Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حسرة بيتهوفن وشيللر على يوم صار "نشيد الفرح" رمز أوروبا السعيدة

أغنية الكورس الرائعة في ختام السيمفونية التاسعة على ضوء ما يحدث اليوم للقارة العجوز

حين سقط جدار برلين فتدفق أهل شرق ألمانيا إلى غربها (رويترز)

لنتخيل اليوم في حكاية خرافية أن الألمانيين الكبيرين، الشاعر فردريك شيللر والموسيقي بيتهوفن، عادا إلى الحياة ورغبا في تفقد أحوال أوروبا التي كانا من مناصري وحدتها. ما الذي سيكون عليه شعورهما أمام ما يصيبها منذ سنوات ويصل إلى ذروته الآن؟ وبالتحديد منذ فرط "الانعزاليون" الإنجليز في وحدتها وصولاً إلى عودة الحروب والغزوات القاتلة على شكل حرب روسية تحاول أن تمنع أوكرانيا من أن تكون شوكة في خاصرتها، مروراً بأزمات الوقود والغاز المدمرة وأشباح الانفلات النووي بعدما فعلت جائحة كورونا ما فعلت.

لحظة ذروة للفرح

قبل نحو عقدين من الآن تخيلنا كما فعل كثر غيرنا، بيتهوفن الذي حتى "ولو كان صممه كاملاً، إلى درجة عجزه عن سماع أي صوت، بما في ذلك صوت موسيقاه"، وقد "تقلب" كثيراً في قبره، ذات ليلة في ربيع عام 2004، وهو يصغي إلى مئات الملايين من الأوروبيين ينشدون معاً واحداً من أجمل مقاطع سيمفونيته التاسعة، "نشيد إلى الفرح" الذي يؤدي عادة بمصاحبة كورال كبير، مضفياً على ذلك العمل الموسيقي الرائع بُعداً تفاؤلياً إنسانيا فريداً من نوعه. فبيتهوفن، الذي حلم طوال حياته بأمور كثيرة، ما كان في وسعه أن يحلم بأن يتألف الكورال المنشد، تلك الليلة، تلك القصيدة المستقاة من قصيدة لشيللر، من مئات الملايين، وتحديداً لمناسبة الإعلان عن وصول عدد الأمم الأوروبية المنضمة إلى الاتحاد إلى 25 أمة تكاد تمثل أوروبا بأسرها.

يومها، من مالطا إلى تشيكيا، ومن جمهوريات البلطيق السوفياتية السابقة، إلى وارسو وغيرها، كان المشهد عجيباً، بل كان أعجب من ذاك الذي التقطته كاميرات العالم أجمع قبل ذلك بـ15 عاماً حين سقط جدار برلين، فتدفق أهل شرق ألمانيا إلى غربها راكضين وراء الحرية والوحدة، ضاربين الصفح عن ثالثة أثافي قاموسنا "التقدمي" العربي الشهير: الاشتراكية الستالينية. حينها، بين مغنية في براغ بدت طالعة لتوها من فيلم لميلوش فورمان، ومصفق في غدانسك تشابهت ملامحه تماماً مع ملامح ذلك "الأوروبي التوحيدي" القديم دانتون، أحد صانعي الثورة الفرنسية، إلى أضواء الليزر تعم جزيرة مالطا فتجعلها تبدو وكأنها سفينة طالعة من فيلم لفيلليني، مروراً بيونانيي قبرص الذين كانت فرحتهم فرحتين، واحدة حقيقية تعبر عن تحقق حلم عمره أكثر من 2500 عام، والثانية مفتعلة يشوبها، على أي حال، شيء من القلق، سببها بقاء جيرانهم الألداء، أتراك قبرص، خارج الفردوس الأوروبي السعيد؛ مروراً أيضاً بأولئك الأوروبيين الغربيين من سكان لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، الذين لم يهضموا أبداً "سَفْيتَتِهِم"، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

تحقق حلم قديم

كانت أوروبا كلها ترقص تلك الليلة وتفرح حتى الصباح: حلم قديم تحقق، حتى وإن كان بعض الغلاة شعر بغصة لأن "الرقصة" الإمبراطورية، لا تزال تضم بقاعاً تقف خارجها، من النرويج إلى سويسرا، وصولاً إلى بعض البلدان البلقانية. "يحتاج الأمر إلى بعض الوقت أيضاً" قالوا معزين أنفسهم في صدد من سينضم لاحقاً: رومانيا وبلغاريا مثلاً، وربما أتراك قبرص وإلى وقت طويل بالنسبة إلى الآخرين. غير أن تلك الليلة كانت ليلة نسيان المنغصات. تلك الليلة كانت ليلة "نشيد إلى الفرح" والحلم الأوروبي الكبير. الليلة التي قد لا يعبأ فيها أحد بكل تلك التحديات المقبلة التي أفردت لها الصحافة الغربية، طوال الفترة السابقة ألوف الصفحات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في تلك الأمسية لم يكن ثمة مكان للماضي... المكان كله كان للحظة الراهنة، ولكن أيضاً لوعود مستقبلية كان من المستحيل في تلك اللحظات تصور أنها، كلها، ستجد طريقها إلى التنفيذ، أو في المقابل ستجهض تماماً. والواقع أن ما يحدث في خلف ذلك كله، وبالأحرى منذ ذلك اليوم، في أوروبا، إنما كان يبدو صدى لما كانت تقوله كاترين الثانية إمبراطورة روسيا: "أنا لا أعرف كيف أدافع عن حدودي، إلا عبر توسيعها". طبعاً أوروبا، القديمة أو الجديدة، لم تكن في حاجة إلى "الدفاع" العسكري عن حدودها، أما التوحيد فإنه قائم على مبدأ أساسي وهو أن هذه الإمبراطورية الجديدة تكاد تكون الأولى في التاريخ التي يمكن تصنيفها كـ"إمبراطورية اختيارية". ولمن لا يدرك هذا تماماً، قد يكون من الضروري مشاهدة أو إعادة مشاهدة فيلم "وداعاً يا لينين" للمخرج وولفغانغ بيكر، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها خلال تلك المرحلة بالذات، إذ- بعيداً من الحنين الرومانطيقي والتقدمية العمياء- وضع إصبعه على الجرح... لكنه في الوقت نفسه التقط بيديه مكمن الترياق: إنه وحدة الروح، العودة إلى القيم الإنسانية المنفتحة على الحياة، التي مثلتها أوروبا الضيقة أو الموسعة، الإغريقية أو الحديثة، منذ التقط فلاسفة اليونان الفكر وتلك القيم آتين بها من المجال الحيوي الذي كان يمتد إلى الشرق من أوروبا وإلى الشرق من البحر الأبيض المتوسط، ليحولوا الإنسان إلى كائن يفكر، كائن أخلاقي وكائن يدرك أنه قادر على التقاط مصيره بين يديه.

أوروبا جديدة قديمة

والحقيقة أن هذه الـ"أوروبا" القائمة على تبجيل الفكر، هي بالتحديد التي عرضها وتحدث عنها ملحق ضخم كرسته لـ"أوروبا الإنسان" مجلة "كورييه إنترناسيونال" الفرنسية يومها للحدث وفيه اقتبست من عشرات الصحف الأوروبية "بورتريهات" ذات دلالة لوجوه أوروبا الجديدة، ولعل في إمكاننا أن نستنبط جوهر الملف، وبالتالي جوهر أوروبا الأخرى، أوروبا المأمولة، من خلال "بورتريه" لصبية عراقية تدعى سما حداد، كانت في أيامها الأولى حينما أرغمتها سلطات صدام حسين على مبارحة الوطن لتجد نفسها الآن مواطنة بريطانية. سما حداد، يقول الموضوع عنها والمترجم عن صحيفة "اندبندنت" البريطانية، إنها  تناضل في سبيل حرية وطنها الأول، من ضمن مساهمتها في تأسيس مرصد "مراقبة الديمقراطية في العراق"، وتؤكد أنها لم تتخل عن رغبتها وإرادتها في التخلص من الديكتاتورية و"إنقاذ" العراق. وحول سما تختتم الصحيفة البريطانية قائلة: "سما تجسد واحدة من أنبل القيم الأوروبية في أيامنا هذه: الحرية التي تقدمها لكل أولئك الذين يهربون من الطغيان. وفي وقت تبدو هذه الحرية اليوم مهددة بفعل انبعاث حركات اليمين المتطرف في أوروبا نفسها وبفعل جبن حكوماتنا، يتعين علينا أن نذكر أن اللاجئين يمكنهم أيضاً أن يصبحوا أوروبيين كباراً".

تشرشل في كل مكان!

من الحلم الأوروبي إلى الحلم العربي ما الذي يمكن أن نضيفه إلى هذا؟ فقط أن "الحلم الأوروبي" الذي كان في سماته العسكرية داعب خيالات قادة وطغاة كبار على مر التاريخ، عاد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ليستقر في شكله الحضاري الجديد، وهو توصل إلى أن يخلق خلال نصف قرن من الزمن، واحدة من أكبر "الإمبراطوريات" في عالم اليوم، بل ثاني أكبر إمبراطورية بعد الولايات المتحدة. وهذا الحلم الذي ولد حقاً حين قال ونستون تشرشل: "علينا أن نبني ما يشبه الولايات المتحدة الأوروبية"، مر طوال سنوات تحققه، أولاً على شكل تنظيمات اقتصادية و"إنقاذية" ولدت من رحم دمارات الحرب العالمية الثانية، ثم على شكل اتحاد لست دول، ثم لاثنتي عشرة دولة، فالخمس عشرة قبل أن يصل إلى ما قبل محطته الأخيرة، ويضم 25 دولة، وشراكة مع أمم متوسطية تزداد عدداً، ناهيك بدول ستنضم إليه عام 2007، وأخرى تنتظر بقلق تركيا...، هذا الحلم لا بد من القول إنه حلم إغريقي قديم، يتجاهل الحدود المصطنعة بين الأمم فتحقق، على تعدد لغات الأمم الأوروبية وحضاراتها وتواريخها... سواء أكانت تواريخ دامية، أو تواريخ طغيان أو حمقاً جماعياً، أو خيبات أيديولوجية وحروباً دينية، وإمبراطوريات الشمولية، وهيمنة النازية، وحلم اشتراكية مستحيل، تباعاً، تحقق بالصبر واجتياز الصعوبات مزوجاً الفقير للغني والفاشي للديمقراطي، في عرس يحتاج الحوار بين أصحابه إلى ألف مترجم ومترجم... فهل يذكرنا هذا بشيء؟

سواء أكان يفعل أو لا يفعل. لا شك أنه من ناحية أكثر ارتباطاً بما بدأنا به هذا الكلام، يذكرنا بكم أن الإبداع لعب في ذلك اليوم الذي يبدو الآن بعيداً جديداً وأشبه بـ"عصر ذهب"، دوراً رائعاً في تجميع أمم شتى من حول فكرة. فكرة إنسانية ملأت العالم كله يومها بآمال عريضة في زمن كان ينظر إليه على أنه زمن فقدان للقيم الإنسانية الكبرى التي لا بد من الاعتراف للقرن العشرين أنه حملها... على الرغم من كل شيء. قيم لم يكن من الصدفة أن يكون بيتهوفن وشيللر عبر عملهما المشترك خير من رمز إليها ذلك اليوم... وأتعس من قد يتذكرها اليوم!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة