لا شيء يذكر أبناء موسكو وضيوفها باقتراب العام الجديد أكثر من عرض "كسارة البندق" والطوابير التي تمتد لمئات الأمتار أمام مسرح "البولشوي" في قلب العاصمة الروسية، ذلك ما تتناقله الألسن لدى متابعة مشاهد تدافع أبناء موسكو وضيوفها للفوز ببطاقة أو بطاقتين لحضور رائعة تشايكوفسكي في موعدها التقليدي ليلة رأس السنة الجديدة، بسبب ارتباط أحداثها بمناسبة أعياد الميلاد.
و"كسارة البندق" عرض مسرحي موسيقي راقص يحرص مسرح "البولشوي" على عرضه مع بدايات كل عام جديد، وهو باليه من فصلين وضع بيتر تشايكوفسكي موسيقاه في ما يقرب من العامين في 1891-1892 عن قصة الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما الأب (1844) الذي اقتبسها بدوره عن قصة "كسارة البندق وملك الفئران" للأديب والملحن الألماني الشهير إرنست هوفمان.
وعلى نحو لم يختلف كثيراً في هذا العام عن سابقه من الأعوام، وما إن جرى الإعلان عن بدء بيع بطاقات العرض حتى امتدت طوابير الراغبين في الاستمتاع بمشاهدة هذا الباليه الشهير ومن اندس بينهم من المحتالين والمضاربين وأساطين السوق السوداء، أمام شبابيك بيع التذاكر قبل الموعد المحدد لبدء بيعها بأيام، وذلك للفوز بفرصة الحصول على السوار "الميمون" المصنوع من القماش غير القابل للتمزق الذي يوزعونه عند منتصف الليل، كبطاقة مرور إلى شباك بيع بطاقات الدخول لابتياع تذكرة أو تذكرتين في اليوم التالي.
فرصة للمضاربين
ولما كان عدد البطاقات المسموح بشرائها لا يزيد كل يوم على 400 بطاقة للراغبين في حضور هذا العرض الذي يجرى تقديمه على مدار الموسم المسرحي، فإن تقليد توزيع "السوار" صار فرصة لأصحاب النفوس الضعيفة والمضاربين ممن تخصصوا في الاستئثار بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، بأكبر عدد منها لبيعها لاحقاً في السوق السوداء بأسعار تبلغ أحياناً 10 أضعاف السعر الرسمي للبطاقة الواحدة.
ومن المثير والغريب في هذا الصدد أن إعلانات التخلي عن الدور في الطابور أو التنازل عن السوار "الميمون" بدأت في الانتشار على نحو واسع بصفحات ومواقع الإنترنت على مسمع ومرأى من القائمين على القانون، في وقت يلتزم شباك بيع بطاقات المسرح بتسجيل بيانات هوية الراغبين في شراء هذه البطاقات، ولا يسمح ببيع أكثر من بطاقتين للفرد الواحد.
وتقول مصادر البولشوي إن أسعار هذه البطاقات تتراوح بين 1500 روبل (250 دولاراً) وحتى 28600 روبل (500 دولار)، وهي التي ترتفع أسعارها في السوق السوداء إلى ما يزيد على 2500 دولار للبطاقة الواحدة.
ولعل ذلك وحده يمكن أن يكون تفسيراً للاقتتال والشجار الذي تجرى مشاهده كل ليلة مع اقتراب منتصف الليل، موعد توزيع "الأساور" الرقمية للفوز بواحدة منها، وهي التي تقترب في مشهدها من "الأساور العقابية" التي لطالما تسلح بها رجال الشرطة لدى مواجهة المجرمين، والطريف أن هناك من المتطوعين من يتولى تسجيل أسماء الراغبين في الفوز بهذا "الشرف الرفيع"، في وقت باكر من افتتاح شبابيك بيع بطاقات المسرح على نحو يغدو معه وكأنه أحد المبشرين بالجنة، ومن هنا تبدأ سلسلة جديدة من الحيل والألاعيب التي تروج لبيع الأساور أو الدور في الطابور الذي يكفل الحصول عليها بمقابل لا يقل عن 150 إلى 200 دولار.
أما عن إمكان حجز التذاكر أو بطاقات العرض عبر الإنترنت فإن ذلك يظل يكتنفه غموض ومتاعب شديدة.
وفي حال تيسر الفوز ببطاقة دخول "جنة" البولشوي فإن المرء يمكن أن يصطدم بمشكلات أخرى تتعلق بالمكان الذي تيسر له الفوز به في حال فقدانه لحرية الاختيار، فهناك من راح يجأر بالشكوى خشية الاصطدام بما سبق ولمسه بنفسه لدى حضوره لعروض سابقة، وذلك من واقع وجود عدد من المقاعد في أماكن "جانبية" تحتجب فيها الرؤية تماماً، مما دفع بعضهم بحسب روايتهم على مواقع الإنترنت، إلى مغادرة المسرح بعد انتهاء الفصل الأول.
أما عن عروض "كسارة البندق" فتبدأ هذا العام اعتباراً من الـ 26 من أكتوبر (تشرين الأول) وحتى ما بعد بداية العام الجديد، إذ يستمر مسرح البولشوي في تقديمها على مدار أسابيع كثيرة، ويشارك في تقديم هذه العروض مسرح البولشوي الأكاديمي زائراً من بيلاروس ضمن برنامج حافل يتضمن كثيراً من أشهر عروض البولشوي المميزة، ومنها "بحيرة البجع" و"الحسناء النائمة" و"دون كيخوت"، وغيرها من أبرز عروض الأوبرا والباليه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"حكاية خيالية"
وحول قصة "كسارة البندق" تقول الأدبيات العالمية والروسية إنها "حكاية خيالية" كتبها ألكسندر دوما الأب عن قصة خيالية كتبها المؤلف الألماني أحد أهم رواد الأدب الخيالي (فانتازيا)، وثمة من يقول في موسكو إنه لولا موسيقى تشايكوفسكي التي وضعها لعرض الباليه الذي قدمه ليف إيفانوف للمرة الأولى في ديسمبر (كانون الأول) 1892، عن هذه الحكاية على خشبة مسرح مارينسكي في سان بطرسبورغ، أحد أهم مسارح الأوبرا والباليه في العالم والثاني في روسيا بعد "البولشوي"، لما حظيت هذه "الحكاية الخيالية" بمثل هذه الشهرة واسعة النطاق. وأضافت المصادر الروسية أنه خلافاً لما أدخله ألكسندر دوما الأب من تغييرات طفيفة على الأصل الذي كتبه هوفمان، فإن ما تضمنه باليه "كسارة البندق" من مشاهد المؤامرة بدا في شكل رمزي خرافي أكثر سلاسة.
ومن اللافت أيضاً في صدد تميز وفرادة ما أضفاه تشايكوفسكي على هذه "القصة الخيالية الفرنسية الألمانية الأصل"، ما رصدته المصادر الروسية من ارتباط بعض مشاهدها بأحداث الحياة الأسرية وشخصيات أقارب تشايكوفسكي المقربين، على حد تعبير الناقد المسرحي الروسي ديفيدوف الذي أشار إلى كل من شقيقة تشايكوفسكي ألكسندرا وأولادها فلاديمير وتاتيانا، اللذين عانيا إدمان المخدرات. وأضافت المصادر الروسية أن هذا العمل المسرحي الموسيقي يحتل مكانة خاصة بين الأعمال المتأخرة لبيتر تشايكوفسكي، لا سيما ما يتعلق منها بظهور "سيليستا" أو "تشيليستا"، وهي "لوحة مفاتيح ميتالوفون" وفقاً لتقنية العزف، وتشبه ظاهرياً بيانو صغير أو أرغن"، أي أنها آلة موسيقية إيقاعية وواحدة من أشهر الآلات الإضافية للأوركسترا السيمفونية تم طلبها من باريس خصيصاً وبناء على طلب تشايكوفسكي.
أما عن أحداث باليه "كسارة البندق" فقد جاءت في فصلين أوجزت "المصادر الأدبية" الأول منهما، فيما أشارت إلى بدايته باحتفال كبير لمناسبة عيد الميلاد يتضمن عرضاً لألعاب سحرية استمتع بها الصغار والكبار قبل أن يقوم "دروسلماير" بإهداء "كلارا" دمية على شكل "كسارة البندق"، الأمر الذي استفز شقيقها فريتز ودفعه إلى محاولة انتزاعها من يدها لتتحطم الدمية، وهو ما كان سبباً في حزن كلارا فسارع دروسلماير إلى مصالحتها بالعمل على إصلاح هذه الدمية لينتهي الحفل ويخلد الجميع إلى النوم.
وتتوالى مشاهد العرض لتفاجأ كلارا برؤية دميتها "كسارة البندق" وقد ظهرت فجأة في هيئة "دروسلماير" ولتشعر بأن الحجرة بكل محتوياتها تزداد اتساعاً، فيتضاعف حجم شجرة الميلاد والهدايا الموجودة إلى جانبها، وفجأة يظهر جيش من الفئران التي تهاجم كلارا وتدور معركة بين الدمى بقيادة "كسارة البندق" وبين جيش الفئران بقيادة ملكهم تنتهي بانتصار الدمى، وتتحول الحجرة إلى غابة جليدية وتتحول معها دمية "كسارة البندق" إلى أمير شاب يصطحب كلارا التي أصبحت بدورها فتاة جميلة في رحلة الأحلام ويرقصان بسعادة مع المجموعة.
أما الفصل الثاني فيظهر فيه دروسلماير متابعاً لرحلة كلارا مع الأمير "كسارة البندق" وهما يركبان قارباً جميلاً مسحوراً في طريقهما إلى مدينة الحلوى العامرة بمختلف أنواع الحلويات ومنها الشوكولاتة وتمثلها الرقصة الإسبانية، والبن وتمثله "الرقصة الشرقية" والشاي وتمثله "الرقصة الصينية"، والماتروشكا (مجموعة العرائس الروسية المتداخلة) وتمثلها "الرقصة الروسية"، ثم يعقب ذلك لحن فالس جميل، وتشارك كلارا والأمير المجموعة في رقصة فالس الزهور ورقصاتها الثنائية، وتدق أجراس الساعة معلنة الصباح ليختفي الأمير وتبذل كلارا جهدها في البحث عنه من دون جدوى لتجد أمامها دروسلماير، أما الأمير فقد تحول مرة أخرى إلى دمية كسارة البندق، وفي هذه اللحظة تكتشف كلارا أنها عاشت حلماً جميلاً.