Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تؤثر "دبلوماسية الطعام" في كسب الأصدقاء الدوليين؟

أهميتها أصبحت واضحة لعديد من الحكومات

يمكن الجمع بين الطعام والدبلوماسية لتغيير العالم (أ ف ب)

على الرغم من أن "دبلوماسية الطعام" تعود إلى عقود طويلة ماضية، وظهرت جلياً مع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، وخلال زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الصين في سبعينيات القرن الماضي، فإنها شهدت انتشاراً أوسع خلال السنوات الأخيرة من تايلاند وكوريا الجنوبية وإسبانيا والولايات المتحدة إلى بيرو والدنمارك وتايوان، كأداة من أدوات القوة الناعمة الدبلوماسية، فما المقصود بـ"دبلوماسية الطعام" أو المائدة أو الطهي، وكيف تكون مؤثرة أو ضارة في بعض الأحيان، وما أبرز المواقف المثيرة للجدل مع كبار القادة العالميين؟

"كل الإسباني وانتعش"

في ليالي صيف شهر أغسطس (آب) الدافئة بالعاصمة الأميركية واشنطن، لفت انتباه الصحافة الأميركية، اجتماع كثيرين من الدبلوماسيين ومحترفي الطبخ والأميركيين العاديين في المقر السابق للسفير الإسباني، للاستماع إلى حلقة نقاشية حول أشهر الأطعمة الإسبانية التي تحظى بتقدير عالمي، في إطار سلسلة تسمى "كل الإسباني وانتعش"، والتي تعد شكلاً من أشكال الدبلوماسية الثقافية التي تهدف إلى تقديم إسبانيا إلى الجماهير الأجنبية والمستهلكين وإثارة الاهتمام بالبلاد.

ولم تكن هذه السلسلة التي بدأت عام 2013 استثناء، فقد أقيمت فعاليات مماثلة في ستوكهولم وأوسلو ومدينة نيويورك، وشارك فيها عديد من ممثلي المناطق الإسبانية ومنتجي الطعام والمواد الغذائية وشركات السياحة، بمنحة من وزارة الثقافة الإسبانية وبهدف تحقيق مجموعة من الأهداف الاقتصادية مثل تشجيع الصادرات الغذائية والسياحة، فضلاً عن التقريب بين شعوب العالم وإسبانيا.

دبلوماسية المعدة

ولا تعد جهود إسبانيا سوى واحدة من دول عديدة حول العالم تستخدم ما أصبح يعرف بـ"دبلوماسية الطعام"، أو "دبلوماسية المعدة"، التي تشير إلى الحملات العالمية للدبلوماسية الناعمة التي تهدف إلى زيادة الاهتمام بفن الطهو والمنتجات الخاصة بالدولة من أجل رفع مكانتها، وتوليد نوع من النيات الحسنة، والاستمتاع بالمكاسب الاقتصادية والتجارية غير المتوقعة، ووصفت "دبلوماسية المعدة" على أنها "ممارسة حكومية لتصدير تراث الطهي الوطني لديها كجزء من جهود الدبلوماسية العامة"، أو "مشاركة التراث الثقافي لبلد ما من خلال الطعام"، أو ببساطة كسب القلوب والعقول من خلال المعدة.

واستخدمت هذا المصطلح لأول مرة صحيفة "إيكونوميست" عام 2002، لوصف مبادرة تايلاند العالمية، التي أطلقتها الحكومة في هذا العام بهدف زيادة عدد المطاعم التايلاندية حول العالم من 5 آلاف وخمسمئة إلى 8 آلاف، وتسهيل الأمر على كل من المطاعم التايلاندية وغير التايلاندية لاستيراد الطعام من تايلاند، وتوظيف طهاة تايلانديين، والحصول على قروض ميسرة، بل تم توقيع اتفاقات مع دول أجنبية لتسهيل حصول الطهاة التايلانديين على تأشيرات للعمل، والسبب وراء ذلك أن حكومة بانكوك كانت عازمة على تقديم صورة إيجابية للبلاد، ربما لموازنة التصور السلبي الناجم عن سمعة البلاد كوجهة للسياحة الجنسية حينذاك.

من تايلاند وكوريا إلى أميركا

وبالمثل، تبنى عديد من البلدان استراتيجيات مماثلة، ففي عام 2009، أطلقت وزارة الغذاء والزراعة والغابات ومصايد الأسماك في كوريا الجنوبية ووزارة الثقافة والرياضة والسياحة حملة تحت اسم "من المطبخ الكوري إلى العالم"، فقد اعتقدت الحكومة، من خلال مؤسسة الطعام الكوري وبدعم من الشركات الخاصة، أن الطعام الكوري "هانسيك" يمكن أن يتصدر موجة الاهتمام بالثقافة الكورية التي أعقبت نجاح عدد من الأعمال الدرامية التلفزيونية والأفلام، إلى جانب تنظيم فعاليات الطهي في جميع أنحاء العالم، وركزت كوريا الجنوبية على "الكمتشي" كمنتج ناجح، وذلك بفضل فوائده الصحية المزعومة، وجاذبيته كمنتج طبيعي.

لكن الولايات المتحدة جاءت متأخرة نسبياً، فعلى الرغم من أن غرفة جون كوينسي آدامز الرئيس السادس للولايات المتحدة في الربع الأول من القرن الـ19، كانت مليئة باللوحات التي تعرض كيف استضاف الرؤساء الأميركيون كبار الشخصيات الأجنبية مع بطاقات أنيقة لقائمة الطعام وتذكارات وصور من شؤون الطعام المهيبة في الدولة، واحتواء عديد من البرقيات والمذكرات على معلومات ربطت الطعام بالعملية الدبلوماسية، إلا أن وزارة الخارجية الأميركية، أطلقت برنامجها لدبلوماسية الطهي فقط في سبتمبر (أيلول) عام 2012، وشكلت نحو 80 طاهياً في هيئة طهاة أميركية، كان هدفها الإعلان والترويج للطعام الأميركي في الخارج كأداة للدبلوماسية العامة الأميركية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واعتمد هذا البرنامج على الانخراط في الدبلوماسية الرسمية من خلال التعاون مع الطهاة المشهورين وقادة الطهي الآخرين للاستفادة من إعداد الطعام وتقديمه وتجربة تناول الطعام بشكل عام وبطرق مدروسة ذات مغزى لإشراك القادة الأجانب مع أنشطة وزارة الخارجية، فضلاً عن تعزيز التبادل بين الثقافات من خلال تجنيد الطهاة البارزين للمشاركة في برامج الدبلوماسية العامة التي تستخدم الخبرة المشتركة للطعام لإشراك الجماهير الأجنبية والجمع بين الأشخاص من خلفيات وهويات ثقافية متنوعة.

تأثير عميق

ويشير العدد المتزايد من مبادرات "دبلوماسية المعدة" إلى أن قيمة الطعام في العلاقات الدبلوماسية أصبحت واضحة لعديد من الحكومات، بما يتجاوز مصلحتها المباشرة في الترفيه عن الضيوف الأجانب، فقد بدا للسلطات الوطنية أن استخدامه، يمكن أن يجعل بلداً ما أكثر وضوحاً في المشهد الدولي، عبر جذب عشاق الطعام والمهووسين بالتفرد والأصالة والشعور بالتوحيد الذي يأتي مع العولمة.

ويشير موقع "فورين بوليسي" إلى أن حملات "دبلوماسية الطهي" أو المعدة تعد مثيرة للاهتمام بشكل خاص للبلدان متوسطة الحجم التي تواجه، بسبب قوتها السياسية أو الاقتصادية المحدودة، صعوبة في جذب الانتباه على الساحة العالمية، حيث من المفترض أن يسمح الطعام لمثل هذه البلدان، تحسين الطريقة التي ينظر بها الجمهور الدولي إليها، من خلال تسويق العلامات التجارية، بهدف جعل البلد أكثر وضوحاً من خلال ميزات يسهل التعرف عليها.

عولمة الطعام

ويعد ظهور مبادرات "دبلوماسية المعدة"، نتيجة مباشرة لعولمة الطعام، التي تسمح للمكونات والمنتجات والأفكار ومتخصصي الطهي بالانتشار بسهولة في جميع أنحاء العالم، كما تعتمد دبلوماسية المعدة بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، وهي موجهة بشكل خاص نحو عشاق الطعام العالمي الذين يتشاركون في القيم المشتركة والذوق، ولديهم الوسائل المالية والاهتمام بشراء المنتجات المستوردة، ويمكنهم السفر إلى الخارج، كما يمكن أن تسهم "دبلوماسية المعدة" أيضاً في خلق شعور بالوحدة والفخر الوطني حول الطعام داخل البلدان التي تشارك فيها، ومع ذلك، من الصعب قياس نتائج حملات "دبلوماسية المعدة"، محلياً أو خارجياً، لأن مجموعة متنوعة من العوامل والعمليات الاجتماعية السياسية، تؤثر على مشاركة وتعاون مختلف أصحاب المصلحة الضروريين لضمان نجاحها.

ظاهرة نخبوية

وقد يفضل الجمهور الأجنبي المستهدف المطاعم الصينية أو أكشاك "التاكو" المكسيكية أو متاجر "الكباب" التركي بشكل منتظم، ولكن، يظل كثيرون غير مهتمين بمعرفة مزيد عن الثقافات التي تأتي منها هذه الأطعمة، ولا يعتبرونها ذات تقاليد تستحق الاستكشاف، بصرف النظر عن إمكانية الوصول إليها والقدرة على تحمل الكلفة.

ويكون هذا في الغالب مصير عديد من الدول متوسطة الحجم، مثل تايلاند وكوريا الجنوبية وبيرو، حيث تميل "دبلوماسية المعدة"، إلى أن تظل ظاهرة نخبوية، مع شريحة صغيرة من عشاق الطعام داخل المجتمع.

واستخدمت تايوان "دبلوماسية المعدة" لتأكيد نفسها في مواجهة الصين، ففي عام 2010، أطلق مكتب السياحة ووزارة الشؤون الاقتصادية حملة ترويجية لتقديم البلاد كوجهة سفر بديلة لمحبي الطعام الصيني، ودعمت الحكومة الجهود المبذولة لتنظيم الأحداث في الخارج، وإنشاء مؤسسة غذائية، وتوسيع الشعبية العالمية لها، بينما واصلت سلاسل المطاعم الخاصة عملها للترويج بشكل غير مباشر للطعام التايواني، مستغلة ظاهرة عالمية الطهي.

في الوقت نفسه، ركزت بلدان أخرى على قطاع المطاعم لديها، وشهرة طهاتها، وتفرد مطابخها لجذب السياح الميسورين، بطرق مختلفة كما فعلت بيرو، حيث تجذب مشاهد الطهي المزدهرة عشاق الطعام في كل مكان، وفي الدنمارك، دفعت فكرة المطبخ الإسكندنافي الجديد طهاة البلاد إلى الساحة الدولية، فقد عادت الأطباق والممارسات المحلية التي كانت على وشك الانقراض، مدمجة في خطابات عصرية عن الأصالة والاستدامة والإبداع، والتي تردد صداها في وسائل الإعلام المحلية والعالمية.

"اليونيسكو" والطهي

في السنوات الأخيرة، وسعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو"، قائمة التراث الثقافي غير المادي لتشمل الممارسات الزراعية، وإنتاج الغذاء، وتقاليد تذوق الطعام التي تستمد قيمتها من الروابط الفريدة بين المجتمعات والبيئة المحلية، وأدى إدراج تقليد الطهي في قائمة التراث الثقافي غير المادي إلى تعزيز التقدير لثقافة المجتمع، التي يمكن أن تعزز شعور أعضائه بالانتماء والفخر، إضافة إلى مشاركتهم في الحفاظ على هذه الممارسات حية.

ومن بين ما أدرجته "اليونيسكو" للتراث الثقافي غير المادي في عام 2010: الوجبة الفرنسية، ونظام البحر الأبيض المتوسط الغذائي الذي اقترحته إيطاليا وإسبانيا والمغرب واليونان، وانضمت إليها لاحقاً قبرص والبرتغال وكرواتيا، والمطبخ المكسيكي التقليدي، و"الكسكس" المحضر في الجزائر وموريتانيا والمغرب وتونس، وتربية نحل الأشجار في بولندا وبيلاروس وأكشاك الباعة المتجولين في سنغافورة، إضافة إلى قائمة تتزايد كل عام من المأكولات الوطنية من بلدان مختلفة.

تاريخ من التأثير

غير أن استخدام الطعام كوسيلة مباشرة في التأثير على البشر تعود إلى بدايات القرن الـ19 حينما نشر جان بريلات سافارين المحامي والسياسي الفرنسي الشغوف بالطعام عام 1825، كتاباً اكتسب شهرة واسعة كان عنوانه "فسيولوجيا التذوق" الذي تحدث فيه، بحسب ما تقول صحيفة "ذي سبلندد تابل"، عن قدرة الملذات الجمالية للأكل، على تحويل الطعام إلى لغة مؤثرة، وهو صاحب التعبير المعروف، "أخبرني ماذا تأكل، أخبرك من أنت".

وخلال القرن الـ20 لعب الطعام دوراً مهماً في اللقاءات الرسمية والمفاوضات والتبادلات الثقافية بين الدول، حيث اعتبر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل المحب للطعام حتى نهاية عمره، ما وصفها "بدبلوماسية مائدة الطعام"، أنها أداة مركزية في التباهي بالقوة والتأثير في المناقشات مع صانعي القرار الدوليين، حتى خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كانت أفضل الأشياء في الحياة متاحة دائماً لمن هم في القمة.

وعلى سبيل المثال، حينما زار تشرشل موسكو عام 1942، كان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين حريصاً على إعداد مأدبة رسمية فاخرة مليئة بالأسماك ولحم الضأن والدجاج والديك الرومي، الأمر الذي لم يعكس نقص الغذاء والضغوط التي كان الاتحاد السوفياتي يعانيها آنذاك، ومن الواضح أن ستالين لم يرغب في أن يكون قدوة يحتذى بها، ومع ذلك، أخبر تشرشل طبيبه أن الطعام كان قذراً، على الرغم من أنه لم يشك من عشاء عيد الميلاد مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في البيت الأبيض قبل أشهر قليلة، والذي تضمن الديك الرومي المشوي مع حشوة الكستناء ونقانق الأيل والمحار، مع سلطة "الجريب فروت".

كما كان عشاء الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1972 مع رئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي، نموذجاً آخر على دبلوماسية الطعام، إذ اشتهرت صورة نيكسون وهو يستخدم عيدان تناول الطعام بمهارة نادرة للغاية، على غير المعتاد بين الزعماء الغربيين في ذلك الوقت، الأمر الذي جعل العشاء لا يقل أهمية عن دبلوماسية كرة الطاولة الأكثر شهرة في تدشين العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين، بحسب ما يقول فابيو باراسكولي، أستاذ دراسات الطعام في جامعة نيويورك ومؤلف كتاب "الغذاء والهوية والسياسة".

مواقف محرجة

على العكس من ذلك، يمكن أن يسبب الطعام إحراجاً دبلوماسياً، فحينما زارت إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا عام 1985 دولة بليز، التي حصلت على استقلالها عن بريطانيا عام 1981، اشتملت الوجبة على جوز محمص من قوارض ليلية يعتبرها السكان المحليون طعاماً شهياً، وبينما أثنت الملكة دبلوماسياً على الطباخين، أعلنت الصحف البريطانية أن الملكة تناولت "جرذاً"، ما دفع سكان بليز إلى اتهام الصحافة البريطانية بالعنصرية وانعدام اللياقة والحساسية.

وفي الولايات المتحدة، خلقت كراهية الرئيس السابق دونالد ترمب الخضراوات، لحظات محرجة خلال زيارته الرسمية للهند في فبراير (شباط) 2020، حيث أعد طهاة القصر الرئاسي قائمة طعام مصممة لإرضائه، لكن كبير الطهاة (الشيف)، أضاف "السمبوسك" بالبروكلي والذرة بدلاً من البطاطا والبازلاء التقليدية، ما تسبب في الذعر بين الذواقة الهنود، لكن من الواضح أن ترمب لم يجرب أي شيء من قائمة الطعام النباتية المصممة خصيصاً له.

ومع ذلك، لا تزال "دبلوماسية الطعام" أو المعدة حية وبصحة جيدة حتى اليوم، إذ يمكن الجمع بين الطعام والدبلوماسية، لتغيير العالم.

المزيد من تقارير