Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ماسكاراد" الروسي ليرمنتوف على خطى "عطيل" شكسبير الغيور

الرقابة القيصرية تمنعها لأنها تناولت حادثة حقيقية جرت في أوساط اجتماعية عليا

ميخائيل ليرمنتوف (ويكيبيديا)

كان الكاتب والشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف (1814–1841) بالكاد تجاوز الـ26 من عمره حين رحل عن عالمنا خلال مبارزة قاتلة شبيهة بتلك التي كانت وضعت حداً لحياة سلفه ومثله الأعلى الشاعر الروسي الأكبر ألكسندر بوشكين قبله بأربع سنوات، ولم تكن تزيد سنه هو الآخر على 37 سنة، غير أن ذلك لم يكن التشابه الوحيد بين الشاعرين اللذين يرى كثر من النقاد والمؤرخين تتابعاً مدهشاً بينهما، ولكن فيما كان بوشكين يعد المؤسس الحقيقي للأدب الروسي وشاعر الروس القومي، لم يكن ليرمنتوف معروفاً للجمهور العريض إلا بروايته "بطل من هذا الزمان" الوحيدة في أي حال، والتي كان قد أصدرها قبل رحيله بعام فحققت نجاحاً كبيراً من الواضح أن الشاعر والكاتب الشاب لم ينعم به طويلاً حتى وإن كان قد أتيح له من الوقت ما مكنه من أن يقول عن روايته في ما يشبه البيان الفني المتمرد، "أيها القراء الأعزاء، إن بطلاً من هذا الزمان هو صورة حقاً، لكنه ليس صورة رجل واحد. إنه صورة تضم رذائل جيلنا كله، وقد بلغت كمال التفتح. قد تقولون لي مرة أخرى، ما من إنسان يمكن أن يبلغ هذا المبلغ من الفساد. وجوابي، ترى لماذا تصدقون وجود جميع فجرة المآسي والروايات الرومانسية، ثم لا تصدقون أن شخصاً مثل بتشورين يمكن أن يكون مستمداً من الواقع؟".

تعرية عيوب النظام

إذاً، كتب ليرمنتوف هذا النص وهو في الـ25 كجزء من مقدمة "بطل من هذا الزمان". وسيقول عنه كبار النقاد الروس دائماً إنه "عندما عرى في روايته هذه عيوب النظام القائم آنذاك، ساعد على تطوير الفكر الاجتماعي التقدمي في زمنه". ونعرف طبعاً أن هذا الفكر لعب في التاريخ الروسي دوراً فائق الأهمية، إذ كان الأداة التي حملت دائماً الوعي. وفي هذا يوضع ليرمنتوف عادة إلى جانب بوشكين ونيكولاي غوغول، ثم تولستوي ودوستويفسكي وتورغنيف باعتبارهم القوة الإبداعية الخارقة التي عرفت كيف تنقل روسيا من أدغال العصور الوسطى إلى زمن الحداثة. وهذا على رغم أن ليرمنتوف لم يعش زمناً يكفيه لقول كل ما عنده. وهو كان شاعراً قبل أن يكتب النثر. مع ذلك، حتى ولئن كانت "بطل من هذا الزمان" قد أطلقت شهرة ليرمنتوف فإنها غطت في الحقيقة على عدد لا بأس به من أعمال إبداعية لهذا الكاتب والشاعر. وهي أعمال اتسمت بقوة تعبيرية وتنوعية مدهشة، إذ تراوحت بين المسرحيات والأشعار والنصوص السياسية التي، على رغم صغر سن كاتبها، كانت دائماً ما تثير غضب السلطات وتعنت الرقابة ضده، ولا سيما منها تلك المسرحية التي ستعد لاحقاً الأشهر بين أعماله وكتبها وهو وفي الـ25 مباشرة قبل إصداره "بطل من هذا الزمان"، وبعد نحو نصف دزينة من مسرحيات أخرى كان معظمها سرعان ما سيجد طريقه إلى الصالات المسرحية بدءاً من "الإسبان" (1830)، مروراً بـ"الرجال والأهواء" (1830 أيضاً) التي عبر فيها خير تعبير عن احتقاره مجتمع سانت بطرسبورغ البورجوازي، وسيعود إلى كتابتها مجدداً عام 1831 تحت عنوان "الرجل الغريب"، وصولاً إلى "الشقيقان" (1834) التي تتحدث عن أخوين يقعان في هوى فتاة واحدة. وتبقى على أي حال مسرحيته الأخيرة "ماسكاراد" أشهر أعماله أولاً لتشابه فكرتها الأساسية مع "عطيل" شكسبير ما عزز دعوته إلى أوربة الحياة الثقافية الروسية عبر استلهام الأعمال المسرحية والروائية الكبرى، ولكن، ثانياً، بسبب استشراس الرقابة ضدها ما اضطره إلى إعادة كتابتها مرات عديدة حتى من دون أن يتاح لها أن تقدم في حياته.

أقنعة حفل راقص

وتدور أحداث المسرحية من حول فتى من أبناء الطبقة العليا في سانت بطرسبورغ يحمل قدراً كبيراً من الأفكار التحررية والمشاكسة، لكن هذا لا يمنعه من الوقوع فريسة للمواثيق الاجتماعية وتخرصات المجتمع المخملي، وصولاً في نهاية الأمر إلى الوقوع بالتالي في شرك تلك الحيرة القاتلة التي تدفعه إلى قتل زوجته على رغم هيامه بها. وتبدأ المسرحية في فصلها الأول في صالة قمار يلعب فيها الأمير زفيزديك ويخسر لسوء حظ واتاه، فيقوم الشاب آربينين بتولي اللعب محققاً من الأرباح ما يمكنه من أن يعوض على الأمير خسائره. ومن ثم ينطلق الاثنان إلى حفل راقص مقنع لم ينتبها إلى وجود الحسناء نينا زوجة آربينين بين الراقصات فيه بسبب قناعها. وخلال الرقص يقوم الأمير بمراقصة ومغازلة بارونة من علية القوم، لا يتعرف عليها، لكنها تلفت نظره ويبدأ بملاحقتها وينتهي بها الأمر إلى أن تقدم له سواراً "نسيت" أنه كان يخص نينا. ولاحقاً حين يرى آربينين سوار زوجته بين يدي الأمير يتعرف على السوار ليستنتج أن المرأة التي كانت تراقص صديقه وهام هذا بها ليست سوى زوجته. وفي الفصل الثاني، يلتقي الأمير بنينا ملمحاً إلى السوار لكن هذه لا تفهم ما الحكاية في وقت كانت فيه البارونة المتيمة أصلاً بالأمير قد نشرت في المجتمع إشاعات عن وجود علاقة بين الأمير ونينا. وهنا، يتأكد آربينين من ظنونه ويقرر قتل نينا، لكنه لكي يجعل انتقامه أشد يقرر معاقبتها والأمير معاً.

سم قاتل وموت بطيء

هكذا نجده في الفصل الثالث وقد أعد سماً قاتلاً كان يحتفظ به مازجاً إياه بطبق مثلجات تتناوله زوجته في حفل راقص. وبعد أن تتناول الزوجة السم نجدها مع زوجها في غرفة نومهما، حيث يصارحها بما فعل معلناً لها حبه المجنون لها مؤكداً أنه قتلها بالسم الذي سيقضي عليها بعد قليل بسبب غيرته الشديدة عليها ولأنه لا يريدها أن تكون ملكاً لغيره. وإذ تصرخ هي مدافعة عن براءتها لا يريد هو أن يصدقها تاركاً إياها تلفظ أنفاسها الأخيرة والحزن يكاد يقضي عليه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وينقلنا موت نينا إلى الفصل الرابع والأخير، حيث نجدنا مع الأمير وشخص يسمي نفسه "المجهول" يقصدان آربينين وهما يتطلعان إلى الانتقام لنينا ناقلين إلى الزوج القاتل رسالة حاسمة من البارونة تثبت براءة نينا. وإذ يتأكد آربينين من صحة ما تقوله البارونة ويكتشف أنه قد تسرع وقتل زوجته الحبيبة من دون أن تكون اقترفت أي ذنب، يسقط صريع جنون ألم به. ونهاية آربينين البائسة هذه تضع للمسرحية نهاية ملتبسة، إذ تخبر الجمهور أن القاتل ليس المذنب الوحيد هنا، بل إن ثمة مجرمين آخرين من بينهم البارونة وغيرها من أهل المجتمع تركوا الزوج يفهم الأمور على غير ما هي في حقيقتها، بمعنى أن القناع (ماسكاراد) الذي عنون به ليرمنتوف مسرحيته ليس القناع الذي حملته نينا أول المسرحية، بل جملة الأقنعة التي تخفي وجوه مجتمع مجرم.

تعنت الرقابة

والحقيقة أن الرقابة أدركت هذا البعد الاجتماعي، ولا سيما من خلال الصيغة الأولى التي رفضتها، وكانت في ثلاثة فصول تتوقف مع مقتل نينا، بالتالي طالبت ليرمنتوف بتعديلها ففعل، لكنها رفضتها من جديد، فعاد لكتابتها ثالثاً تحت عنوان "آربينين" هذه المرة، لكن الرقابة عادت فمنعتها بحيث إنها لم تعرض في حياة ليرمنتوف، بل لن تعرض للمرة الأولى إلا عام 1852 في عرض مسرحي خاص، ثم بعد ذلك بـ10 سنين أخرى لتعرض وقد توقفت الرقابة عن محاصرتها. ولسوف يقول مؤرخو المسرح إن السبب الحقيقي للمنع كان أن المسرحية مبنية على حادثة حقيقية تمس واحدة من أكبر عائلات الأرستقراطية السانت بطرسبورغية.

ولد ميخائيل ليرمنتوف الذي عرف خلال حياته القصيرة بكونه غاضباً على الدوام، عام 1814، وكان حفيداً لضابط إسكتلندي دخل روسيا خلال الربع الأول من القرن الـ17. وليرمنتوف نفسه، بعد دراسته الثانوية دخل الجيش القيصري وصار ضابطاً، ثم بدأ يعرف كشاعر متأثر خصوصاً بالرومانسيين الإنجليز، وذي شخصية متمردة تجلت في أبرز قصائده وأشهرها "أمنية" التي يبدي فيها حنيناً إلى اسكتلندا، و"لا، أنا لست بيرون" و"موت شاعر" التي كتبها تحية لبوشكين، وأثارت ضده غضب القيصر، مما أدى إلى سجنه. وهو كتب لاحقاً رواية "بطل من هذا الزمان" التي أثارت حنق القيصر من جديد، فنفي إلى القوقاز، ثم أوعز إلى رجاله أن يدبروا مؤامرة ضده قادته إلى مبارزة تسببت في نفيه من جديد. وفيما كان في هذا المنفى، عاد وخاض في عام 1841 مبارزة انتهت بقتله وهو بالكاد قد بلغ الـ26.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة