادات والتزاحم في جنازات المشاهير، وأكد أنه لا ينبغي الدفع بصحافيين غير متدربين لتغطية تلك النوعية من الأحداث كي لا يسيئوا للمهنة، ومشيراً إلى أنه "لا يوجد انفراد في جنازة"، فيما كان قد أعلن مجلس نقابة الصحافيين الشهر الماضي بتكليف عدد من الزملاء لبحث أزمات تغطية الجنازات ووضع أسس وضوابط لهذا الأمر، لكن حتى الآن لم يعلن عما خلصت إليه اللجنة، حيث يرى المجلس ضرورة وضع قواعد في هذا الشأن تحمي حقوق المهنة وتراعي كذلك حرمة الحياة الشخصية.