Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ملكة الجاز تخرق الأعراف وأم كلثوم تصلي لكي لا تفشل في مدينة الشمس

عندما بادرت إيللا فيتزجيرالد بالمشاركة في موسم ثانٍ في مهرجانات بعلبك اللبنانية

إيللا فيتزجيرالد (1917 – 1996) (غيتي)

عند بداية سنوات السبعين كانت ملكة غناء الجاز الأميركية إيللا فيتزجيرالد مُتربّعةً على عرش يمكن القول إن نحو نصف دزينة من مواطناتها يشاركنها فيه، لكنها كانت هي تحظى بمكانة الصدارة بينهن دون منازع، حتى وإن كان يحدث بين الحين والآخر لسارة فون، أو نينا سايمون، أو آبي لينكولن، أو آريتا فرانكلين، ولا سيما لبيلي هاليداي، أن تتنطح الواحدة منهن إلى مقارعتها مقارعة الند للند، وعن كثب، ولكن عندما حلت نهاية سنوات الستين، وبدأ فن الجاز كله يتراجع عن مكانته لصالح تيارات وأنواع ولدت من رحمه على أي حال، بدا أن ثمة تسليماً بأسبقية إيللا على الجميع، وبدا أن التنافس قد تحول إلى صداقة وتعاون، ولا سيما مع سارة فون، التي كانت أكثر المنافسات شراسة، وأجملهن صوتاً، وأكثرهن رومانطيقية. ومن هنا، وربما بفضل جولات عالمية، وبخاصة أوروبية لإيللا، أسفر معظمها عن إصدار ألبومات تحمل عناوين، مثل "إيللا في برلين"، أو "إيللا في روما"، كما بفضل مخزون غنائي كاد وحده يغطي كل تيارات غناء الجاز وكل السنوات الذهبية لهذا الفن ونتاجات معظم كتابه وملحنيه، بات من البديهي أن تصبح لإيللا مكانة متفردة بين متساويات، وربما متساوين أيضا. ومن هنا حين دعيت إيللا فيتزجيرالد في عام 1971 لتقدم واحدة من حفلاتها الرائعة الصاخبة ضمن إطار عروض مهرجانات بعلبك الدولية، كانت مفاجأة لجنة المهرجانات أن تلك السيدة قبلت على الفور، ودون تردد، بل بدت وكأنها تنتظر تلك الدعوة منذ زمن وتستغرب "عدم ورودها حتى الآن".

طلب يخرق أعرافاً

المهم، جاءت المغنية الكبيرة إلى بعلبك، وقدمت حفلة لا تُنسى على "خشبة" معبد باخوس امتلأت الصالة خلالها، وامتد التصفيق بعد أداء كل أغنية زمناً قياسياً، ما أثلج صدر الفنانة الكبيرة، وجعلها تقول إن هذا الاستقبال قد فاجأها وأفرحها. غير أن هذا التصريح الذي بدا للوهلة الأولى، بالنسبة إلى لجنة المهرجان نوعاً من المجاملة الأنيقة، سرعان ما أخلى المكان بعد أشهر لمفاجأة أتت أكبر كثيراً من الأولى. ولكي ندرك فحوى الأمر لا بد من الإشارة هنا إلى أنه كان من النادر في تاريخ المهرجان أن يتكرر حضور أي فنان عالمي كبير يُدعى إليه، في أكثر من موسم واحد. وكان ذلك أمراً مفروغاً منه، وبات نوعاً من العرف. وحدهم المشاركون اللبنانيون، ولا سيما من فرق "الدبكة"، ومقدمي الفولكلور، وبخاصة الأخوان رحباني وفيروز، كان يتكرر حضورهم موسماً بعد موسم، مع صعوبة أن يكون هذا الحضور في موسمين متتالين. ومن هنا كانت مفاجأة القيّمين على المهرجان كبيرة حين بدأوا يتلقون مراسلات من إيللا فيتزجيرالد تعبر فيها عن رغبتها، بل تطلعها لأن تعود إلى بعلبك في الموسم التالي، أي موسم عام 1972 تحديداً لكي تحيي حفلة جديدة في المكان نفسه.

بحثاً عن النوعية

لاحظ أهل المهرجان نوعاً من الإلحاح في خطابات إيللا، وكانت دهشتهم كبيرة. فهم على الرغم من ترحيبهم بالفكرة، وحماسهم لها، واتخاذهم قراراً بالتجاوب على الفور، توقفوا متسائلين عما إذا كان الأمر جدياً. وهكذا للتيقن مما بدا لهم حلماً خلباً، اتصلوا بالفنانة الكبيرة سائلين إياها، بحسب ما يروي بعضهم، عما يحدوها إلى ذلك الإصرار على تقديم موسم ثانٍ على الرغم من أن "جمهورك هنا لا يزيد عدده على أية حال على 2000 شخص تتسع لهم صالة معبد باخوس في حين أن جمهورك في أي حفل تقدمينه في صالة "ألبيرت" اللندنية مثلاً لا يقل عن 9000 شخص كأقل تقدير؟". وبسرعة أجابت إيللا كاتبة: "أنا لا يهمني حجم الجمهور بقدر ما يهمني ذلك الشعور الإنساني الذي أوجدتموه في علاقتكم معي. هناك أشعر بأنني بائعة أبيع الفن لمن يدفع ثمن البطاقة، وهنا أشعر بأنني إنسانة قبل أن أكون فنانة تغني لأناس أحبوا غناءها وأحبتهم". وهكذا عادت إيللا فيتزجيرالد موسماً تالياً لتغني أمام "جمهور حقيقي ووسط من عشقوا فنها وتفاعلوا مع شخصيتها، هم الذين لمناسبة هذه الحكاية عن ملكة الجاز الأميركي يروون حكايات عديدة عما كان عليه مستوى الفن في لبنان في تلك السنوات، وقبل أن ينهار لبنان ومعه الفن وكل شيء آخر، وكل حكاية منها تكفي للبكاء على ما آل إليه لبنان والفن فيه. ومن ذلك حكاية عن ملكة الطرب العربي الفنانة الكبيرة أم كلثوم التي يتطوع أهل المهرجان لإخبارك أنها في كل مرة كانت تتوجه بالسيارة من بيروت إلى بعلبك لتقدم حفلتها كانت تتمتم في السيارة بصوت خافت كلاماً يصعب عليهم سماعه، وذلك قبل أن تصل إلى الفندق لتنزوي في غرفتها صامتة لا تريد أن يقترب منها أحد. ولاحقاً، حين سُئلت عما كانت تُتمتم به أجابت مبتسمة: "كنت أصلي لكي لا أسفهكم داعية للحفاة بالنجاح ما ينجحني معكم...".

من البؤس إلى الصدارة

بالنسبة إلى إيللا فيتزجيرالد كانت، كما حال زميلتها العربية المصرية الكبيرة، تعيش في ذلك الحين ذروة تألقها الفني، لكنها كانت تقل عنها سناً، فهي كانت حين غنت في بعلبك في الثالثة والخمسين من عمرها، ولسوف تعيش أكثر من عقدين ونصف العقد من السنين بعدها، فيما لن تعيش أن كلثوم سوى سنوات قليلة. فإيللا ولدت عام 1917، وعاشت مثل كل المبدعات العظيمات من بنات جلدتها حياة فاقة وبؤس قبل أن تجد في الموسيقى وفي الجاز بخاصة ملاذاً لها ومخرجاً من البؤس، بالتالي نراها تدفع غالياً ثمن تلك السنوات التي ستجعل منها في النهاية "سيدة الغناء الأولى"، و"ملكة الجاز"، بل "ليدي إيللا"، وتنال خلال حياتها من الجوائز والتكريمات ما يحتاج تعداده إلى صفحات كثيرة بفضل فن عرفت فيه كيف تستفيد من مواهبها الفطرية، ولكن من إصرار على النجاح تضافر مع تقديمها بعض أجمل ريبرتوار الغناء الأميركي من خلال عمل مشترك غالباً مع لويس آرمسترونغ وسيدني بيشيت، وبخاصة ديوك إلنغتون، دون أن ننسى أداءها المميز، ومن بعيد، لأشهر أغنيات جورج غرشوين وكول بورتر التي حتى ولو كانت قد أدت معظمها بعد تأدية فنانين وفنانات سابقين لها، فإنها هي أعادت إحياءها بشكل جعل كُثراً يعتقدون أنها كتبت ولحنت في الأصل من أجلها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سر فنانة كبيرة

ومن المؤكد هنا أن هذه الفنانة الاستثنائية تدين في هذا إلى أكثر من ستة عقود تفرغت فيها لفنها بادئةً منذ سنوات مراهقتها لأولى مواصلة السعي والعمل والاجتهاد حتى سنواتها الأخير على الرغم من الأمراض التي اعترتها. ومن المعروف أن إيللا كانت أكثر مغنيات الجاز الكبيرات ابتعاداً عن الإدمان وخوض المغامرات، وما إلى ذلك، هي التي كانت في الثالثة عشرة حين راحت تدخل معترك الفن أولاً ضمن إطار العمل مع فرقة تشيك ويب التي ستقول دائماً إنها كانت مدرستها الحقيقية، الفرقة التي تولت شؤونها عند وفاة ويب مع أنها عملت أحياناً في ملهى سافواي الشهير الذي شهد بداياتها كمغنية منفردة. وهي تركت تلك الفرقة عام 1942 لتنطلق متفردة بشكل نهائي طوال ما يزيد على خمسين عاماً شراكة مع نورمان غرانتز الذي أسس شركة أسطوانات "فيرف" لكي تتخصص في طباعة ونشر أعمالها. ولقد تلا ذلك عملها مع الكبار من أمثال آرمسترونغ وإلنغتون في أغنيات ارتبطت باسمها من أشهرها تلك التي راحت تشكل عماد حفلاتها التي راحت تتكاثر. ولئن كان إيللا قد تزوجت في عام 1947 راي براون وأنجبت منه ابنها الوحيد راي براون جونيور، فإنها طلقته في عام 1953 لتعيش حرة من كل قيد، ولسوف تقول دائماً إنها عرفت كيف تنمي فنها وتصل به إلى الذروة التي وصلت إليها بفضل تلك الحرية. وهي نفس الحرية التي طغت على أدائها الفني، التي كانت تتعمد أن يحتوي في الحفلات على الأقل على قدر كبير من الارتجال الذي كان جزءاً دائماً من السحر الذي مارسه فنها، وهو السحر الذي خبره الجمهور اللبناني عامي 1971 و1972 في هاتين الحفلتين اللتين لا تنسيان إذ شكّلتا حدثاً استثنائياً في تاريخ هذا البلد، وختمتا حقبة ازدهار لم يبقَ منها اليوم سوى حسرة مريرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة