Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بنت البستوني" من قصة بوشكين إلى أوبرا تشايكوفسكي ولو على مضض

الموسيقي يبدل تشفي المؤلف الروسي بالضابط الألماني إلى تعاطف معه كبطل بايروني

مشهد من تقديم لأوبرا "بنت البستوني" (موقع الأوبرا)

ربما تكون أوبرا "بنت البستوني" التي اقتبسها الأخوان موديست وبيوتر تشايكوفسكي، من قصة بوشكين المعروفة، واحدة من أشهر الأوبرات الروسية بالنظر إلى أن وراءها شاعر الروس الأكبر من ناحية وموسيقيهم الأكثر رومانطيقية من ناحية أخرى. وتتمحور حكاية الأوبرا، كما حكاية بوشكين تماماً تقريباً من حول الضابط الألماني الأصل هيرمان الملحق بسلاح المهندسين في الجيش الإمبراطوري الروسي. ومنذ البداية نعرف أن هيرمان يراقب باستمرار رفاقه الضباط الآخرين يقامرون، لكنه لا يجرؤ على اللعب لحرصه على المال. وذات مساء يروي رفيق يدعى تومسكي قصة عن جدته الكونتيسة العجوز قائلاً إنها قبل سنوات، في فرنسا، خسرت ثروة عادت واستردتها بفضل سر يتعلق بالبطاقات الثلاث الفائزة، وهو سر تعلمته من كونت سان جيرمان سيئ السمعة. وهكذا يضحي هيرمان مهووساً بالحصول على السر. ولما كان هيرمان يعرف أن الكونتيسة (التي تبلغ الآن 87 عاماً) تؤوي لديها فتة حسناء هي ليزافيتا إيفانوفنا، يرسل رسائل حب إلى ليزافيتا ويقنعها بالسماح له بالدخول إلى المنزل. وحين يتمكن من ذلك بفضل تواطؤ ليزافيتا معه لهيامها به من دون أن تدري ما الذي ينتويه، يدخل غرفة الكونتيسة مطلباً إياها بإطلاعه على السر. تزعم أولاً أن القصة كانت مزحة، لكن هيرمان يرفض تصديقها. يكرر مطالبة لكنها لا تتكلم. يسحب مسدساً ويهددها فتموت السيدة العجوز لرعبها. ويهرب الشاب وجلاً إلى شقة ليزافيتا في نفس المبنى. هناك يعترف بإخافة الكونتيسة حتى الموت بمسدسه. يدافع عن نفسه بالقول إن المسدس كان فارغاً. ويهرب من المنزل بمساعدة ليزافيتا، على الرغم من شعورها بالاشمئزاز عندما تدرك أن "حبه" كانت نابعاً من جشعه لا أكثر.

زيارة الشبح

يحضر هيرمان جنازة الكونتيسة، لكنه يرتعب لرؤيتها تفتح عينيها في تابوتها وتحدق فيه. ولاحقاً تلك الليلة، يظهر شبح الكونتيسة لهيرمان الذي يسمع الشبح يحدد له أوراق اللعب الثلاث السرية الرابحة (ثلاثة، سبعة، آس)، ويخبره أنه يجب أن يلعب مرة واحدة فقط كل ليلة، ثم يأمره بالزواج من ليزافيتا. وعلى الفور يجمع هيرمان كامل مدخراته متوجهاً إلى صالون تشيكالينسكي، حيث يقامر الأثرياء بمبالغ ضخمة. في الليلة الأولى، راهن هيرمان بكل أمواله على الثلاثة وربح. في الليلة الثانية، ربح بالسبعة. وفي الليلة الثالثة، راهن على الآس ولكن عندما تظهر البطاقات، يجد مذهولاً أنه راهن على بنت البستوني، بدلاً من الآس، وخسر كل شيء. وهو حين حدق بالورقة التي خسرته كل ما لديه خيل إليه أن البنت تغمز له بعينها بتشف، لكن ما أذهله وأرعبه أكثر إنما كان الشبه الغريب بين "البنت" والكونتيسة الراحلة. وتنتهي الحكاية، لدى بوشكين، ولكن ليس لدى تشايكوفسكي في الأوبرا كما سنرى، بهرمان في الغرفة 17 بمستشفى الأمراض العقلية حيث يمضي وقته وهو يتمتم ثلاثة، سبعة، آس..، فيما تتزوج ليزافيتا من ابن وكيل الكونتيسة السابق، وهو مسؤول حكومي يتقاضى راتباً جيداً.

 

حكاية الأوبرا وتقلباتها

لقد كانت قصة بوشكين هذه من الشهرة إلى درجة أن إيفان فسيفولودسكي، مدير المسارح الإمبراطورية في سانت بطرسبورغ، ستخطر في باله بعد صدور القصة بسنوات فكرة تقديم أوبرا مبنية على تلك القصة. فقام أولاً بتكليف الموسيقي نيكولاي كلينوفسكي الذي انسحب عندما عهد بكتابة النص الأوبرالي إلى موديست شقيق بيوتر تشايكوفسكي الذي توجه إثر ذلك إلى أخيه كي يقوم بتلحينها هو الذي كان قد سبق له أن لحن عملين أوبراليين مقتبسين عن بوشكين وهما "يوجين أونجين" (1879) و"مازيبا" (1884). في نهاية عام 1887 وعلى الرغم من أن الموسيقي كان قد عانى فشل عدد من أعمال كان يقوم بها وبات مضطراً لقبول هذا التكليف الجديد المضمون النتائج، راح يتباطأ ويتلكأ مفضلاً أن يعطي الأولوية لعمله الأوركسترالي، لا سيما سيمفونيته الخامسة كما يقول كاتبو سيرته، لكنه وبعد عام واحد بدأ بالفعل في تلحين "بنت البستوني" بعد أن أجرى بعض التعديلات في النص وأضاف أغنيتين. ولقد اشتغل تشايكوفسكي بتأليف هذه الأوبرا وهو مقيم في فلورنسا بإيطاليا، خلال 44 يوماً جرى خلالها تبادل الرسائل مع أخيه، ما أتاح متابعة تطورات إنجاز هذا العمل الأوبرالي المجدد الذي سيكون ذا مكنة كبيرة في المسار الإبداعي للموسيقي.

تبديلات أو لا تبديلات

وفي نهاية الأمر كان العرض الأول لـ"بنت البستوني" في سانت بطرسبورغ يوم 19 ديسمبر (كانون الأول) 1890 بعد أكثر من نصف قرن مضى على ظهور قصة بوشكين، ليكون عرضها العالمي الأول عام 1906 في "لا سكالا" بميلانو. ولقد قام بالدورين الأساسيين في عرض سانت بطرسبورغ كل من نيقولا فيغنر وميديا ميي. ولقد كانت التعديلات التي أجراها الأخوان تشايكوفسكي على نص بوشكين الأصلي كبيرة لكنها لن تكون جوهرية كما قلنا مكتفية أن تغير في الأزمنة وبعض لقاءات الأشخاص وفي النهاية من دون أن تحدث تبديلاً في الحكاية نفسها أو في العلاقات. ومع ذلك كان من الواضح أن تشايكوفسكي الموسيقي، لم يكن مرتاحاً إلى الصفات التي "بالغ بوشكين في وسم شخصية هيرمان بها". فهو جعله لئيماً نذلاً ووسمه بقدر كبير من السمات التي تجعله رمزاً للانتهازية والشر المطلقين، بالتالي جعله بعيداً من تلك الرومانطيقية التي دائماً ما حاول تشايكوفسكي الدفاع عنها وتبيانها لدى أبطاله حتى حين لا يكونون إيجابيين. ومن هنا لم يشأ تشايكوفسكي أن يصور بموسيقاه على الأقل أن هيرمان لم يكن مهتماً، كما هو حاله لدى بوشكين، إلا بالحصول على سر الكونتيسة مكتفياً من ليزا التي أغرمت به حقاً، بأن تكون وسيلته للوصول إلى الكونتيسة. وهكذا على العكس من ذلك عمد موديست وبيوتر تشايكوفسكي إلى تحويل هيرمان إلى شخصية على النمط البيروني– نسبة إلى الشاعر الإنجليزي اللورد بيرون– حيث تقدمه الأوبرا على عكس القصة، مقامراً بالطريقة التي يولع بها الرومانطيقيون بالقمار أي الطريقة التي تجعل القمار يعبر عما يقوله المعلقون عادة من أن المقامرين إنما هم آخر الشعراء الرومانطيقيين. وبهذا حولت الأوبرا هرمان من جشع أناني لا يهتم بسوى جمع المال مستخدماً سذاجة ليزا وغرامها الموله به كوسيلة. فهيرمان الآن يحب ليزا حقاً بقدر ما يحب القمار، كما أن الأوبرا جعلت من ليزا حفيدة للكونتيسا وليست مجرد قريبة بعيدة تعيش في حماها. وبذلك تمكنت الأوبرا من أن تحتوي على تلك الخاتمة المأساوية التي لا مناص منها في الأوبرا الرومانطيقية فيما كان بوشكين قد ختمها بنهاية طيبة توصلت إليها حياة ليزا. وحسبنا أن نذكر هنا كيف تبدلت النهاية لندرك عمق الفارق بين ما كانت عليه الحكاية لدى بوشكين وما صارت عليه لدى الأخوين تشايكوفسكي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من التشفي إلى التعاطف

ففي الأوبرا، وعند ختام المشهد الثالث من الفصل الثالث والأخير يعلن الأمير تشيكالنسكي صاحب اللعبة وقد تبين لهيرمان أن ما يمسك بين يديه إنما هي ورقة البنت البستوني بعد أن كان قد أعلن وقد أعطي الورقة الأخيرة أنها أس حتى من دون أن ينظر إليها لثقته بحسن طالعه وبما قاله له الشبح، يعلن تشيكالنسكي بكل هدوء قائلاً، "بل هي ورقة بنت البستوني" وعلى الفور يطلق هيرمان هنا صرخة مريعة وليس فقط لأنه اكتشف أنه يمسك بالورقة التي تدمره، بل لأنه يشاهد بأم عينيه شبح الكونتيسا يسخر منه. وهو يواصل صراخه برعب فيما يبتعد عنه كل الحضور مذهولين. وذات لحظة ها هو يلتقط خنجره ويطعن نفسه، ثم فيما هو يلفظ الروح يتوسل إلى الأمير أن يسامحه على كل الشرور التي اقترفها. وهنا فيما يهيمن على الجو صلاة كورس متصاعدة تدعو لروحه بالسلام الأبدي يتهاوى هيرمان ميتا. وهي بالطبع نهاية تختلف تماماً مع النهاية التي كتبها بوشكين والتي تنطبع بقدر كبير من التشفي بمصير الضابط الألماني. وهنا قد يكون من المفيد أن نذكر كيف أن هيرمان بالكاد تذكر أصوله في الأوبرا حيث من الواضح أن تشايكوفسكي لم يعد مهتما حقاً بكونه ألمانيا طالما أنه لم يعد يبدو على كل ذلك السوء الذي غمره بوشكين به من موقع شوفيني بكل تأكيد، إذ بات الآن جديراً بالتعاطف الذي لم يكن بطل بوشكين ليتمتع به... ففي نهاية الأمر كان من الواضح أن المشاعر تجاه الألمان قد تبدلت بين زمن بوشكين وزمن تشايكوفسكي...

المزيد من ثقافة