Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تشايكوفسكي وموسيقاه بين غضب زوجته وحنان عشيقاته وعشاقه

فيلمان متناقضان عن حياته خلال نصف قرن والغريب أن كليهما صادق في ما يقول

مشهد من "زوجة تشايكوفسكي" (2022) (موقع الفيلم)

من "بحيرة البجع" إلى "السيمفونية العاطفية" ومن "يوجين أونيغن" إلى "كسارة البندق" وسواها من أعمال موسيقية رائعة تكاد تكون الأشهر والأكثر حظوة لدى محبي الموسيقى والفن الحقيقيين، لا شك أن فن الروسي الكبير تشايكوفسكي هو واحد من أكثر فنون الموسيقى الكلاسيكية -ولنقل الرومانطيقية- شهرة في العالم، بل إن موسيقى هذا المبدع الكبير تكاد تقول لمحبي فنه إنها تكشف عن مسرى حياته وأفكاره وعواطفه بأكثر مما تفعل موسيقى أي واحد من أبناء جيله، ولكن مع ذلك ها هم أولاء المحبون يكتشفون أنهم في الحقيقة لا يكادون يعرفون شيئاً عن جوانيته ولا عن عواطفه. وهم لئن حكموا عليه في الأقل، من خلال فيلمين تناولا فنه وعلاقته بحياته يفرق بين زمني إنتاجهما أكثر من نصف قرن، سيجدون حيرتهم تزداد غموضاً وذلك من جراء التناقض المريع بين توصيفين له ولحياته الداخلية وبالتحديد اختياراته العاطفية.

بين العشيقة والعشيق

فالمتفرجون الذين كانوا قد أحبوا صورة دوستويفسكي المرسومة في فيلم "عاشق الموسيقى" للإنجليزي كين راسل، الذي عرض عند بدايات سبعينيات القرن العشرين، بوصفه عاشقاً ليس للموسيقى فقط بل كذلك لتلك النبيلة الحسناء التي أحبته وأغدقت عليه من كرمها المادي والعاطفي ما مكنه خلال فترة مفصلية من حياته أن يبدع بعض أكثر أعماله نعومة و"معاناة"، كما مكنه من أن يغرد في مغامرات عشقه الخاصة بعيداً من حياته مع زوجته، هؤلاء المعجبون أنفسهم أو من تبقى منهم مهتماً بالأمر بعد كل تلك السنين، سيدهشون، أو ربما "يفجعون" اليوم حين يشاهدون آخر فيلم سينمائي تحقق عن هذا المبدع الكبير، وعنوانه "زوجة تشايكوفسكي" للمخرج المناوئ للكرملين سيريل سيريبنيكوف، وهو فيلم عرض في المسابقة الرسمية للدورة الأخيرة من مهرجان "كان" السينمائي وأثار ضجة كبيرة بل اهتماماً يتراوح بين أعلى درجات السلبية وأعلى مستويات الإيجابية، فيما توقع كثر له بأن يفوز بما لا يقل عن "السعفة الذهبية" قبل أن يخرج من المولد بل حمص، هذا إن لم نعتبر الضجيج الكبير الذي كان من نصيبه قدراً من الحمص يعتد به.

اكتشاف يغيظ كثراً

بيد أن المهم هنا هو "الاكتشاف" الكبير الذي مكن الفيلم متفرجيه من محبي موسيقى تشايكوفسكي من تحقيقه. وهو لا يقل، بكل بساطة عن مثلية جنسية لدى هذا العاشق الدائم للموسيقى الذي تبدى الآن عاشقاً مؤقتاً فقط لنساء يفضل عليهن الوسيمين من الشبان. ومن الواضح أن الذين بوغتوا بحديث الفيلم عن هذه "القلبة" المسرحية في التوجهات الجنسية لبطلهم لم يكونوا يعلمون شيئاً عنها، مع أنها في الحقيقة كانت معلومة لقطاعات عريضة من متابعي شؤون الموسيقيين وحياتهم. أما الأكثر تعنتاً من بين هؤلاء المهتمين فلقد واتتهم، أو واتت بعضهم في الأقل "فكرة" بالغة الغرابة، فحواها أن لا بد لنا من ربط تلك المثلية باختيارات الموسيقي الإبداعية. فمن المعروف أن تشايكوفسكي كان في زمنه يعتبر رمز التوجه بالفنون الروسية ناحية الغرب الأوروبي استلهاماً وقواعد وهمّاً، على الضد من كثرة من مبدعين روس، في مجال الموسيقى بخاصة، كانوا يناضلون للتمسك بما يسمى الأصالة منافحين عن إبداع موسيقى روسية لا تنهل إلا من التراث الشعبي الروسي العريق وتفاصيله الممتدة على قرون من الزمن عديدة. ونعرف طبعاً أن تلك المجموعة التي تسمى "مجموعة الخمسة" كانت تضم ريمسكي كورساكوف وبورودين وموسورغسكي الذين انضموا إلى النواة التي شكلها لقاء تأسيسي بين بالاكيريف وكوي، ليخوضوا صراعاً ضخماً وقاسياً ضد كل الـ"المتغربين" سواء كانوا أو لم يكونوا متحلقين من حول تشايكوفسكي. وفي الأحوال كافة كان هدفهم المشترك بدعم من الناقد ذي النفوذ فلاديمير ستازوف، تحطيم صاحب "بحيرة البجع" تحديداً. ومن هنا كان على هذا الأخير أن يخوض معارك عديدة في آن معاً لعل أخطرها وأكثرها مرارة تلك التي أتى الفيلم الجديد يصورها لنا وبالتحديد كما يقول عنوان الفيلم، من خلال التركيز على نظرة زوجة تشايكوفسكي إلى زوجها وحياته والخيبة التي أسفرت عنها حياتها معه.

منافسة استثنائية

ولكن على العكس مما كان من شأننا أن نفهمه من حبكة فيلم كين راسل القديم حيث خيل لنا أن "مأساة" امرأة تشايكوفسكي الشرعية، إنما نبعت من اضطرارها للمنافسة مع نساء كثيرات أحطن به وكانت النبيلة الراعية له في مقدمتهن، ها نحن أولاء أمام الفيلم الجديد نكتشف أن الصراع الحقيقي الذي خاضته الزوجة إما كان ضد علاقة زوجها بـ... الفتى الذي فضله ذات لحظة على أي كائن آخر. وهنا لن نهتم كثيراً بالقيمة الحقيقية للفيلم، أو حتى لـ"المعلومات" التي انهمر بها علينا، ولا حتى بصدقية تلك المعلومات الموجودة على أية حال من قبل الفيلم، بحيث إن هذا لم يأتِ بما هو جديد إلا من منطلق وجهة النظر التي جابه بها موضوعه، لكن ما يهمنا هو الكيفية التي قدم بها هذا الموضوع من منطلق حرية المبدع في أن يكون ما يشاء أن يكون، وأن المبدع لا بد له من قدر كبير من الجنون -الجنسي وغير الجنسي على أية حال- كي يكون مبدعاً حقيقياً. وفي هذا السياق لا بد لنا من القول إن المخرج في هذه النقطة بالذات إنما تحدث عن ذاته بقدر ما تحدث عن تشايكوفسكي. ومن هنا لم يكن غريباً أن يربط بعض النقاد الأكثر تعمقاً بين سينما سيريبنيكوف وتلك التي كان يصنعها الإنجليزي ديريك جيرمان الذي لم يتوقف في مسيرته السينمائية القصيرة التي قطعها الموت المبكر، عن تحقيق سير سينمائية لبعض أشهر المثليين في تاريخ الفن. مع فارق أساسي يكمن في أنه فيما كان جيرمان لا يرى في "أبطاله" سوى هذه الناحية، يحاول المخرج الروسي أن ينظر إلى بطله ككل مكتمل، وهو نجح في ذلك كما نجح في أن يعهد بمهمة "فضح" الفنان الكبير إلى زوجته، مركزاً على معاناتها وحبها الضائع ولا شك أن هذا تجديد لافت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

القيمة الفنية مضمونة

ويبقى هنا أن تشايكوفسكي وعلى الرغم من كل التعاطف الذي يمكن للمتفرجين على الفيلم إبداؤه تجاه الزوجة، لا ينقص الفيلم ولو مقدار حبة رمل من قيمته الفنية ولا من قيمة أعماله. فتشايكوفسكي قبل كل شيء وبعد كل شيء واحد من كبار موسيقيي العصور الرومانطيقية. وموسيقاه تعبر عن صراعات زمنه في مجال الاختيارات بين البقاء في أسر التراث المكبل والإفلات منه لخوض مغامرات فنية تنظر إلى العالم والعصر من منظور التوق إلى الاندماج فيهما. ففي نهاية الأمر هذا هو الأكثر أهمية الذي يبقى للأزمان التي تلت زمنه من بين كل ما عاشه وأفرحه وأحزنه وعبر عنه. ونعرف طبعاً أن ما عاشه بيوتر إيليتش تشايكوفسكي (1840 – 1893) وما أفرحه وما أحزنه لينعكس بعد كل شيء في ما أبدعه وعبر عنه، هو المهم وهو ما ارتبط بذلك المتن الموسيقي العظيم، بل يمكننا أن نقول إن ذلك المتن إنما انصنع أيضاً من تلك التفاصيل الحياتية التي تضم في ما تضم، الحكاية التي يصورها لنا فيلم "زوجة تشايكوفسكي" على لسان تلك الزوجة، كما تضم بالتأكيد تلك الصورة النقيض التي رسمها لنا قبل نصف قرن فيلم كين راسل "عاشق الموسيقى"، إذ سواء أكانت الصورتان غير صحيحتين أو كانت واحدة منهما صحيحة والأخرى غير صحيحة فإنهما معاً باتتا تشكلان جزءاً لا يستهان به من حكاية تشايكوفسكي وجوهر فنه. فنحن في نهاية الأمر نعرف أن حياة المبدع لا تنتهي باللحظة التي يرحل فيها هذا عن عالمنا، بل ستتواصل ماثلة بيننا من خلال الفنون التي أبدعها ولكن أيضاً من خلال صورته كما تصل إلى الناس وتتطور وتنمو طوال الأزمان التالية بحيث لا يعود يهم كثيراً أن تكون هي الحقيقة أو نصف الحقيقة أو ربعها، بالنسبة إلى حياته الحقيقية طالما أنها، وربما رغماً عنه وعن المتمسكين بـ"صدقية" التفاصيل وحرفيتها، هي الصورة التي يحتاج إليها فنه كي يتكون كل مرة من منظور جديد وفي معانٍ متجددة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة