خلال المؤتمر الصحافي الخاص بفيلمه "الحوت" المشارك في مسابقة مهرجان البندقية السينمائي في دورته الحالية، سئل المخرج الأميركي دارن أرونوفسكي عن رسالة الفيلم فكان رده بأن رسالته تدعو إلى التمسك بالحب. لوهلة، يبدو السؤال سمجاً، من ذلك النوع الذي كان أجاب عنه قطب من أقطاب هوليوود بـ"إذا كانت لديك رسالة فابعثها بالبريد"، لكن بعد تفكير، ندرك أنه قد ينطوي على بعض المنطق. لم علينا أن نتعب أنفسنا ونصاب بالصداع كي نتكهن خلفيات العمل ونياته إذا كان ممكناً أن تحل الأزمة بمجرد سؤال بسيط موجه إلى صاحب العمل؟ فيرد بكلمات واضحة وصريحة تشرح ما لم نفهمه من المشاهدة! أياً يكن، فالساعتان من التعذيب السينمائي اللتان نعيشهما ونحن نشاهد "الحوت" لا يمكن التوقع منهما إيصالنا إلى نتيجة ركيكة، مفادها أن الحب شيء يجب أن نتمسك به. هذه رسالة ساذجة ومجانية لفيلم لن أقول إنه مجاني فقط، احتراماً لتاريخ هذا السينمائي الذي أحببنا بعض أعماله الماضية.
سبق "الحوت" بعض الترويج الذي تم التخطيط له بإتقان، ويلوح بأن ممثله براندن فرايزر، العائد بعد سنوات غياب (كان نجماً في أواخر التسعينيات)، يقدم فيه أداء العمر، مما يتيح له ولادة جديدة، هذا يعني أنه يجب الاستعداد لفيلم "عودة"، كذاك الذي قدمه أرونوفسكي هنا قبل 14 سنة بعنوان "المصارع"، وفاز عنه يومذاك بـ"الأسد الذهبي"، وكان أعاد عبره ميكي رورك بعد خيبات سينمائية متكررة إلى الضوء. من الواضح أن أرونوفسكي أراد تكرار التجربة، لكن بنتيجة غير مرضية هذه المرة، علماً بأن "المصارع" لم يكن في الأصل تحفة سينمائية.
غرفة ودروس أونلاين
"الحوت" ليس الفيلم الأميركي الشعبي الذي نشاهده وفي يدنا علبة بوبكورن. أولاً، يستند النص المقتبس من مسرحية لصامويل هانتر، إلى كثير من الحوارات التي ليست دائماً لماحة أو ذكية، وثانياً الكاميرا لا تخرج من بين الجدران الأربعة لأحد المنازل. داخل البيت سيتم حشرنا طوال ساعتين، لنتعرف إلى رجل سمين يدعى تشارلي (فرايزر)، يصل وزنه إلى نحو ٣٠٠ كيلوغرام. تشارلي يعطي دروساً عبر أونلاين على تطبيق "زووم" متخفياً خلف الشاشة. عدا ذلك لا يفعل شيئاً لافتاً سوى تناول وجبات سريعة كالبيتزا والمقالي إلى حد التقيؤ. في أوقات فراغه يتخيل نفسه أنه الحوت في رواية "موبي ديك" لملفيل. الحوت الذي لا أحد يرغب فيه على حد اعتقاده. يعاني أوجاعاً وارتفاعاً في الضغط، نتيجة حالته الجسدية التي تمنعه من التحرك بشكل سليم، ومع ذلك لا يقصد المستشفى للعلاج.
ربما يترك نفسه على هذا النحو ليجد حتفه. صديقته الممرضة تحذره من عواقب وخيمة، لكن لا حياة لمن تنادي. في هذا الجو المليء بالتعاسة الذي ينذر بقدوم الأسوأ يخطر في بال تشارلي أن يستعيد العلاقة بابنته لعلها تعود إلى مجراها الطبيعي. ابنته المراهقة المتمردة التي لا تطيقه والتي كان فقد التواصل معها لسنوات طويلة. فهو تخلى عن أمها (زوجته) حين كانت في الثامنة، ليعيش علاقة مع… رجل! لكن بعد وفاة الأخير، آن الأوان كي يحاول بناء ما دمره بعد أن بدأ يأكله الندم. وهكذا يغرقنا الفيلم في كثير من الهموم المتداخلة، وهذا كله داخل الأمتار القليلة للبيت (ثاني فيلم لأرونوفسكي داخل بيت بعد "أم")، والذي يتحول مسرحاً لأحداث مهمة وغير مهمة.
مجدداً، إن التشابه الكبير بين "المصارع" و"الحوت" يفرض العودة إلى الفيلم الأول. فالفيلمان عن الجسد، جسد يخون، يرزح تحت وطأة السنين، جسد يصبح عبئاً، مرضاً، سجناً للإنسان. وهو ما كان يعانيه ميكي رورك في "المصارع". وهذه أيضاً حالة تشارلي في "الحوت"، هذا الرجل الذي لا يخرج من البيت بسبب ما آلت إليه حالته الجسدية. وفي الحالتين ثمة توظيف صريح لماضي الممثلين، بصفتهما بطلين تدهورت حالتهما الجسدية عبر السنوات، ومن هذا الماضي يستمد الدور شرعيته، ليحدث حوار بين الممثل والشخصية التي يضطلع بها.
جهد وافتعال
كل هذا ليس فيه أي لبس. في المقابل، ما سيصنعه أرونوفسكي من المواد التي بين يديه، سيبقى محيراً للبعض ولغزاً للبعض الآخر، وهذا لا يعني أن ليس هناك من سيشيد بعبقرية المخرج الأميركي الشهير. فطبيعة التلقي تختلف بين حساسية مشاهد وآخر، لكن ما هو أكيد أن خيارات المخرج التصويرية، وعناصر التأثير التي يلجأ إليها من موسيقى طاغية وغيرها لا تترك مجالاً واسعاً للتفاعل مع الأحداث. الجهد الكبير الذي يبذله فرايزر لتقمص دور كهذا يبقى جهداً من دون أن يتحول إلى عبقرية يختفي خلفها الممثل. وهذا ينسحب على كل شيء آخر في فيلم شديد الإمعان في الزيف والافتعال، وهو فيلم رأسه في الجدية وقدمه في شيء من السخرية، قد لا تكون متعمدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم أفقه، ولست وحيداً في هذا، ما يريده الفيلم ليس منا فحسب، بل من الشخصية نفسها. هناك خطوط عريضة مفقودة أو غائبة تماماً، وكأن أرونوفسكي أراد أن يبني شقة بلا غرف، ناهيك بأن السيناريو يمنح إحساساً بالفوضى. فالنحو الذي يمدنا به بالمعلومات سيئ وغير مقنع، ثم السؤال الذي يلح فعلاً: ماذا لو لم يكن تشارلي سميناً، ماذا كان تغير في الفيلم؟ هل الفيلم هو فعلاً عن السمنة؟ وإذا كان لا، فعم يتحدث هذا الفيلم في نهاية المطاف؟ كل هذا ليس واضحاً ويحتاج إلى أجوبة، بل يزداد غموضاً عندما يحول أرونوفسكي الفيلم إلى ميلودراما لانتزاع الدموع بحيث يسمح لنفسه بكل شيء، من استحضار الذكريات فالغمزات إلى الأدب. نعلم أن هذا المخرج يحب إحاطة أفلامه بهالة من الغموض، لكن تلك التقنية لا توصل العمل إلى حيز الأمان في كل مرة، إذ يحتاج إلى مادة تصلح للتأويلات، في حين أن التسطيح هنا هو سيد الموقف. يبقى أداء فرايزر الذي لا بد من الإشارة إليه، فقد نال الممثل دقائق تصفيق طويلة عندما ظهر اسمه في ختام الفيلم، خلال عرضه الرسمي، علماً بأنه كان من الممكن أن يتحفنا أكثر لو لم يكن غارقاً في الخدع البصرية.