كثر من المبدعين اهتموا بالمجانين فكتبوا من وحيهم ورسموا لوحات تعبر عن دواخلهم، كما موسقوا بعض حكاياتهم. ومع ذلك يبقى الأبرز بين هؤلاء جميعاً الكاتبان الفرنسي غوستاف فلوبير والروسي/ الأوكراني نيقولاي غوغول، اللذان عرف لكل واحد منهما نص، هو عبارة عن قصة طويلة أو متوسطة الطول تحمل العنوان نفسه تقريباً، "يوميات مجنون"، وتبدوان متشابهتين ومتزامنتين إلى حد بعيد. ونعرف أنه لئن كان نص فلوبير يعتبر الأكثر شهرة في أوروبا في الأقل فإن النص الذي نشره غوغول في عام 1835 يبدو واحداً من أقوى أعمال هذا الأخير، وربما من أقوى نتاجات الأدب الروسي في زمنه، وساعد على ترسيخ قوته الفنان إيليا ريبتين في لوحة شهيرة له استوحاها من شخصية ذلك "المجنون"، الذي تنطق القصة باسمه، وهي لوحة تشاهد في باريس هذه الأيام ضمن إطار معرض بعنوان "روح روسية" يقام للوحات ريبتين، لوحة تتسم بهدوء أخاذ يتضافر مع أقسى درجات الجنون الداخلي التي جعلها الرسام للشخصية التي رسمها بتلاقٍ تام مع أسلوب غوغول نفسه في التعبير عن هذه الشخصية، عبر تدوينه يوميات افترض أن ذلك المجنون دونها خلال مرحلة زمنية محددة وانطلاقاً من تجواله في غير بلد، بصيغة المتكلم التي جعلت قراء كثراً يعتقدون أنها لا بد أن تكون يوميات تعكس مرحلة من حياة غوغول نفسه.
صيغة المتكلم الكاشفة
"يوميات مجنون" هي على أية حال النص الوحيد الذي كتبه غوغول بصيغة المتكلم، وتعتبر إضافة إلى قصتيه الأخريين "الأنف" و"المعطف" من أعماله الأكثر ارتباطاً بسيكولوجية شخصياتها، أعمال كان من المدهش أن التحليل النفسي لم يهتم بها كثيراً، إذ ولد وولد معه اهتمامه بالتعبير الأدبي والفني عند نهايات ذلك القرن الذي كتبت تلك القصص خلاله. بيد أن هذا لن يبدو لنا هنا فائق الأهمية، وطبعاً بالمقارنة مع الأهمية التي يمكننا أن نسبغها على القوة الإبداعية لتلك القصص التي دائماً ما جعلت مؤرخي الأدب ونقاده يضعونها في مرتبة روايات غوغول الكبرى مثل "الأرواح الميتة" و"المفتش العام"، وإلى حد ما "تاراس بولبا"، التي تعتبر من روائع الأدب الروسي حتى في زمن هيمن فيه كبار آخرون من طينة دوستويفسكي وتولستوي وغيرهما من ورثة بوشكين. ومع ذلك فإن موضوع "يوميات مجنون" بالتحديد لا يعدو أن يكون من باب أولى موضوعاً بسيطاً، يخلو من تلك الغرائبيات والتعقيدات التي تسم أعمال غوغول الأخرى.
الهبوط من جادة العقل
تصور القصة عبر يوميات راويها الذي هو كما أشرنا شخصيتها الأساسية، هبوطه من جادة العقل إلى أعلى مراتب الجنون. والشخصية هي شخصية الموظف الإداري في الدولة المدعو بوبريشتشين خلال حقبة معينة من حياته حولته فيها ظروفه الخاصة والإطار العام لمساره الوظيفي والحياتي إلى رجل معقد وحيد يعيش عزلة داخلية خانقة، ويحاول بكتابة تلك اليوميات أن يعيد العثور على ذات غير ممزقة وعلى عقلانية يحس تدريجياً أنه يفقدها ولا يبدو أنه يريد أن يفقدها. أو هذا ما يخبرنا إياه بنفسه من خلال توصيفه لما يحدث له وأمامه يوماً بيوم في نوع من تصاعد قد لا يفقه هو أول الأمر تفاصيله، لكن لغته تبدو وكأنها تعبر عنه من دون أن يدري ذلك، ولا سيما من خلال تدوينه تلك الأمور والصور الغريبة التي راحت تتراءى له فتدهشه أول الأمر، لكنها ستبدو له بالتدريج من العادية إلى حد أن ذلك التدرج سيكون هو السلّم الهابط الحقيقي الكاشف عن تفاقم لحاله لا يمكنه هو إدراكه. وبالتالي فإننا هنا أمام ما يمكننا أن نسميه "اللغة الكاشفة" التي وحدهم السورياليون سوف يمعنون بالاهتمام بها بعد قرن من كتابة غوغول قصته، ويقارنون بينها وبين "مذكرات مجنون" لفلوبير التي على عكس من حالة مجنون غوغول تصور "بطلها" واعياً لحاله، مدركاً أسباب ما يحلّ به.
لغة الجنون المطلقة
في هذا الإطار ستبدو اللغة صاحبة الدور الأساس في يوميات بوبريشتشين، يوميات تبدأ ذات تاريخ محدد على شكل يوميات بسيطة عادية، حيث يحدث للشخصية الرئيسة في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) أن يفيق من نومه صباحاً، كما يخبرنا بكل بساطة، لكنه يجد نفسه غير راغب بل حتى عاجزاً عن مغادرة سريره للتوجه إلى عمله، حيث يتوقع مواجهة رئيسه القاسي دائماً والغاضب عليه دائماً، الذي يؤنبه يومياً قائلاً له إنه لا يتمتع بأية كفاءة في عمله. في ذلك الصباح سينتهي به الأمر للنهوض والتوجه إلى المكتب لمجرد أن يلتقي المحاسب ويطلب منه سلفة على مرتبه يعرف تماماً أن هذا لن يوفرها له. وتتوالى اليوميات إن لم يكن يوماً بيوم فكل يومين أو ثلاثة أيام على أية حال، مع تقطعات قد تصل إلى أسابيع ومرة إلى قرن من الزمن، ما يكشف لنا بالتدريج تفاقم حالة صاحبنا، وتفاقم ردود فعله سواء وصف لنا ما يعايشه في مكتبه أو في بيته أو في الأماكن الأخرى التي يقصدها كالمسارح والمطاعم والمقاهي وما شابه ذلك. ولئن كان علينا أن نلاحظ وربما من طرف خفي أن أموراً غريبة تبدأ بالوجود بقلمه، فإن لقاءً له برئيسه في العمل يوم 9 نوفمبر (تشرين الثاني) سيفيدنا كم أن ثمة تفاقماً لتلك الأمور الغريبة دون أن يدرك هو، بالطبع، غرابتها، ومنها مثلاً أنه حين يلتقي بالرئيس سيتصرف كل واحد منهما وكأنه لا يرى الآخر. وهو حين سيمر أمام بيت الرئيس بعد الظهر حين يغادر العمل لن يدهشه بالطبع أنه لن يرى أحداً هناك. وبعد ثلاثة أيام حين يمر في ساحة ويرى فتاة تجر كلباً كان قد رصد مرورها حين يتقدم منها بكل تهذيب طالباً منها إذناً "رسمياً" بإجراء حديث مع... كلبها.
صراع مع الكلب
ومن خلال هذا الحديث سيعلم بوبرشتشين أموراً كثيرة عن صوفيا ابنة مديره وحياتها، ومشاركتها في حفل راقص تعود منه آخر السهرة منهكة يائسة، غير أنها -كما يروي الكلب- ستفيق سعيدة في اليوم التالي، إذ يزورها شاب متأنق يدعى توبليف ويطلب يدها، بيد أن الكلب يبدي امتعاضه من هذا الشخص وبالتالي يعبر "البطل" عن عدم موافقته على ذلك الارتباط حتى وإن كان سيتهم الكلب بالكذب ويرديه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الزواج المرفوض
وهذا ما يعيدنا إلى حالة من غرام تروى لنا بلغة "البطل"، وتنتهي هنا في الأقل إلى إخفاق يتضمن رفض الفتاة الاقتران به، بل حتى إعلانها قرب اقترانها بـ"غريمه". صحيح أن هذا الأمر يحزنه وقد يغضبه لكنه يبدو عاجزاً عن إدراك غرابته، بل حتى عن إدراك ما يجعله غير موافق على ذلك الزواج. لكن مستوى "الغرابة" غير المدرَكة من صاحبنا سوف يتزايد لاحقاً، مثلاً، حين يقرأ في الصحف أن عرش إسبانيا بات الآن خالياً، ويفهم أن ثمة في هذا البلد مسعى للحصول على ملك جديد، فلا يكون منه إلا أن يتخذ قراره بأنه إذا كان ثمة عرش هناك وليس ثمة من يشغله فإن الأمر يعود إليه. ليتوجه إلى إسبانيا إذن ليتسنم العرش. ولسوف تشغله هذه المهمة الجديدة بحيث يستنكف عن الذهاب إلى المكتب. لكن يومياته سرعان ما تنقلنا هنا إلى يوم 43 من أبريل (نيسان) عام 2000 حين ينبئنا مدوّنها بكل فخر أن العرش الإسباني قد صار إليه. وتكون لغة اليوميات قد باتت الآن في درجة عليا من الغرابة لغة وتواريخ، بحيث نجدنا هنا في اليوم 86 من شهر "مارشنبر"، ثم في يوم لا تاريخ له، قبل أن نصل إلى ما يسميه "اليوم الأول"، وننتقل منه إلى مدريد في الثلاثين من فبراير (شباط)، ثم إلى يناير (كانون الثاني) من العام نفسه وهو شهر يلي فبراير مباشرة... وهكذا.
كلهم خرجوا من المعطف الجديد
من الواضح هنا بصورة عامة أن غوغول عرف في هذه اليوميات التي تبدو ظريفة بقدر ما تبدو أليمة كيف يعبر عن جملة من عوارض نفسية لم يسبقه كاتب آخر إلى التعبير عنها بمثل هذه القوة في الإبداع الفني، من عقدة العظمة إلى انفصام الشخصية إلى الهلوسة، ما يجعل "يوميات مجنون" عملاً رائداً سيسير كثر من كتاب الأجيال التالية على خطاه، بحيث قد يصدق هنا ما يماثل قول دوستويفسكي عن قصة غوغول نفسه "المعطف" من "أننا جميعاً خرجنا من معطف غوغول" فيكون التعبير هنا على لسان المحللين النفسيين "لقد خرجنا جميعاً من يوميات غوغول".