Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"العنف" درس مستمر في المدارس المصرية والقوانين عاجزة

قبول الضرب في المؤسسات التعليمية من قبل المجتمع له جذور عديدة بين ثقافة وعادات وتقاليد

الثقافة المتصالحة مع الضرب كوسيلة تربية وتنشئة بالمدارس في حاجة إلى تعديل مسار (أ ف ب)

حين ذهبت والدة أحمد (10 سنوات) إلى المدرسة لتشكو أداء المعلم، لم يكن اعتراضها على شرحه في الفصل أو تغيبه عن الحضور، بل لأنه "لا يشد بما فيه الكفاية" على الصغير. "الشد" الذي تقصده الأم هو ممارسة قدر من الصرامة مع الصغير من أجل الضبط والربط، وإن لزم الأمر أن يضربه. "في النهاية هو ولد، ويجب أن يجمد ويسترجل".

ورغم أن "بسملة" (تسع سنوات) الطالبة في الصف الرابع الابتدائي ليست ولداً، ولم يكن مطلوباً منها أن "تجمد" أو "تسترجل" بالمقاييس السابق ذكرها، إلا أنها حين أخطأت في كتابة كلمات على السبورة في اليوم الأول بالمدرسة، ضربها المعلم على رأسها بعصا، فأصابها بكسر في الجمجمة ونزف داخلي، مما أدى إلى وفاتها بعد ثمانية أيام.

المدرسة... مكان غير آمن

سنوات وعقود، وربما سيمضي مثلها والمجتمع المصري ما زال في حيرة من أمره حول الضرب كوسيلة تأديبية في المدرسة. ملايين الأسر تحوي أجداداً وجدات وآباء وأمهات تلقوا قدراً من الضرب في المدارس بأنواعها المختلفة.

منهم من يبرر الضرب بكون المعلم في عصور مضت أقرب ما يكون إلى الأب أو الأم، ومن ثم من حقه أن يضرب الصغير أو المراهق بغرض التقويم على اعتبار أن من حق الأهل ضرب الأبناء، ومنهم من يفضل أن لا يتعرض صغاره للضرب، لكن أحياناً يكون شراً لا بد منه لضمان التربية السليمة والتنشئة المنضبطة، لكن منهم أيضاً من يعترض على مبدأ الضرب قلباً وقالباً.

 

"قلبي وجعني من كثرة الضرب"، هو السبب المباشر الذي دفع هيثم (14 سنة) إلى ترك المدرسة قبل نحو ثلاث سنوات. يقول هيثم الذي يعمل في توصيل طلبات السوبرماركت للعمارات المجاورة إن معلم اللغة العربية كان يضربه على قلبه قاصداً أن يوجه له لكمات على صدره.

ما آلم هيثم أكثر من صدره هو كرامته وشعوره بالمهانة، إضافة إلى الألم الجسدي، وهي خلطة سحرية تعد من أبرز أسباب التسرب من الدراسة لمن استطاع إليه سبيلاً. أما الغالبية فتنشأ على ثقافة الضرب باعتبارها مقبولة ومستساغة، بل وأداة شرعية من الأدوات التي يستخدمها القدوة، ألا وهو المعلم.

مصيبة كبرى أن يعتبر ملايين الأطفال والمراهقين حول العالم المدرسة مكاناً غير آمن للدراسة والنمو، بحسبما تشير "يونيسيف". صحيح أن هذا الشعور يعود إلى أسباب عدة منها التعرض للتنمر والعنف من قبل الأقران، لكن ضمن مكوناته كذلك التعرض للعنف من قبل من يفترض أن يكونوا حائط الصد، ومنبع التنشئة والتربية الخالية من العنف.

الضرب... ثقافة وعادة

"لا تجعلوا من العنف درساً يومياً"، عنوان لمبادرة من "يونيسيف" للقضاء على العنف في المدارس ومحيطها، وهو ضمن آلاف العناوين لآلاف المبادرات المفيدة حتماً لتسليط الضوء على العنف كوسيلة للتربية والتعليم والتقويم في المدارس، وإن ظلت الوسيلة محل قبول أو سكوت أو تجاهل لدى كثيرين.

كثيرون يمرون مرور الكرام على عناوين صفحات الحوادث، وأثيرها على مدار عقود. "الضرب بالعصا جزاء طالب ذهب للحمام في مدرسة في بنها (محافظة القليوبية)"، "المعلم ضرب طفلاً بالخرطوم وحين اشتكت الأم ضربها ابن صاحب المدرسة"، "نسي الطالب أدوات الرسم فضربه المعلم وقيد يديه"، "معلم يعاقب طالب ثانوي بضربه وركله في فناء المدرسة"، "معلم يعتدي بالضرب على طالب جلس في غير المكان المخصص له"، وغيرها كثير على مدار العام الدراسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كل عام دراسي يحفل بقصص وحكايات عن ضرب الطلاب والطالبات. صحيح أن حوادث تعدي طلاب وطالبات على المعلمين والمعلمات عرفت طريقها كذلك إلى ساحة الأحداث، لكن يظل العنف الممارس من المعلم هو الأكثر شيوعاً، وبالطبع قبولاً.

قبول الضرب في المدرسة من قبل المجتمع له جذور عديدة، بين ثقافة وعادات وتقاليد لطالما اعتبرت قدراً من ضرب الصغير شراً لا بد منه في التربية والتنشئة، وقبول مجتمعي لا سيما في بيئات وطبقات بعينها لفكرة ضرب الكبير للصغير، ومفاهيم تعتبر قدراً من الشدة التي ربما تصل إلى الضرب في المدرسة وسيلة مضمونة لتقويم الصغار والمراهقين، يدور المجتمع في دوائر الضرب المدرسي المفرغة.

الضرب المدرسي الذي قلما يطلق عليه المصريون "عنفاً"، يجد نفسه في بؤرة الأحداث والضوء في مثل هذه الأيام من كل عام، حيث بداية العام الدراسي. بداية العام الدراسي يفترض أن تعني مناهج جديدة، وأدوات مكتبية جديدة، وربما نظاماً تعليمياً جديداً. لكنها أيضاً تعني قتلى جدداً ضحايا عنف مدرسي، ومصابين جسدياً ونفسياً جدداً يصعب توثيق أعدادهم.

تدرج العقاب

لكن المجلس القومي للطفولة والأمومة أجرى دراسة قبل نحو عامين عن تعرض الطفل المصري للعنف في البيئات التي يفترض أن تكون آمنة بالنسبة إليه، وأبرزها البيت والمدرسة والنادي الرياضي. ووجدت الدراسة أن نسبة الأطفال من سن سنة إلى 14 سنة الذين يتعرضون للعنف بدرجات مختلفة من الأب أو الأم أو المعلم تصل إلى نحو 93 في المئة، ونحو 65 في المئة من المراهقين في سن 13 و14 سنة يتعرضون للضرب بواسطة عصا أو حزام. وخلصت الدراسة إلى وجود قبول مجتمعي للعنف كوسيلة للتربية من قبل الأم والأم والمعلم، وأن العنف يساعد في تكوين شخص قوي وسوي!

تكوين شخص قوي وسوي عبر الضرب في المدرسة فكرة تستمد جانباً غير قليل من منطقها وانتشارها من مفاهيم ترتدي عباءة الدين وتفسيرات تقدم نفسها باعتبارها فقهية، وفتاوى يروجها بعضهم نقلاً عن رجال دين. وتساعد الشبكة العنكبوتية ومنصات التواصل الاجتماعي في سهولة تداول ونشر مثل هذه الفتاوى.

 

على سبيل المثال لا الحصر، توجهت معلمة بسؤال إلى موقع إسلامي على شبكة الإنترنت حول حكم قيامها بضرب الطالبات اللاتي يحدن عن قواعد الدراسة ومتطلباتها. فأفتاها شيوخ الموقع بأن الواجب عليها التدرج في العقاب، إذ تبدأ بتوجيه النصيحة ثم اللوم، فإن لم تتأثر بالكلام فلا مانع من تأديبها بشكل لا يعرضها للخطر أو الجرح أو الكسر، كذلك الذي يستخدمه الزوج لتأديب زوجته لتقوم بحقه أو بحق الله سبحانه وتعالى، وأضاف الشيخ أنها بذلك لا تكون مخطئة بل مأجورة في ذلك.

مثال آخر من موقع إخباري مصري واسع الانتشار نقل عن مفتي مصر السابق علي جمعة رده على حكم ضرب الطلاب في المدارس أورد تأكيداً أن الإسلام هو دين الرحمة، وأن أولى الناس بالرحمة هم الأطفال في السن الصغيرة. لكنه أيضاً أورد مفاهيم "الدين" عن ضرب الصبي "الذي لا يجوز أن يكون بالسوط والعصا ونحوهما، بل يكون باليد فقط تعبيراً عن اللوم وإظهاراً للعتاب، ولا يجوز أن يكون بقصد الانتقام بل التأديب".

وأوضح أنه "يجب عليه أن يتقي المقاتل ويبتعد عن الأماكن الحساسة والأماكن الشريفة التي يشعر الضرب فيها بالمهانة كالوجه والرأس والنحر والفرج والقفا"، منتقداً "خروج الضرب هذه الآونة عن المعاني التربوية، وتحوله إلى وسيلة للعقاب البدني المبرح، بل والانتقام أحياناً وهذا محرم بلا خلاف".

ترك ضرب الأطفال والمراهقين في المدارس لتفسيرات رجال الدين التي غالباً تراوح وتختلف في ما بينها بين التحليل والتحليل المشروط يبقي باب الضرب مفتوحاً. وتبقى القوانين وحدها وجدية تطبيقها القادرة على إغلاق الباب أو فتحه، وذلك لحين غرس ثقافة رفض الضرب كوسيلة للتأديب والتربية.

أين القانون؟

قانوناً تنص لائحة الانضباط المدرسي لوزارة التربية والتعليم على أن المعلم الذي يعتدي بالضرب على الطلاب يتعرض لعقوبتين، الأولى تأديبية إذ يحال إلى المساءلة التأديبية لخروجه عن المقتضى الوظيفي المنوط به. والثانية تتعلق بالجوانب الجنائية، إذ تختلف العقوبة بحسب إصابات الطالب. الضرب الذي لا ينجم عنه إصابات يعد جنحة عقوبتها تراوح بين الحبس 24 ساعة وثلاثة سنوات. أما إذا كان الضرب مبرحاً، فتختلف العقوبة بحسب فداحة الإصابة، وقد تصل إلى السجن عشرة سنوات. أما إذا نجم عن الضرب إصابة الطالبة بعاهة مستديمة، فتصبح العقوبة جنائية، وقد تصل إلى السجن المؤبد.

لكن نسبة إبلاغ الأهل عن المعلمين الذين يضربون أبناءهم وبناتهم في المدرسة صغيرة جداً، وأغلب المبلغين لا يفعلون ذلك إلا في حالات الضرب المبرح الذي يؤدي إلى الموت أو الإعاقة أو الإصابة الكبيرة.

معرفة الأهل والمعلمين بالنصوص القانونية تكاد تكون غائبة تماماً، والأسباب كثيرة، ولعل أهمها غياب الوعي القانوني بشكل عام في المجتمع، وضعف الإيمان بقدرة القانون، أو فعاليته على إعادة الحقوق، لا سيما في المسائل التي يمكن حلها ودياً.

 

"الود" بين المعلم والطالب في المدرسة يتعرض لكثير من الهزات، ومنها ما يدفع ببعض المعلمين إلى ممارسة شكل من أشكال العنف النفسي أو الجسدي، الذي قد يصل إلى حد الضرب. في زمن الدروس الخصوصية ومراكزها واعتبارها المصدر الرئيس للدخل للجانب الأكبر من المعلمين على مدار نحو أربعة عقود، تلجأ قلة من المعلمين إلى الضغط على الطلاب كوسيلة لبناء أكبر قاعدة ممكنة من "زبائن" الدرس الخصوصي.

ندرة "ضرب أفضى إلى موت" في الفصل المدرسي ليست حجة للتقليل من مجرد احتمال حدوثها. والدة "بسملة" التي تلقت ضربة قاتلة على رأسها لخطئها في الإملاء في الفصل قالت "كنت أرسل ابنتي إلى المدرسة لتتعلم، لا لتموت". والدها قال إنه سيتوقف عن إرسال بقية أبنائه إلى المدرسة خوفاً عليهم من أن يلقوا المصير نفسه. التعويض الذي ستتلقاه أسرة "بسملة" من وزارة التربية والتعليم، وقرار الوزارة إطلاق اسمها على إحدى القاعات في مدرستها إجراءات مسكنة، لكن تبقى صفرية أمام أم وأب مكلومين وثقافة ضرب متجذرة ومتمكنة.

حتى وزير التربية والتعليم رضا حجازي، الذي يقف أمام مجلس النواب (البرلمان) المصري للإجابة عن 39 طلب إحاطة وسبعة أسئلة حول مشكلات تراوح بين الضرب وكثافة الفصول والدروس الخصوصية وجودة المباني، لا سيما مع استمرار ظاهرة انهيار الأسوار والدرج في المدارس ومصروفات المدارس الخاصة وغيرها لن يتمكن من علاج ظاهرة العنف كوسيلة تأديبية في المدارس عبر القرارات والتعويضات والتأكيدات على إجراءات ضمان سير العملية التعليمية من دون تجاوزات.

"الدرس الخصوصي" كلمة السر

تجاوز الضرب في المدارس هذه المرحلة لأنه منظومة وثقافة، والمنظومة لا يتم تفتيتها بقرار، والثقافة لا تتبدد بإجراء. وإضافة إلى البعد الثقافي المتقبل للضرب والظاهرة التي تحولت إلى منظومة، يقول الكاتب الصحافي وائل لطفي إن "هذه الظاهرة الإجرامية (الضرب في المدارس) لها جذور عدة وأسباب كثيرة أخطرها السبب الاقتصادي، إذ يلجأ المعلمون إلى إجبار الطلاب على الدروس الخصوصية، وعقاب من لا يدفع ثمن الدرس الخصوصي بالضرب. ووصل الأمر إلى درجة أن الطالب بات يدرك أن ثمن الدرس الخصوصي هو طريقه إلى الأمان في المدرسة، وتجنب الضرب والإهانة والتنمر من المعلم، فضلاً عن الحصول على درجات أعمال السنة التي يمنح القانون سلطتها المطلقة للمعلم".

ويضيف لطفي أن الضرب في المدارس موجود منذ عقود، مستنداً إلى العامل الثقافي المرتبط بفهم خاطئ للدين، لكن تفاقمه مرتبط بتدهور نظام التعليم في مصر.

ويرى لطفي أن "وزارة التربية والتعليم لا يجب أن تكون طرفاً في مواجهة حوادث الضرب في المدارس، بمعنى أن الضرب جريمة جنائية يجب تقديم بلاغ للنيابة العامة في شأنها، ليس فقط ضد المعلم الذي ضرب، لكن ضد ناظر المدرسة ومدير الإدارة الذي سمح بوجود معلم منحرف سلوكياً ونفسياً. وفي السياق الجنائي نفسه للضرب، فإن مواجهة الضرب في المدارس لا تتم عبر رجال الدين أو المؤسسات الدينية". وتبقى الثقافة المتصالحة مع الضرب كوسيلة تربية وتنشئة وتقويم في حاجة إلى تعديل مسار.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات