Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بعد سقوط سور برلين: هل اختفت جدران الفصل والتقسيم من العالم؟

السياجات الحدودية المشيدة الآن تعادل محيط الكرة الأرضية وغالبيتها تهدف إلى مواجهة مشكلات الأمن الدولي

جدار برلين (أ ف ب)

على الرغم من اعتبار كثيرين أن لحظة تحرك سكان برلين الشرقية المتحمسين في أحد أيام نوفمبر (تشرين الثاني) قبل أكثر من 30 عاماً لاقتحام السور الذي بنته سلطاتهم الشيوعية في 1961، والذي فصل المدينة عن شطرها الآخر التابع لألمانيا الغربية، جسدت شكلاً من أشكال انهيار التقسيم بين المعسكرين الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي، والرأسمالي بزعامة أميركا، وإعادة ربط أواصر القربى بين العائلات الألمانية التي مزقتها الحرب الباردة، فإن مظاهر التقسيم بين دول العالم لم تنته بانهيار ذلك الجدار في عام 1989.

وعلى مدار العقود التالية، وحتى لحظة إعلان الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب في 2017، عزمه بناء جدار على حدود بلاده الجنوبية مع المكسيك منعاً لتدفق المهاجرين، مثّل بناء الجدران بين الدول، وإن اختلفت أسبابه، بين الحد من الهجرة ومراقبة الحدود أو منع تهريب السلاح والمواد غير الشرعية، حاجزاً لتقسيم الثقافات وفصل المجتمعات، إذ تشير التقديرات المسحية إلى أن الجدران العازلة حول العالم مجتمعة يبلغ طولها نحو 40 ألف كيلومتر، أي ما يعادل محيط الكرة الأرضية.

فهل كانت لحظة سقوط سور برلين نهاية لعصر الشروخ والانقسامات في المجتمعات وتسيد الثقافة الواحدة؟ 

وفق ما كتبه المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما في 1989 بأن "التاريخ قد انتهى"، وأن تدفق الأحداث على مدار السنوات التي سبقت ذلك التاريخ "ليس فقط نهاية الحرب الباردة أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، لكنه نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية، وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل أخير لحكم البشرية"، يتصل مع مظاهر التقسيم بين المجتمعات والثقافات التي لا تزال الحواجز والجدران من أبرز معالم العصر الحديث، انعكاساً لما نظّر له السياسي الأميركي صامويل هنتنغتون كذلك، في ما كتبه بمجلة "فورين أفيرز" الأميركية عام 1993، حول "صراع الحضارات" (تحوّل إلى كتاب عام 1996)، بأن "عصر الصراعات الأيديولوجية قد انتهى، وحل محله عصر آخر يقوم على الصراع بين الحضارات والثقافات والأديان والمذاهب".

سقوط جدار برلين معركة في حرب الجدران

عرف العالم بناء جدران الفصل للمرة الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في مايو (أيار) عام 1945، ففي ذلك الحين، وإبان هزيمة ألمانيا بقيادة النازي أدولف هتلر، بدأت تظهر التناقضات القائمة بين دول الحلفاء المنتصرة وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي، الذين اختلفوا في شأن مصير ألمانيا، وقرروا تقسيمها إلى بلدين، هما جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) وجمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الـ 23 من مايو 1949، أسست الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا جمهورية ألمانيا الاتحادية على الأراضي التي عرفت لاحقاً بـ "ألمانيا الغربية".

من جانبه، رد الاتحاد السوفياتي بتأسيس "ألمانيا الديمقراطية" في السابع من أكتوبر عام 1949، وقد عرفت لاحقاً بـ "ألمانيا الشرقية". ليبني على الإثر جدار على مسافة 155 كيلومتراً (43 كيلومتراً قطعت برلين من الشمال إلى الجنوب، في حين عزلت 122 كيلومتراً برلين الغربية عن بقية جمهورية ألمانية الديمقراطية)، وبارتفاع نحو 12 متراً، عززت من إجراءاته الأمنية والعسكرية نقاط المراقبة (بلغ عدد أبراج المراقبة 302 برج، ونحو 20 نقطة تحصين لأكثر من 7 آلاف جندي تولوا حراسته) على مدار السنوات التالية لعام 1961.

وعلى مدار عقود الحرب الباردة، كان جدار برلين الذي قدرت لاحقاً دائرة الإحصاء الألمانية عدد ضحاياه من الساعين إلى العبور من شطره الشرقي إلى الغربي بالعشرات، بينما تمكن نحو ثلاثة ملايين مواطن في ألمانيا الشرقية، وخصوصاً العمال ذوي المهارات الفنية العالية، من الهرب، حيث مثلت برلين بؤرة الصراع بين القطبين الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة، والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي آنذاك.

وخلال الشهور الأولى من عام 1989، شهدت ألمانيا الديمقراطية هرباً شبه جماعي إلى النمسا عبر المجر طلباً للجوء السياسي، قـدر بأكثر من 50 ألفاً، وهو ما أطلقت عليه "نيوزويك" الأميركية في حينه "الهرب الكبير"، فكان ذلك أحد الأسباب الممهدة لانهيار جدار برلين. وحتى جاء تاريخ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته، حين خرج عشرات الآلاف في تظاهرات بألمانيا الشرقية ضد نظامها، وما لبث عدد المشاركين فيها أن ارتفع إلى مليون، مما اضطر معه المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الحاكم إلى الاستقالة.

وفي مساء التاسع من نوفمبر 1989، وعلى وقع تصريح إعلامي خاطئ لغونتر شابوفسكي، المتحدث الرسمي وعضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الألماني، بأن قيود التنقل بين الألمانيتين قد رفعت، اجتاز مئات الآلاف من الألمان الشرقيين الجدار، وأعلنت برلين الشرقية فجأة سقوط جدار برلين، وفتح الحدود بين الألمانيتين على مصراعيها، فباشر مئات الألمان هدم أجزاء من الجدار بمعاول بدائية، منتقمين من الحاجز الذي حبس حريتهم عقوداً، وتدفق عشرات الآلاف خلال ساعات إلى ألمانيا الغربية عبر "بوابة براندنبورغ" الشهيرة.

 وقبل نحو أكثر من ستة أشهر، وتحديداً في 13 يونيو (حزيران) 1990، بدأت عملية هدم الجدار رسمياً، الذي قال عنه ذات يوم رئيس ألمانيا الشرقية السابق أريك هونيكر (حكم من 1971 إلى 1989) إنه "سيبقى 100 عام"، واستغرقت تلك العملية عامين لإزالة كل التحصينات الحدودية القريبة، وقد مهد هذا الحدث التاريخي لإعلان إعادة توحيد شطري ألمانيا في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 1990، وذلك بعد شهرين من انتخاب هيلموت كول مستشاراً لألمانيا الموحدة في أغسطس (آب) 1990، وإعلان برلين عاصمة لها.

جدران الفصل لا تزال تقسم البلدان والثقافات

بعد 31 عاماً من سقوطه، لم يكن هدم جدار برلين إعلاناً بانتهاء بناء الجدران والحواجز بين الدول، بل كان إحدى السمات الأبرز على مدار العقود التي تلت العام 1989، حيث تشيد كثير من الدول جدراناً، لما تمثله من "حل سريع" للمشكلات الأمنية والثقافية والاقتصادية في نظر كثير من المراقبين.

وبحسب معهد "ترانسناشنال" الدولي للفكر التقدمي، في تقريره المعنون "بناء الجدران"، فإنه وعلى الرغم من أن "تاريخ التاسع من نوفمبر 1989، جسد أمل كثيرين في أن يكون عهداً جديداً للتعاون والانفتاح العابر للحدود، فإنه وبعد أكثر من 30 عاماً فإن العكس تماماً هو ما حدث، إذ يواجه العالم مشكلات الأمن الدولي بجدران وعسكرة وانعزال".

يأتي ذلك في وقت تشير فيه التقديرات إلى أن "جدران الفصل" الموجودة حالياً حول العالم تشكل ما طوله نحو 40 ألف كيلومتر، أبرزها الجدار العازل الذي شيدته إسرائيل مع الفلسطينيين في 2002، وجدار الفصل في الجزيرة القبرصية بين جزئها اليوناني والتركي، وكذلك الجدار الكوري بين شطري جزيرتها، وجدار "بلفاست" أو ما يعرف بخط السلام في أيرلندا الشمالية، فضلاً عن عشرات الحواجز والجدران كما بين شطري إقليم كشمير، والجدار الباكستاني - الإيراني، والأوزبكي - الأفغاني، وبين المغرب وإسبانيا، وعلى الحدود المجرية - الصربية، وأخيراً الجدار الذي بدأ تشييده الرئيس الأميركي دونالد ترمب على حدود بلاده الجنوبية مع المكسيك، وغيرها وفق رصد لـ "اندبندنت عربية".

ففي أحدث الحالات، يأتي الجدار الأميركي على الحدود مع المكسيك، الذي طرح مشروعه الرئيس ترمب العام 2017، "لحماية أميركا العظيمة من المهاجرين والعصابات ومهربي المخدرات"، على حد قوله. وبخلاف جدار ترمب الحديث نوعاً ما، يحتل "جدار الفصل العنصري" وفق تسمية الفلسطينيين، أو "الجدار الأمني العازل" وفق الإسرائيليين، قائمة جدران الفصل حول العالم، وأكثرها رمزية في العصر الحديث.

 

فهذا الجدار الذي بدأت إسرائيل بناءه في عهد رئيس وزرائها أرئيل شارون عام 2002، يبلغ طوله نحو 700 كيلومتر تقريباً، وارتفاعه 8.5 متر، ويتكون من سياجات وطرق دوريات، أما في المناطق المأهولة بكثافة مثل منطقة المثلث أو منطقة القدس، فجرى نصب الأسوار بدلاً من السياجات.

ويقول عنه الفلسطينيون إنه التهم مساحات واسعة من أراضيهم في الضفة الغربية والقدس، كما تسبب في عزل مدن وقرى فلسطينية بأكملها وحاصر أهاليها، حيث يعزل 64 تجمعاً فلسطينياً، يقطنها أكثر من 107 آلاف فلسطيني، ويضم 107 مستوطنات إسرائيلية، يسكنها قرابة 400 ألف مستوطن إسرائيلي، فيما تعتبره السلطات الإسرائيلية "جداراً أمنياً عازلاً" في الضفة الغربية والخط الأخضر، لمنع تسلل "الإرهابيين".

وفي العام 2004، وتحديداً في التاسع من يوليو (تموز)، أصدرت محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً يقضي بعدم شرعية هذا الجدار، لأنه يحد من حق الفلسطينيين في تقرير المصير.

كذلك، ومنذ العام 1974، حيث تم تقسيم قبرص إلى جزء يوناني وآخر تركي، يشطر ما يسمى بالخط الأخضر شطري الجزيرة، على مسافة تبلغ قرابة 180 كيلومتراً، ويمر وسط العاصمة المشتركة نيقوسيا التي تعد آخر عاصمة مقسمة في العالم بعد انهيار سور برلين.

أما عن جدار "بلفاست" أو ما يعرف بـ "خط السلام" بين أحياء البروتستانت والكاثوليك في بلفاست الأيرلندية الشمالية، فجاء في أعقاب وضع القوات البريطانية في سبتمبر (أيلول) 1969 حواجز من الأسلاك الشائكة وأكياس من الرمل للفصل بين حيين في المدينة، على إثر صراعات دموية بين طائفتي البروتستانت والكاثوليك.

كذلك لا يزال الجدار القائم بين الكوريتين في شبه الجزيرة الكورية قائماً منذ سنوات الحرب في خمسينيات القرن الماضي، وهي ما تسمى "المنطقة المنزوعة السلاح"، وهي عبارة عن جدار خرساني جرى تشييده على طول المنطقة المنزوعة السلاح بين الجانبين، وتمتد مسافة 250 كيلومتراً بين عامي 1977 و1979، بهدف "حماية الجانبين من الغزو والاجتياح".

كذلك يأتي "سياج مليلية" الفاصل بين المغرب ومدينتي سبتة ومليلية، الذي بنته السلطات الإسبانية في الفترة ما بين عامي 1995 و2000، بدعوى وقف عمليات الهجرة غير الشرعية وتهريب السلع.

وإن كانت هذه الجدران تهدف أحياناً إلى الحد من تهريب الأسلحة والمخدرات ودخول المتسللين المتشددين، فهي تقسم أيضاً الأحياء والمدن والثقافات و"تعكس الألم والانقسام"، كما يقول المحللون.

ووفق ما تشير وكالة الصحافة الفرنسية عن إليزابيت فاليه الباحثة في جامعة كيبيك في مونتريال، والمتخصصة بالجدران الحدودية قولها، "نحن متأكدون الآن أن هناك جدراناً في العالم يبلغ طولها مجتمعة 40 ألف كيلومتر، أي ما يعادل محيط الأرض". وهذا الرقم يعكس ارتفاعاً كبيراً يعادل "71 جداراً" تعرف على أنها مبان مثبتة في الأرض ولا يمكن اجتيازها، مشيرة إلى أن كثيراً منها يقع في القارة الآسيوية، حول الصين والهند وكوريا وكذلك الشرق الأوسط، وفي أماكن أخرى جرى تشييدها في أوروبا الوسطى، خصوصاً في المجر وبلغاريا والولايات المتحدة لمنع تسلل المهاجرين.

وفي تقرير لمعهد "ترانسناشنال" الدولي للفكر التقدمي ومقره أمستردام، فإن "الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وفضاء شنغن، شيدت منذ تسعينيات القرن الماضي نحو 1000 كيلومتر من الجدران، أي ست مرات بطول جدار برلين، وذلك بهدف منع دخول النازحين".

بينما يرى الجغرافي والدبلوماسي الفرنسي السابق، ميشيل فوشيه، في كتابه، "عودة الحدود" أن "الحدود لم تختف يوماً إلا في الخرائط النفسية للمسافرين الأوروبيين، وأن إلغاء الحدود يعني إزالة الدول، وأن العالم بلا حدود هو عالم وحشي"، معتبراً أنه "في مجتمع فقد مراجعه مما يؤدي إلى المطالبة بالدولة وحماية قوية، وينظر إلى الحدود باعتبارها حماية مطلقة". مضيفاً، "يصبح الجدار بذلك رمزاً يفترض أن يبدد قلقنا".

وبحسب فوشيه، فإن "أحد الأخطاء هو تأكيد أن الحدود والسيادات ستزول، والأمر ليس صحيحاً"، مشيراً في الوقت ذاته إلى اتساع ظاهرة بناء الجدران على مر السنين.

المزيد من تحقيقات ومطولات