Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روليت بوتين

يضحي بأنصاره الأساسيين في سباقه ضد الهزيمة

قافلة قوات روسية تتحرك في منطقة زابورويجيا، أوكرانيا، في يوليو (تموز) 2022 (رويترز)

لطالما لجأ الروس إلى الفكاهة القاتمة من أجل تحمل الديكتاتورية، أقله منذ أيام الاتحاد السوفياتي. لذلك، ربما ليس من المستغرب أن التعبئة الجزئية التي أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حرفت بالعامية لتصبح "موغيليزاتسيا" mogilizatsia (دفن، باللغة الروسية)، وذلك بالتلاعب اللفظي على كلمة "موبيليزاتسيا" mobilizatsia  (تعبئة) و"موغيلا" mogila (قبر). والأكثر من ذلك، عملياً، اتضاح أن هذا "الانتقال إلى المقبرة" بعيد كل البعد من أن يكون جزئياً. وقد أكد مع وزير دفاعه أن التجنيد الإلزامي سيقتصر على 300 ألف شخص سيكونون في المقام الأول من العسكريين الاحتياطيين ممن خدموا سابقاً في الجيش ومناطق صراعات. وعلى رغم ذلك، فقد شهد الروس بالفعل التجنيد الإجباري للرجال من كل الأعمار، في أنحاء البلاد كافة. وتبين أن التعبئة تكاد تكون عامة [تشمل جميع البالغين من دون استثناء تقريباً].

في هذا السياق، يمكن حتى لأكثر مؤيدي بوتين والنظام ولاء أن يروا أن الكرملين يهدف إلى تجنيد عدد أكبر بكثير [من 300 ألف]، من المرجح أن يزيد على مليون شخص، على رغم أن ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، نفى ذلك. ومن شأن عدد كهذا أن يؤدي فعلياً إلى مضاعفة حجم الجيش العامل حالياً، مما يعني أن العدد الإجمالي لمن يرتدون الزي العسكري سوف يصل إلى مليوني شخص. (على رغم أن هذا الزي، بات صعب المنال، مثله مثل الدواء، ويضطر من يساقون إلى الخدمة لشراء لباسهم العسكري ومعداتهم مع أدوات الإسعافات الأولية). يعتمد كثيرون بطبيعة الحال على الحماسة الإدارية للسلطات التي تدير مكاتب التجنيد في المناطق. وفي مناطق عدة، تستهدف تلك المكاتب المواطنين الذكور بصرف النظر عن العمر أو الخبرة أو الرتبة العسكرية.

ربما كان الروس بشكل كبير مغلوباً على أمرهم ولا يستطيعون تجنب اقتيادهم إلى الخدمة العسكرية بهذه الأعداد الكبيرة، خصوصاً في الوقت الحالي الذي أوصدت فيه أوروبا أبوابها في وجههم ولم يبق لهم سوى خيارات محدودة ما عدا محاولة الفرار إلى بلدان لا تطلب من الروس إبراز تأشيرة دخول لزيارتها. بيد أن هذا وضع سيئ بالنسبة إلى بوتين، الذي راهن بكل شيء على هذه الحرب. لا يمكنه أن يربح، لكنه لا يستطيع أن يخسر أيضاً، بالتالي، يعتمد بوتين على الجنود الذين يمكن أن يضحي بهم. ويبدو أنه نسي أن المصدر الحقيقي للخطر على نظامه ليس المعارضة السياسية التي زج بمعظمها في السجون أو كمت أفواهها، وليس ممثلي المجتمع المدني الذين أغلقت منظماتهم وأسكتوا بشكل ممنهج، بل يتمثل ذلك المصدر في الروس العاديين ممن شكلوا منذ وقت طويل، الأساس لحكمه. وطالما أنهم يتركون متمتعين بالاستقرار الاقتصادي وتمتنع السلطات عن إشراكهم مباشرة في "العملية الخاصة" التي تنهض بها الحكومة، يكون من الممكن الاعتماد عليهم في مباركة تلك العملية أو في الأقل، عدم الإتيان بشيء في معارضتها. إلا أن هذا الوضع قد تغير حالياً. وهناك فعلاً دلائل تفيد بأن الدعم الأساسي الذي يتلقاه بوتين آخذ في التراجع. ويظهر استطلاع للرأي أجراه "مركز ليفادا المستقل" في أواخر سبتمبر (أيلول) 2022، بعد بدء التعبئة، أن نسبة القبول بالرئيس [بوتين] هبطت بواقع ست نقاط، وذلك من 83 في المئة إلى 77 في المئة، وانخفض مستوى الثقة التي يحظى بها بمقدار أربع نقاط، أي من 44 في المئة إلى 40 في المئة. ربما تبدو هذه التحولات صغيرة، غير أن الأرقام كانت تقريباً على حالها من دون تغيير منذ أبريل (نيسان). وقد بدأ ثباتها حالياً في التآكل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستطراداً، تؤشر التعبئة إلى اليأس الذي يشعر به بوتين. وإن احتمال تعرضه إلى الهزيمة مذل إلى درجة أنه مصمم على مواصلة القتال مهما كلف الثمن، لأنه لم يحقق بعد الأهداف الغامضة التي وضعها نصب عينيه في فبراير (شباط) 2022. ونظراً إلى أنه حول نظامه منذ فترة طويلة إلى سلطنة، فليس بإمكان أي شيء أو أي شخص أن يوقفه. وهكذا، [يعجز عن إيقافه] مستشاروه وقادة الدول التي يعتبرها حليفة له على غرار ناريندار مودي رئيس وزراء الهند الذي نأى بنفسه علناً عن روسيا خلال اجتماع له مع بوتين، وذلك بإشارته إلى أن الحاضر "ليس وقت الحرب"، وطيب رجب أردوغان الرئيس التركي والحليف الانتهازي لبوتين الذي تولى دور صانع السلام ويبدو أنه يحاول مناشدة ما تبقى لديه من العقل والمنطق. ونتيجة للخوف البالغ الذي انتاب قاسم - جمرات توكايف رئيس كازاخستان، فقد نأى بنفسه بعناية عن الكرملين وسعى إلى نسج علاقات أوثق مع أوروبا. ويعامل قادة دول الاتحاد السوفياتي السابق بوتين كصاحب شخصية خطيرة يتخيل نفسه سيد إمبراطورية لا وجود لها. وإلى جانب هؤلاء، هنالك الروس ممن ينتبهون جيداً إلى ما يجري ويستطيعون فهمه. ويستطيع هؤلاء أن يروا أن رجلاً بمفرده قاد روسيا إلى حافة كارثة ديموغرافية، وضع العالم أيضاً على شفير حرب نووية.

كل من يقدر على حمل السلاح

اتضح الإحباط والغضب اللذين يشعر بهما [بوتين] إزاء خسارة الحرب وتصميمه على التصعيد، في الأيام الأولى للهجوم الأوكراني المعاكس. كان رده في البداية هو قصف البنية التحتية الحيوية كمحطات الطاقة الكهربائية ومحطات المياه، بالصواريخ. غير أن هذه التكتيكات جاءت بمثابة اعتراف صريح بالضعف، وليس عرضاً للعضلات. وبتدمير البنية التحتية الحيوية في أراض يعتبرها ملكاً له، كشف بوتين عن أن ليس لروسيا أي أمل بالنجاح في محاولتها لإخضاع هذه الأراضي واستيعابها.

ووجد بوتين الآن طريقة مروعة للخروج من الزاوية التي حشر نفسه فيها، وهي التعبئة الجزئية. وقرر الطاغية أن أي شخص يمكنه على الأقل حمل السلاح، يجب أن ينتقل من الإقرار الصامت إلى المساهمة النشطة في "العملية الخاصة" التي أطلقها. يتعين على الناس أن يشاركوا في تحمل مسؤولية الحرب معه ليس بمجرد الكلام بل أيضاً بأجسادهم. إلا أن هذا أيضاً دليل على الضعف وليس القوة، إذ إنه اعتراف بأن الموارد البشرية  التي رصدت للحرب غير كافية.

ربما يسعى بوتين إلى تجنيد ما لا يقل عن مليون جندي إضافي

إن انقلابه على مواطنيه يشكل خطراً عليه. على نحو حاسم، يتلقى نظامه الدعم من قبل تلك الفئات التي تعتمد بشكل كبير على الدولة، أي على الأشخاص ذاتهم الذين يساقون إلى حضور تجمعات الكرملين، المسماة بـ"بوتينغز" putings، وهي مزاوجة لكلمتي Putin و meeting (اجتماع)، التي تعقد من أجل دعم الزعيم، والحرب وعملية ضم الأراضي المحتلة. وكذلك سيجبر أولئك الذين لا يستطيع بوتين أن يجندهم بيد أنهم يعتمدون على الدولة بشكل مماثل [للفئة السابقة]، على مباركة ما يفعله مع الدفاع عنه بشكل أقوى وأكثر صراحة. لقد شهد الكرملين قبلاً ماذا يحصل حينما يتخذ إجراءات عملية لا تلقى استحساناً في أوساط الجماهير. فحينما رفع الكرملين سن التقاعد في عام 2018، هبطت نسبة تأييد بوتين بـ15 في المئة أو أكثر. كذلك تلقت شعبيته ضربة أخرى حينما فرض النظام قيود "كوفيد- 19" في عام 2020. وفي تلك المناسبات، كانت حالات انخفاض شعبيته موقتة ولم تلبث نسبة القبول به أن عادت إلى مستواها السابق. أما في حال التعبئة، فليس من الواضح ما الذي سيؤدي إليه مزاج الروس المتشائم. ولا يستبعد أن يشكل ذلك بداية التراجع الكبير في دعم النظام، فقد رأى العالم كم من الروس كانوا يقولون كلمتهم ببوتين من خلال سلوكهم، فيما هم يهربون منه كي ينجو بجلودهم فعلياً. إلا أن بوتين لا يزال يحظى بولاء عديد من عتاة أنصاره، ومن المحتمل ألا يحصل تراجع حاد في الدعم الشعبي للنظام. وأياً كان الحال، يبدو من المؤكد أن التذمر والكآبة سيتراكمان على نطاق واسع للغاية.

وبدلاً من الديمقراطيين والليبراليين في المدن الروسية الكبيرة، فإن الروس العاديين هم من يرون أن البحث المحموم بلا رحمة عن مجندين عسكريين يمثل انتهاكاً لحقوقهم. والأهم من ذلك، إن هذا انتهاك للاتفاق الأخلاقي غير المكتوب الذي عقدوه منذ وقت طويل مع نظام بوتين، وينص على أن المواطنين الروس العاديين لن يتدخلوا في أعمال اللصوصية التي ينفذها الكرملين، ولا في مغامراته العسكرية، طالما أنه يبقى بعيداً من بيوتهم وحياتهم الخاصة، ويسمح لهم أن يكسبوا لقمة العيش بأنفسهم. ومن المؤكد أن العقد غير المكتوب بينهم وبين الكرملين لا يشمل تنفيذ خدمة عسكرية لتحقيق أهداف غير واضحة، مع ما تسببه هذه الخدمة من إقلاع قسري عن حال اللامبالاة المريحة. وبرزت نكتة جديدة من نمط الفكاهة السوداء للغاية حول هذا الموضوع، وتقول إن المعركة بين البراد (حاجات المستهلك) والتلفزيون (دعاية الحكومة) انتهت بانتصار التلفزيون. لكن، سيتعين الآن على التلفزيون أن يخوض معركة جديدة ضد براد مختلف تماماً، أي ذلك الذي تخزن الجثامين فيه.

إن لدى الروس العاديين أسباباً كثيرة تجعلهم ينظرون إلى ما يفعله بوتين، باعتباره ظلماً. وقد شعر عديد منهم بذلك أثناء الجدال الذي دار بشأن سن التقاعد وقيود "كوفيد- 19". وستؤدي التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للعسكرة غير المسبوقة إلى تعزيز حدة هذا الإحساس بالظلم حالياً. إن روسيا معزولة، وفرص نجاح الاقتصاد في تحمل هذه الضغوط محدودة. وهناك حقيقة مهمة ووازنة قوامها أن أولئك الذين يساقون إلى الخدمة الإلزامية هم في غالبيتهم من عائلات فقيرة، ومجموعات إثنية معرضة للتمييز ضمن الجمهوريات الروسية، وأشخاص على هامش المجتمع الروسي. والواقع أن المرء لن يجد في الخنادق أعضاء النخب السياسية الذين شنوا الحرب ودعموها. وتتجلى المصلحة الذاتية الديكتاتورية أيضاً بوضوح في آليات الإعفاء من الخدمة الإلزامية لأولئك الذين تعتبرهم السلطات جديرين بالاستثناء من التجنيد. إذ إنها تستدعي إلى الخدمة أشخاصاً من ذوي المهن التي يحتاج إليها الاقتصاد والمجتمع مثل الطيارين وأصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي توفر واردات موازية حيوية للبضائع الاستهلاكية، والمعلمين أيضاً. في المقابل، إنها لا تستدعي مثلاً مروجي الدعاية الاحترافيين، ممن استثنتهم وزارة الاتصالات من السوق إلى الخدمة. يفتقر هذا التوجه إلى المنطق والإنصاف. والمفارقة أن المقربين من النظام أكثر من غيرهم هم الذين يفوزون في سباق التهرب من الخدمة الإلزامية وتفادي القتال في حرب النظام.

الشباب بوصفهم السماد المخصب

استكمالاً، إن خيانة بوتين لشباب روسيا ربما تكون أهم حتى من خيانته للجماهير. إن الشباب ممن تتوفر لديهم السبل اللازمة للهرب وقد حصلوا على قسط من التعليم، يعمدون ببساطة إلى الهرب. ويرى هؤلاء بلداً لا مستقبل له ويعلمون أنهم إذا مكثوا فيه فلن يكون لهم مستقبل أيضاً. والبقاء في روسيا وتلقي استدعاء إلى الخدمة الاجبارية في جيش يشن حرباً "من أجل أهداف وهمية"، وفق تعبير المغنية المخضرمة آلا بوغاتشيفا، أشهر نجوم غناء البوب في البلاد، يعني تضحية المرء بآماله وربما حياته أيضاً. ولقد صار الكلام الخطابي الذي يمجد موت المرء في سبيل وطنه شائعاً في أوساط مؤيدي بوتين المتعصبين، لاسيما أن البطريرك كيريل من الكنيسة الروسية الأرثوذكسية أكد أن من يموت أثناء تأدية واجبه العسكري فإن "تضحيته هذه تغسل كل الخطايا التي ارتكبها." إلا أن هذا النوع من الكلام غريب بالكامل عن المجتمع الحديث. [وثمة حقيقة] آخذة في الاتضاح حالياً [للجميع] وليس لجيل الشباب وحده، مفادها بأن دولة بوتين ليست قادرة على فرض حكمها إلا عن طريق العنف.

وبالنسبة إلى أولئك الذين لا يستطيعون الفرار أو ممن لديهم أقرباء مؤهلون للسوق إلى الخدمة الإلزامية، يتمثل أحد ردود الفعل في التظاهر، على رغم أنه محفوف بمخاطر جسيمة. وهذا ما كان عليه الوضع في داغستان، الجمهورية التي يفترض أن 99 في المئة من البالغين فيها صوتوا لمصلحة بوتين وحزبه. وقد نزل المتظاهرون، وغالبيتهم من النساء، إلى الشوراع حالياً وقد رفعوا لافتات كتب عليها "أولادنا ليسوا سماداً"! في المقابل، إن مقارنة هذه الاحتجاجات بمسيرات المعارضة في موسكو غير ممكنة، فمن يتظاهر [في داغستان ومثيلاتها] ليس المعارضة، بل أبناء طبقات المجتمع التي لا تتعاطى السياسة نهائياً، وهم يفعلون ذلك في جمهوريات وطنية معينة، حيث يؤمن الناس ربما بمفاهيم خاصة للكرامة الإنسانية. لكن تظهر مؤشرات أخرى بشكل واضح مدى الإحباط الذي يشعر به الروس. ففي غضون ساعات من إعلان بوتين [التعبئة]، ظهرت أرتال طويلة من السيارات التي تحاول الوصول إلى الحدود مع كازاخستان أو جورجيا. وقد نفدت على الفور الأمكنة على الطائرات المسافرة إلى وجهات أجنبية شتى، خصوصاً مدن آسيا الوسطى، وإسطنبول، وتل أبيب، فيما ارتفعت أسعار تذاكر السفر إلى مستويات عالية للغاية بصورة فورية. وفي أعقاب الإعلان بثلاثة أيام، سجل "جهاز الأمن الفيدرالي الروسي" فرار ما يزيد على 260 ألف شخص عبر مختلف الحدود. وأضرمت النار بمكاتب التجنيد في أنحاء البلاد كافة. وفي إحدى الحالات، سقط موظف التجنيد برصاص مجند، فيما حاول مجند في حالة أخرى الانتحار مفضلاً التضحية بنفسه على اقتياده من أجل قتل آخرين.

يعرف الشباب الروس أنه إذا مكثوا، فلن يكون لهم مستقبل

تسارعت وتيرة الزمن في روسيا بوتين، لكن في الاتجاه المعاكس، ماضية بسرعة بفائقة من القرن الحالي إلى أكثر فترات القرن الماضي حلكة، تلك التي تفوح منها رائحة العرق والطين، وتسودها مناخات اليأس، يأس معسكرات الغولاغ [السوفياتية للاعتقال والعمل القسري] ويأس الحرب. ويجري حالياً سوق أجيال عدة من الروس، بمن فيهم شباب صغار في مقتبل العمر، على طريق العودة إلى تلك الفترات الحالكة. وإذا كان سبيل روسيا إلى العظمة يمر عبر الخنادق ويدفع الشباب حياتهم ثمناً لها، فإن أعداداً متزايدة منهم سيسرها أن تتخلى عن تلك العظمة.

من جهة أخرى، يوجه بوتين ضربة قوية إلى التركيبة السكانية التي كانت روسيا تعاني فعلياً صعوبات تتعلق بها. وبينما تخسر روسيا مزيداً من شبابها، فإن السكان المتقدمين في العمر ممن صاروا خاملين سيزدادون شيخوخة وتضاؤلاً، مما يوفر لبوتين الدعم في الانتخابات من دون أن يمنح نظامه أي قدر من الشرعية. وفعلياً، لم يعد رئيساً لجميع الروس. بالتالي فإن هؤلاء الذين لا يدعمونه يعتبرون "خونة للوطن"، و"طابوراً خامساً"، و"عملاء أجانب". وسوف يصبح سكان روسيا، أو من تبقى منهم، أكثر اعتماداً على الدولة، الأمر الذي سيؤدي إلى تسجيل الإقبال على المشاركة في مسيرات التأييد لبوتين أرقاماً قياسية. في المقابل، لن يقدم هذا التأييد المساعدة للكرملين في الوصول إلى فهم حقيقي لما يجري في البلاد، وما يتوجب فعله لإنقاذها.

 

خوف أكبر من بوتين

باتت التعبئة التي أعلنها بوتين وما سببته من فوضى، تعصف بالبلاد قبل أشهر من بدء حملة الانتخابات الرئاسية للعام 2024. والواقع أن الانتخابات بدأت فعلاً، على أحد المستويات، إذ إن الرجال من شتى الفئات العمرية يصوتون من خلال هربهم من البلاد. ومع ذلك، فإن الغالبية تستمر في قبول ما تفعله الحكومة، بينما يلقي كثيرون اللوم في التصعيد على الرئيس الأميركي جو بايدن، وأوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي معتبرين أنه لم يكن هناك خيار يذكر لبوتين [سوى الحرب].

وباعتبار أن الرأي العام في روسيا جرت تهيئته على مدى عقود للبقاء خاملاً، فإنه يميل إلى التغير بشكل بطيء، وفق ما يظهر الهبوط بنسب بسيطة في مستوى تأييد الرئيس. ولا شك في أن غالبية السكان، أي 50 في المئة الذين يبقون مؤيدين بحزم للحرب، سوف يدعمون كل ما يفعله النظام، ربما بما في ذلك تنفيذ ضربات نووية. إنها شريحة السكان الذين يبالغون في طاعة النظام. لكن بالنسبة إلى [شريحة] أخرى تضم 30 في المئة من السكان الذين وجدوا حتى الآن ببساطة أنه من الأسهل دعم النظام بدلاً من معارضته، فقد تؤدي أعمال بوتين إلى عواقب بعيدة المدى أكثر من ذلك بكثير. أما بالنسبة إلى الروس الذين يملؤهم الشك وعدم الرضا، فمن الواضح سلفاً أن التعبئة ليست جزئية، وإذا بدأ هذا الانطباع بالانتشار على نطاق أوسع فإن الموقف العام للمجتمع الروسي برمته يمكن أن يبدأ في التبدل. وفي نتيجة أخرى خلص إليها استطلاع الراي الجديد الذي أجراه "مركز ليفادا"، فإن نسبة الروس الذين يعتقدون أن البلاد تمضي في الاتجاه الصحيح تناقصت من 67 في المئة في أغسطس (آب) إلى 60 في المئة في الشهر التالي.

وفي الوقت الراهن، قرر بوتين تثبيت خسائره بشكل نهائي، معلناً أنها عبارة عن استحواذ [للأراضي] وإنجازات. ويبدو أن هذا المنطق كان وراء التسرع المفرط في إجراء عمليات الاستفتاء في شرق أوكرانيا، إذ يجب إعلان تحقيق انتصار من نوع ما. وتمثل عمليات الاستفتاء رداً آخر متسرعاً ومريراً من جانب بوتين، على غرار الحال في كل القرارت التي اتخذها في السنوات الأخيرة. في المقابل، يبدو أن الرد [هذه المرة] يستند إلى أساس منطقي أضعف وعواطف جياشة أقوى، بالمقارنة مع أي وقت مضى. ولأنه لم يعد هناك من يشعر بأي قدر من الخجل ضمن السلطات الروسية، فإن النية كانت واضحة على الفور، وتجسدت في اعتبار الأراضي المحتلة روسية في أعقاب الاستفتاءات التي جرت من دون أساس قانوني ولا يمكن التحقق من نتائجها. وفي تلك الحال [بعد الضم والاستفتاء]، فإن أي هجوم أوكراني مضاد على هذه الأراضي يمكن أن يعتبر بمثابة هجوم على روسيا نفسها.

ويمكن أن يؤدي هذا إلى جملة من العواقب، بما في ذلك استعمال الأسلحة النووية. وقد صار الحديث عن استخدام قدرة روسيا النووية عادياً وشائعاً للغاية، حتى أنه يكاد يصبح الأمر المألوف الجديد في خطاب الكرملين والسرديات التي تقدم في عروضه الدعائية. إن تهديدات بوتين الخبيثة باستخدام "كل الأدوات الموجودة تحت تصرفنا"، التي تهدف وفق ما يبدو إلى رفع درجة حماس السكان وتحفيزهم للمضي إلى المعركة، قد تؤدي في مرحلة ما إلى إحداث تأثير معاكس، فهل من الحكمة الوثوق بزعيم يجر بلاده إلى شتاء نووي؟ قد يبدأ الروس بالخوف من حرب نووية أكثر مما يخافون بوتين نفسه. وإن قلة من الناس يريدون أن يعيشوا تحت وطأة أزمة صواريخ كوبية لا نهاية لها. [إشارة إلى أزمة وجود صواريخ نووية سوفياتية في كوبا سنة 1962 وما رافقها من أزمة مع أميركا، انتهت بسحب تلك الصواريخ، في مقابل سحب صواريخ مماثلة من تركيا المحاذية لحدود الاتحاد السوفياتي آنذاك].

من وراء القبر

يقوم بوتين بمجازفة كبيرة. إن الاقتصاد ليس بخير، ولن يتحسن بالتأكيد من طريق إرسال أعداد إضافية ضخمة من الناس إلى الذبح. وقد أصبحت المشكلات المتعلقة بالموازنة الفيدرالية حالياً واضحة، وستنخفض الإيرادات، فمن يتبقى لفرض الضرائب عليه؟ وسيجبر الكرملين على صرف مزيد من ثرواته على الحرب. وسيؤدي هذا إلى تقليص موارده التي يشتري بها ولاء السكان. وفي ظروف من هذا النوع، أية رسالة سيوجهها الديكتاتور في سياق سعيه إلى إطالة أمد حكمه فترة أخرى؟

وبعدما اختار أن يوسع نطاق الحرب، زاد بوتين من اتساع ساحة الهزيمة. فقد يؤدي التجنيد الإجباري حاضراً إلى جعل هزيمة الأوهام التي أدامت "العملية الخاصة" حتى الآن في البلاد، [مرشحة] بشكل متزايد لتكمل الهزيمة العقلية والمعنوية لروسيا في أوكرانيا. لقد ربحت أوكرانيا سلفاً، بمعنى من المعاني باعتبارها كسبت هوية وطنية وباتت متحدة. في المقابل، ستزيد انتصارات أوكرانية مهما كانت محدودة في الأسابيع المقبلة من استياء الرئيس، الأمر الذي يرجح أن الكرملين سيرد عليها بطرق غير متكافئة، من دون خجل أو لباقة. هناك في الوقت الراهن دلائل قليلة على إمكانية إجراء محادثات سلام (خصوصاً بعدما نظمت روسيا استفتاءات في الشرق) أو على وجود طريقة ما لإنهاء الحرب بإدعاء أحد الطرفين أنه انتصر. وقد يستمر هذا الصراع المروع في أوروبا حتى حينما تنضب موارد بوتين، البشرية والنفسية.

في المقابل، من المستطاع التوصل إلى نتيجة أفضل، بيد أن بوتين جعل هذه النتيجة أصعب منالاً من خلال توريطه البلاد كلها في الحرب. وتتمثل هذه النتيجة الأفضل في بدء روسيا بالانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية. إن أمكن تحقيق ذلك بطريقة ما فإن النصر سيكون مشتركاً، بالنسبة إلى أوكرانيا وأوروبا والغرب والعالم بأسره، بما في ذلك روسيا. واستطراداً، من شأن ذلك أيضاً أن يعني وجود روسيا خالية من بوتين والبوتينية.

 

* أندريه كوليسنيكوف وهو زميل أول في "مركز كارنيغي للسلام العالمي"

فورين أفيرز

سبتمبر (أيلول) / أكتوبر (تشرين الأول) 2022

المزيد من تحلیل