Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيلم "البوسطجي" لحسين كمال كما تحدث عنه المؤلف يحيى حقي

معارضة ضمنية لكتّاب يوصلون مؤفلمي رواياتهم إلى المحاكم والتشهير غير المبرر

مشهد من فيلم "البوسطجي" (يوتيوب)

لم يكن الأديب المصري الراحل يحيى حقي ناقداً سينمائياً لكن اهتماماته السينمائية كانت كبيرة وزادت وضوحاً حين حُققت أفلام مقتبسة عن قصص له. ولعل المقال التالي الذي نشره بعد عرض فيلم "البوسطجي" المقتبس عنه قادر على إعطائنا صورة عن هذه الاهتمامات تكشف نزاهة كاتب وموضوعيته بالتناقض طبعاً عما اعتدناه من مواقف لكتاب من عندنا ومن الخارج يعلقون على أفلام مأخوذة عن قصصهم موصلين الأمور أحياناً إلى المحاكم.

ويبدأ يحيى حقي كلامه بالعبارات التالية: "وكنت قبل أن أرى الفيلم لأول مرة في الأسبوع الثاني من عرضه قد استمعت لآراء عديدة عنه، تتراوح بين الثناء الشديد والذم الشديد، وبين الحدين في الوسط ثناء لا يخلو من ذم أو ذم لا يخلو من ثناء، ولكني لحظت أن جميع أصحاب هذه الآراء المتباينة قد تأثروا بالفيلم وبقي في ذهنهم وفرض عليهم أن يتحدثوا عنه، فكان هذا برهاناً عندي – وإن كان غير مقصود من أصحاب الآراء - على أنه قد شذ عن بقية أفلامنا العديدة التي لا ترتفع لمستوى النقد". ورأى حقي أن هذا نجاح من العدل والإنصاف أن نقر له بأنه يرينا، أن "ارتفاع الأفلام عندنا لمستوى النقد مرحلة ينبغي أن نبلغها من قبل أن نصل إلى فيلم يجرؤ على دق أبواب المهرجانات الدولية ثم يخرج لا أقول بلا جائزة بل أقول بلا كسوف".

خيطان متشابكان

وكان حقي بعد مشاهدته للفيلم إذا سئل عنه يبدأ بالكلام عن القصة التي كتبها باستانبول عام 1923 وقد انعقد فيها خيطان "أراد القدر أن يتشابكا" كما قال، الخيط الأول مفتول بصدق فتلاً فوتوغرافياً عن الواقع، وهو مصرع "جميلة" الخاطئة على يد أبيها "فقد كنت حضرت من قبل ست سنوات تشريح جثتها وقرأت بعيني الخطابات الواردة لهذه الفتاة المسكينة من صاحبها الغائب عنها رغم محنتها". والخيط الثاني من محض الخيال: مأساة البوسطجي – هذا الشاب القاهري الذي يفترسه الملل في الصعيد فيقدم على فتح الخطابات التي تمر تحت يده ليجد قدمه قد علقت بشرك من حيث لا يحتسب ماراً به على غير إرادة منه، يدفع بأناس لا علاقة له بهم بل هم مجهولون عنده إلى مصيرهم المأسوي". ويعترف حقي قائلاً: "إنني كنت هنا متأثراً بقصة "الأبله" لدستويفسكي – هذا المحايد الذي لا عليه ولا له يقلب حياة كل مجتمع يخالطه، ينبش مجرد ظهوره بين أفراد المجتمع كل ما يخفونه من نوازع وعواطف فيكون هو القنطرة الصماء التي يعبرون عليها إلى مصيرهم".

وبعد أن يتحدث عن القصة على هذا النحو يدعو حقي قراءه أن يدعوا القصة جانباً، لينظروا إلى الفيلم كعمل فني مستقل بذاته "فنحاسبه من داخله لا من خارجه". ويؤكد الكاتب في هذا السياق أن المخرج هو صانع الفيلم لا كاتب القصة وكل نجاح أو فشل للفيلم ينبغي أن ينسب كله للمخرج. "من شرفه هو وحده يستمد أعوانه شرفهم وبرهان كفايتهم، شأن الأوركسترا مع قائدها"، مستطردا: "كم من أفلام ناجحة سينمائياً لو قرأت السيناريو المقدم لها قلت عنه: هذا لعب عيال والعكس صحيح فتعالوا نحكم على الفيلم من داخله فحسب".

عن الموسيقى والتمثيل

ويلفت الكاتب هنا إلى أن الجميع قد اعترف "أن الموسيقى التعبيرية في الفيلم قد أدت دورها بتوفيق لا مزيد عليه، موسيقى مقتصرة خفيفة الصوت، بلا ضجيج، عرفت كيف تعبر عن الحزن والأسى معاً. أستطيع أن أشهد أنها من الأمثلة النادرة عندنا التي تثبت فيها الموسيقى التصويرية أنها عنصر أساسي في الفيلم". وإذ يؤكد هذا يلفت حقي إلى أن "هناك اتفاقاً في الرأي – لا يصل إلى حد الإجماع - على ارتفاع مستوى التمثيل، في الأدوار الكبيرة والصغيرة معاً، لافتاً إلى أن الذين يشذون عن الإجماع "متأثرون أغلب الأمر بحكم سابق لهم على أصحاب الأدوار الرئيسية، ينفرون من ممثل لشخصه، لذاته لا لدوره، لله في لله، وهذا ظلم. ليس لي أقل نقد على التمثيل، بل أقف عند حسن مصطفى فراش المكتب، إنه كشف مفاجئ لموهبة مخبوءة لا بد أن يتوالى لمعانها".

في المقابل يلفتنا حقي إلى أن الحكم على السيناريو قد اختلف "وأنا لا أملك إلا الثناء عليه، إذ كان تسلسل المشاهد وتركيب بعضها فوق بعض يسيران باتصال مقنع ومريح لا يقطعه تخلخل وركود أو غموض وحشو لا طائل تحته"، مؤكداً أن الإضافات التي أدخلها على القصة خدمت الفيلم "ولكني كنت أتمنى أن يلجأ السيناريو إلى حيلة تنجي الفيلم من اتهامه على حق – بأنه يوهمنا بأن القصة بنت اليوم في قرية اليوم، مع أن القصة كتبت منذ 35 سنة؛ ولا شك أن القرية قد تغيرت ولو في بعض ملامحها". ويرى الكاتب هنا أنه كان يمكن للسيناريو أن يعتمد الحيلة عبر بدء الفيلم بالبوسطجي يوم إحالته على المعاش وهو شيخ أشيب، يجلس مع زملائه يودعهم فيسألونه أن يروي لهم بعض تجاربه فيحكي حكاية الفيلم كما رآها وهو شاب".

وفي هذا السياق التقني نفسه لا يفوت يحيى حقي أن ينوه بالتصوير قائلاً: "وهناك أيضاً اتفاق في الرأي ولكنه لا يبلغ حد الإجماع على أن الأستاذ خورشيد قد ضرب في هذا الفيلم مثلاً فذاً على روعة فن التصوير، والذين شذوا عن الاجتماع أخذوا عليه استبداد غرامه بقطع الشاشة إلى كادرين، الفاصل خط أفقي أو رأسي، إظهار التضاد بين الأبيض والأسود والتلاعب به، وسمعت أن خورشيد يضع هذا الفيلم وسط إنتاجه الغزير بين أفلام خمسة فحسب يعتز بها وله الحق إذ لدينا مصورون كثيرون أكفاء ولكنهم جمدوا جميعاً عند مرحلة ما قبل المدرسة الواقعية الجديدة فلم يستطيعوا اللحاق بها. إن أهمية المصور السينمائي ازدادت وتزداد باطراد حتى يكاد ينافس المخرج فضل نجاح الفيلم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رأي في الإخراج

أما عن الإخراج فيرى حقي أن هناك إجماعاً على أن الفيلم قد أتى بجديد، و"لأنه جديد كان لا بد أن تنقسم حوله الآراء وأصبحنا إذا قارنا الأفلام الناجحة السابقة بهذا الفيلم بدت لنا موضة قديمة، جديد لأنه – أولاً عرف كيف يحرك الممثلين وينطقهم دون تشويح وتقصيع وتضجين وثرثرة لا حد لها. لو سألتني ماذا قالت جميلة لفتاها وماذا قال لها لما عرفت كيف أجيب، وظننت أنهما لم يتبادلا قط كلاماً، فإن التعبير بالصمت وملامح الوجه أنساني الاهتمام بالحوار". ولأنه ثانياً، عرف كيف ينقل إلينا من خلال التفاصيل جو القرية كما كانت، من مشهد جر الفلاحات للجاموسة المحتضرة، إلى الطاحون، فتنقية القمح. وصولاً إلى السقاء الذي لا ينطق بكلمة ولكن يخط خطاً بالطباشير، فجعلنا الفيلم نحس كأننا في القرية – وكلمة "كأن" هنا هي مربط الفرس، غياب "كأن" هو للفيلم التسجيلي ولكنها ضرورية للتعبير الفني، ولأنه – ثالثاً – نجح في تشكيل المجموعات وتحريكها – والتجاء المخرج لأهل القرية أنفسهم لا للكومبارس فتح مذهل للسينما عندنا، ينبغي أن يستغل أكثر وأكثر مستقبلاً".

وفي النهاية لا يسع الكاتب إلا أن يرد على الذين اتهموا الفيلم بأنه مقتبس من فيلم "زوربا". فهو اتهام رد عليه المخرج في حديث تلفزيوني و"أكد لنا أنه كان على علم بأن هذا الاتهام سيوجه إليه ولكنه قبله حين وجد أن تشكيل المجموعات أمامه له قيمة جمالية لا يستطيع أن يضحي بها. إن إعجابي بالأستاذ حسين كمال لا حد له. كل تهنئة له من صميم قلبي قليلة عليه. إنه أصبح من الأسماء التي تعلق عليها أكبر الآمال ولكن ليسمح لي أن أقول له ثلاث كلمات: الأولى: سمعت أنه لم يكد يفرغ من الفيلم حتى هتف: هذا فيلم مهرجان دولي، إنني أخشى أن يكون هذا المطمع قد تسلط على ذهنه وهو يصنع الفيلم، فحمله على المبالغة في الخلق والتحفلط والبراعة. الخطر على الفنان كل الخطر أن يعمل للسمعة. ليكن مطمحه الوحيد هو التجديد ثم يترك العمل هو وقيمته. ثانياً: أن لا يبالغ في تصديق إعجاب بعض الأجانب المقيمين عندنا بهذا الفيلم، فإنهم مأخوذون أول الأمر بالجانب الفولكلوري فإذا نفذوا منه إلى ما تحته ربما كان لهم رأي آخر. وثالثاً: وهذا هو الأهم، نصيحتي له أن لا يرسل الفيلم لمهرجان كما هو فإن حساسية الذوق في أوروبا تأبى أن يرى المشاهد بعينه منظر السكين في يد الأب وهو يطعن بها ابنته كأنها شاة أو دجاجة. حتى منظر ذبح الشاة أو الدجاجة مرفوض عندهم. والقصة تركت جميلة ولا شيء يدل على مقتلها إلا دق أجراس الكنيسة. وكم أتمنى أن لو كان في الإمكان إعداد خاتمة أخرى غير هذه الخاتمة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة