Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غسان الجباعي روائي الانقلابات السورية ومآسي الحرب

المخرج والممثل والكاتب رهن حياته للإبداع وواجه المنع

المخرج والروائي والممثل غسان الجباعي (رابطة الكتاب السوريين)

رحل غسان الجباعي عن سبعين عاماً، انقضى منها في دمشق ما انقضى من سنوات الحرب السورية منذ 2011، ممنوعاً من المغادرة. وكان قد قضى في السجن، كعضو في حزب البعث الديمقراطي السري المحظور، تسع سنوات من 1982 إلى 1991، عقب عودته حاملاً الماجستير في الإخراج المسرحي من معهد كاربينيكا كاري في العاصمة الأوكرانية كييف.

غسان الجباعي مخرج، وممثل، وكاتب للدراما التلفزيونية، ومدرس لسنوات في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وكاتب مسرحي من مسرحياته "جنراليوس" و"الشقيقة" التي أخرجها للمسرح الوطني الفلسطيني، و"سلالم" التي منعت بعد عرضها عشرة أيام عام 2003، ومسرحية "مقتل السهروردي" التي منعت عام 2007. وغسان الجباعي شاعر أيضاً له "رغوة الكلام" وكاتب للقصة القصيرة، وله فيها مجموعة "أصابع الموز"، "الوحل"، وله في الدراسات "الثقافة والاستبداد"، "المسرح في حضرة العتمة".

 

دفعت الزلزلة السورية بغسان الجباعي إلى كتابة الرواية، ابتداءً بروايته الأولى "قهوة الجنرال" عام 2014، والتي فازت بالمرتبة الثانية من جائزة المزرعة التي نظمتها رابطة الكتاب السوريين المعارضة، بتمويل من المعارض السوري النبيل يحيى القضماني.

تَرْشَح السيرية في هذه الرواية كما في روايتي الكاتب التاليتين. فبطل "قهوة الجنرال" ربيع، مخرج مسرحي شاب درس في الاتحاد السوفياتي، واعتقل عقداً قضى منه شطراً في سجن تدمر الشهير، ليخرج بساق واحدة. وتعلن رواية "قهوة الجنرال" عن روائي يلاعب السيرية كما يلاعب مَسْرَحةَ السرد، وكما يلاعب التجريبية، ووعي الرواية لذاتها، حيث صنفتْ وجنّستْ نفسها كنص روائي، يلفعه الالتباس والغموض. ويستبق ربيع قراءة الرواية، فيتساءل عمن يستطيع أن يستمتع برواية مفككة، مملة، بكماء، سيرالية، وحشية، خرافية، واقعية.

تؤرخ الرواية لسوريا بـ "التقويم الانقلابي" بدءاً بعصر الجنرال الأول، في إشارة إلى حسني الزعيم الذي قاد الانقلاب العسكري الأول عام 1949، مدشناً "جمهورية نعم". وتُفتتح الرواية بالفضاء البحري المقيّد بشباك القضبان الحديدية الهائلة، لكأنها الإشارة إلى بلاد مقيدة، سيتركز تقييدها الروائي خلف قضبان فروع التحقيق وزنازين السجون، فيغدو العالم الروائي كمرجعه عالم الكوابيس التي لا يصدقها خيال، في حكايات ربيع المثقف المعارض وحكايات زوجته.

رواية "المطخّ"

جاءت رواية الجباعي الثانية عام 2018، وفي ثناياها شرح لمعنى عنوانها الغريب. فالمطخّ هو بركة ماء صخرية قديمة وسطحية، تتجمع فيها مياه الوديان شتاءً، وتغذيها قناة مخفية، تسورها أعمدة رومانية في سوار السويداء مدينة الكاتب. والمطخّ هو شريان الحياة الأهم لقرية تل الرماد، حيث نشأ بطلا الرواية: أكرم وأمير الشامخ. أما الأول فهو ظل الكاتب الظليل، مثل ربيع في الرواية الأولى. وأكرم فنّان تشكيلي تحول إلى بائع لوحات ومصمم صالونات. "فالإبداع الثقافي في بلادنا – كما نقول جميعاً – لم يكن متاحاً إلا للتافهين والانتهازيين". وكان أكرم قد درس في كييف حيث تزوج ممن ستتركه عقب اعتقاله فور عودته. وعلى العكس من هذا المعارض هو أمير الشامخ الموالي الدائم للنظام على رغم النشأة اليسارية مثل نشأة أكرم. وقد درس أمير في موسكو وعاد بالدكتوراه في الإخراج السينمائي، لكنه هجر السينما إلى الدراما التلفزيونية التي يصفها أكرم بأم الرذائل.

لأكرم رواية عنوانها "المطخّ" أيضاً، قوامها سيرته وسيرة أمير الذي سيدعوه في الرواية (أ.ش). وتقوم رواية غسان الجباعي "المطخّ" على تحويل أمير لرواية أكرم إلى مسلسل تلفزيوني عنوانه "أزهار وجذور". وبذا ينهض بناء الرواية على مشاهدة أكرم لحلقات المسلسل مع أمير، في قاعة في دمشق تحت القصف. وبالتناوب مع المشاهدة تأتي سردية أكرم لروايته التي تم تحويلها، ولسيرة طفولته، وسيرة قريته تل الرماد. ويظل أكرم يبدي ويعيد في تشويه المسلسل للرواية، ملاعباً للضمائر بين المتكلم والأنا، كأن يؤكد أن "رواية الصبي هي روايتي" والغائب: هو. ويكاد السرد بضمير الغائب أن يكتفي بتكأة واحدة هي كلمة "يومها". وقد أكسب التناوبُ الرواية حيوية وتشويقاً.

من المعلوم أن الكاتب غالباً ما لا يرضيه تحويل روايته إلى السينما أو التلفزيون بسبب تعديل السيناريو حذفاً أو إضافة. لكن حال رواية أكرم مع مسلسل أمير أمرّ وأدهى. فأكرم يرى أن أمير – مثلاً – أغفل التفاصيل التي يعدها أكرم جوهر أنواع الإبداع كلها: "لذلك امتلأت روايتي بتلك الجزئيات التي عرفتها وعشتها، والخرافات البائدة، والحكايات الساذجة التي سمعتها".

والحق أن هذا القول هو من التعبير عن وعي رواية غسان الجباعي "المطخّ" لذاتها، حيث تتّقد المشهديات المذهلة بالعنف والجنس والقتل والتحدي، وحيث تتلامع الشخصيات المذهلة بأجيالها المتعاقبة من الأجداد إلى جيل الكاتب (غسان/ أكرم) والمخرج.

حرب عجيبة

أنجز الدكتور المخرج أمير المسلسل في ثلاثين حلقة، بينما كانت البلاد تميد بعد آذار (مارس) 2011، وهو ما تصوره الرواية بمرارة: "فنشبت حرب عجيبة بين حماة الديار وأهل الدار". لكن أمير، الموالي، يبدو كأنه يعيش في دنيا أخرى، بينما يتدفق أكرم – تتدفق رواية غسان الجباعي – بالوله الدمشقي والفاجع السوري، كأن نقرأ عن مأساة دمشق التي تسميها المدينة الياسمينة وشامة الأرض وتاج التاريخ... "مشت دباباتنا على لحمنا" أو نقرأ هذا الذي يصل بين دمشق وقرية أكرم وأمير: "تحولت المدينة الفيحاء إلى تل من الرماد".

يروي أكرم أنه بعد اعتقاله ترك الرسم والنحت، وبدأ كتابة روايته بصعوبة، متحاشياً الممنوعات، أو مداوراً لها. لكن رواية غسان الجباعي "المطخّ" لا تتحاشى ولا تداور، أياً يكن الممنوع الذي تواجهه في السياسة أو التاريخ أو الجسد... وإذا كانت الملخصات السردية التاريخية وغير التاريخية تنتأ أحياناً، فالرواية تخطف الأبصار/ القراءة بشخصيات وأحداث "غزالهَ" وذبحها، جرن غزالة، الصبي يحي الثور، مزار السبعة المقدس وتل الحلق، فارس إذ ينتزع قرن الثور، صراع الجديلتين: الثعبانين، نارا الدخيلة، العانس نسيبة، الفارسة وعازفة العود نور، ألماسة... كما تتلون الرواية بالمتناصات الوفيرة من الغناء الشعبي إلى الغرفة رقم 8 لأمل دنقل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتخلى أكرم في ختام الرواية عن بقية حقوقه عن تحويل روايته، ونقرأ: "أما الآن وأنا أرى بلدي دمّر، وشعبي يقتل ويشرد، فلم أعد بحاجة إلى تلك النقود (...) لم أعد بحاجة إلا إلى شيء واحد فقط: أن أموت مطمئناً، وأن أكون منسجماً مع نفسي"، فهل هو أكرم من يرسل هذا القول أم غسان الجباعي نفسه؟

في عام 2020 صدرت رواية غسان الجباعي الثالثة (قمل العانة)، حيث هيمنت الكتابة الشذرية لتقدم متواليات سردية تبدو مفككة، لكن لحمتها هي سيرة الرسام المنسيّ في فرع التحقيق، وسجن تدمر والجنرال الذي يُغتال... فالسيرية والتجريبية، اللتان وسمتا روايتي الجباعي السابقتين، تسمان روايته الثالثة، لتبقى (المطخّ) واسطة العقد.

لقد رحل غسان الجباعي عن هذه الروايات الثلاث، وعن إبداعاته الأخرى، ومنها قصيدة "أيها الجنرال الصغير" التي كتبها عام 2014، حيث نقرأ: "أيها الجنرال الصغير/ عندما تنتهي الحرب/ تتحول أصابع المعتقلين إلى نايات/ وأصابع الأطفال إلى أقلام رصاص ومحّايات/ عندما تنتهي الحرب/ تتحول عظام الموتى إلى سلالم/ وسواعد الأحياء إلى رافعات/ ودموع الأمهات إلى غدير/ فإلى أي شيء ستتحول أنت/ أيها الجنرال الصغير؟".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة