Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الجاز"... ذاكرة الجرح

صوت الزنوج المنبوذين ورمز سياسي ثوري لأحلامهم في الكرامة والحرية والاختلاف

لا يزال دورها التاريخي في مكافحة العنصرية والتمييز يوحد الثقافات في جميع أنحاء العالم (أ ف ب)

تحتل موسيقى الجاز مكانة كبيرة داخل الأنماط الموسيقية المعاصرة، ذلك أن ثقلها التاريخي الأميركي يجعلها مميزة وذات شعبية كاسحة في العالم، ويكاد يكون الجاز أشهر نمط موسيقي أميركي أفريقي برز خلال سبعينيات القرن الـ 20 بعد أن أضحى بمثابة موضة موسيقية لدى عدد من الفنانين والمثقفين العرب، فقد شهدت هذه السنوات بروز وعي قوي بموسيقى الجاز وقدرتها السحرية في إحداث رجات قوية داخل قوالب فنية أخرى مثل اللوحة والسينما والفيديو.

وإذا كانت موسيقى الجاز أكثر الألوان الموسيقية صعوبة وتركيباً بسبب تعدد آلاتها وتمازج أنغامها وإيقاعاتها وأهازيجها، فذلك يعود أساساً لجذورها التاريخية الجريحة منذ منتصف القرن الـ 19 في مقاطعة نيو أورلينز الأميركية على ضفاف نهر المسيسيبي بولاية لويزيانا، بحكم ما شهدته المدينة سابقاً من نزعات أيديولوجية وحروب أهلية بين سكان المنطقة والترحيل الكبير الذي طال السكان الأصليين وجعلهم بمثابة عبيد في منازل البيض المرفهين.

لكن لم يكن هذا الترحيل السبب الوحيد الذي أسهم في تأجيج ظهور "الجاز" وإنما إلغاء قوانين نظام العبيد عام 1863 وبروز وعي جديد بضرورة إنهاء الحروب الأهلية في أميركا الحديثة.

ذاكرة الجرح

في اللحظة التي بدأ فيها الـ "أفروأميركيين" عيش حياتهم الخاصة بعد إلغاء نظام العبيد وممارسة أنشطتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، بدأ السود يجترحون لأنفسهم لغة موسيقية جديدة هي مزيج شعبي تلقائي بين مختلف الأنماط الموسيقية التي استقرت على هذه الضفاف، فكان هذا التعدد الفني والغنى الجمالي قادراً على إنتاج موسيقى الجاز، لا فقط كتجربة موسيقية وإنما كرمز سياسي ثوري على الموسيقى الغربية الكلاسيكية الرتيبة، بل إن كثيراً من البيض المتضامنين مع السود الذين عاشوا معهم في فترات لاحقة تعلموا معنى "الجاز" منهم ومارسوه.

وهكذا اختلطت الموسيقى الأفريقية بنظيرتها الغربية فكوناً معاً موسيقى الجاز، لكن مع طغيان كبير لجماليات الحضارة الأفريقية على هذا اللون الموسيقي وذلك على مستوى ميكانيزم الآلة وارتجاج النغم وأحادية الخط الموسيقي أحياناً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد شكل الزنوج الأفارقة ثقافة موسيقية غدت رائجة في أميركا، كونهم استثمروا في لغتها الموسيقية بين خصائص وعناصر الفن الأفريقي والنفس الديني ذاته، ومزجوها مع ألمهم وجرحهم وصراخهم خلال سنوات مضت، لكن حدسهم المسبق بأصالة الموسيقى الغربية جعلهم يفكرون بضرورة إدخال الجانب الهارموني في تأصيل موسيقى الجاز.

كما فطنوا أيضاً إلى ضرورة إخراج الجاز من الحانات والملاهي الليلية والتجمعات الدينية والزج به داخل الأوبرات الأميركية التراثية مثل "أوبرا بورغي أند بس" التي قدمت صورة مغايرة لحياة الأفارقة السود وسيرتهم داخل أميركا، وروجت لهذا النظام الموسيقي القائم على الارتجال.

يقول الناقد أنس مراد "يتميز اللحن الجازي بخصائص ديناميكية تمكنه من التأقلم مع أي طارئ موسيقي، فمقوماته الأولى تتمثل في الإيقاعات المتعددة ومادة التأليف الهارمونية الحرة إلى حد كبير، والتناول التنويعي للألحان وليس على التقيد الكلاسيكي بالمكتوب منها، وكل هذا جعل منه لوناً موسيقياً قادراً على تقمص أية مادة لحنية وهضمها ثم إخراجها في حلة أخرى".

يوم عالمي للجاز

ونظراً إلى المكانة التي أصبحت تحظى بها موسيقى "الجاز" في العالم، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) عام 2011 إطلاق يوم عالمي للجاز، لتمتين العلاقات السياسية في إطار ما يسمى بـ "الدبلوماسية الموازية"، وبذلك تغدو موسيقى الجاز سفيرة شرعية دولية تسهم في تقريب أواصر الصداقة بين البدان، كما تعمل على اقتراح نوع من المثاقفة الفنية التلقائية على البلد الآخر من أجل الدخول في المسلسل الموسيقي القائم على عملية التأثير والتأثر.

وعلى مدى الأعوام السابقة اعتبر الـ 30 من أبريل (نيسان) حدثاً موسيقياً استثنائياً كبيراً بالنسبة إلى عشاق "الجاز" في كل أطراف العالم، باعتباره سوقاً موسيقياً وفضاء للقاء بين "الجازيين"، إذ أسهم هذا الاحتفال في بروز كثير من التجارب الموسيقية التي تعاونت في ما بينها للقيام بعدد من الجولات حول العالم، وتم الاحتفال باليوم في عدد من الأماكن في تركيا واليابان وسان بطرسبورغ وسيدني وكوبا وباريس ونيوأورليانو ونيويورك وغيرها.

ويقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في رسالته عام 2021 إنه "مع مرور كل سنة نعيش في هذا اليوم احتفالاً مبهجاً ليس فقط بالموسيقى بل وبالحرية والتنوع والكرامة الإنسانية، فهذه هي القيم التي تعمل الأمم المتحدة على حمايتها وتعزيزها في جميع أنحاء العالم، وقد ظلت موسيقى الجاز منذ نشأتها تسهم في مد الجسور، ولا يزال دورها التاريخي في مكافحة العنصرية والتمييز يوحد الثقافات في جميع أنحاء العالم، وتعكس إيقاعاتها وأنغامها المنسجمة الروح الإنسانية التي لا تقهر والتي يمكن أن تتجاوز القيود التي يفرضهما الفقر والقمع، كما أن تركيزها المتكافئ على الارتجال يمنح الموسيقيين حرية الابتكار كأفراد وهم يؤدون مقاطعهم ضمن مجموعة صوتية متناسقة، ويمكننا أن نتشارك الأفراح والتحديات التي يفرزها هذا الشكل الفني الفريد".

الجاز الشرقي

لم يعرف العالم العربي موسيقى الجاز التي يطلقون عليها اسم "الجاز الشرقي" إلا أواخر ستينيات القرن الماضي حين بدأت بوادر مفهوم "التجريب" الجمالي تطبع الموسيقى العربية وتجعلها نداً لنظيرتها الغربية، ففي البداية تبلور الجاز باعتباره من المكونات الإيقاعية التي ميزت بعض الأغاني العربية، أي إنها تحضر كاعتراف ضمني بهذه الموسيقى في قدرتها على اجتراح تجريب موسيقي عربي جديد، ونعثر على ذلك في تجارب كل من المغربية سكينة فحصي والمصري مصطفى رزق واللبناني طارق يمني والجزائرية سعاد ماسي وفرقة "جاز أويل" التونسية، إذ يبرز الجاز هنا بوصفه لغة موسيقية تجدد العمل الغنائي العربي وتجعله يخرج من تنميطات موسيقية تقليدية ليبحث عن آفاق أخرى ذات ميسم معاصر.

وليس في هذه المعاصرة ادعاء بانتماء إلى مفهوم موسيقي فقط، بل إنها تضمر في طياتها بعداً تاريخياً يتعلق بماضي الجاز وقدرته على الصمود والمقاومة والاستمرار بما يجعله أحد قضايا الراهن الموسيقية.

يقول المغني والموسيقي المصري مصطفى رزق "الجاز موسيقى لا تعرف المكان وصالحة لأن تتجاور مع أي نوع آخر من دون أن يعني ذلك التخلي عن الطابع المميز للموسيقى المحلية، وفي تصوري أنه لدى ظهورها أنقذت الموسيقى الغربية، إذ حوت طاقات إبداعية لا نهائية وإن كان الغرب استطاع تطويرها والاستفادة من إمكاناتها المفتوحة".

أما النموذج الثاني فيتعلق أساساً بتجارب موسيقية عربية راهنت بشكل كامل على الجاز وجعلت منه لغتها التعبيرية الأولى، معتبرة أن موسيقى الجاز لا مكان لها كونها قادرة على التأثير بشكل أعمق بسبب تاريخها العميق وذاكرتها القوية المرتبطة بالمقاومة والصراخ في وجه قوى الاستعمار.

وفي مقابل هذه التجارب العربية الجادة التي حاولت التعامل مع الجاز بوصفه موسيقى قادرة على إيجاد لغة جديدة، نعثر على كثير من التجارب في العالم وقد تعاملت مع الجاز باعتباره موضة موسيقية ومدخلاً مفبركاً صوب العالمية، مما جعل أغانيها منحطة وترفيهية ومتصدعة في أساسها الجمالي لأنها تعاملت مع الجاز كموسيقى معاصرة لها عشاقها في العالم، بدل اعتبارها موسيقى تاريخية متحررة من ربقة النمط الموسيقي الغربي الكلاسيكي.

الجاز بصرياً

تعاملت السينما مع موسيقي الجاز من خلال نمطين، الأول باعتبارها موضوعاً سينمائياً، إذ عمل المخرجون من خلال أفلام وثائقية وروائية على تخييل عوالم الجاز وتتبع تاريخها الفني وذاكرتها الجمالية وفق أنماط مختلفة من السرد والحكي في علاقتهما بسير بعض الشخصيات الموسيقية التي طبعت هذا اللون الموسيقي.

ويعتبر فيلم "مغني الجاز" (1927) للمخرج آلان كروسلاند أشهر الأفلام التي روجت لموسيقى الجاز، إذ يحكي الفيلم قصة شاب يعشق هذه الموسيقى ويخالف رغبة والده الذي يعمل في كنيسة داخل مدينة نيويورك لكي يصبح مغنياً وعازفاً شهيراً، وعلى رغم الشهرة العالمية التي حققها هذا الفيلم بالنسبة إلى موسيقى الجاز حين جاء ذلك كتكريم لها، لم ينتبه إليه النقاد العرب إلا باعتباره أول فيلم ناطق، بخاصة وأنه يدخل ضمن النمط السينمائي الموسيقي الذي يجعل من الأشكال الموسيقية موضوعاً له، وهذا أمر سيبرز بشكل أقوى داخل تجارب عربية منذ الستينيات في إطار ما سمي بـ "السينما الغنائية".

ويقول الباحث يوسف الشايب إنه قبل الفيلم "كانت هناك محاولات لإنتاج أفلام ناطقة ولكنها كانت قصيرة وتم إنتاجها بشكل رديء وبأصوات غير واضحة أو مشوشة، إذ كان هذا الفيلم أقصى مستوى تقني وصلت إليه السينما الناطقة حتى ذلك التاريخ".

أما النمط الثاني فتعامل مع الجاز باعتباره مجرد شكل موسيقى داخل مشاهد سينمائية عدة، إذ تعطي للفيلم إمكانات هائلة على مستوى حداثة الصوت وتماهي ذلك مع عنصر الصورة، والشيء نفسه نعثر عليه داخل اللوحة بعد أن انطلق عدد من الفنانين التشكيليين من عنصر الموسيقى لتحقيق طباق بصري مع ذواتهم.

ويبقى الجاز أشهر هذه الألوان الموسيقية التي استند إليها التشكيلي العربي في صياغة عالم بصري متخيل، لا سيما في الأعمال التجريدية التي تغدو فيها اللوحة خاضعة لهواجس حسية لا تستند بالضرورة إلى كاليغرافية الخط العربي أو تصوير الأجساد أو إعادة محاكاة الواقع، بقدر ما تمنح موسيقى الجاز للفنان التشكيلي إمكان تطويع ذائقته الوجدانية داخل اللوحة، وتبدو هذه الموسيقى واضحة على مستوى تدرجات اللون وغنائية اللوحة وعدم تمركزها داخل نقطة بصرية واحدة.

المزيد من فنون