Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تسهم قروض المؤسسات الدولية في خروج مصر من ملف الاقتصاد الشائك؟

مؤشرات تكشف بأن الديون الدولية لم تنتشل إندونيسيا وتايلاند من عثرتهما فيما لانزال الأرجنتين غارقة في أزمتها المالية منذ 64 عاماً

سياسات صندوق النقد الدولي وقروضه لم تجد نفعا مع كثير من الدول (أ ف ب)

"السلف تلف، والرد خسارة"، مثل شعبي يتناقله المصريون منذ سنوات طويلة يلخص بأبسط الكلمات خطورة الاستدانة أو الاقتراض، وربما كان صاحب المثل الذي أطلقه للمرة الأولى يقصد به تقديم النصيحة للأفراد، ولم يكن يدور في خَلَده أن الاقتراض سيكون على مستوى الدول والمؤسسات التمويلية كصندوق النقد والبنك الدوليين.

والاقتراض في مصر أمر شائع، خصوصاً بين الطبقات المتوسطة والفقيرة، وترتفع معدلاته بين الأفراد في المناسبات الكبرى، ومع بدء الفصل الدراسي، أو حتى في الأعياد والمناسبات الكبرى. وتقول "هانم. م"، موظفة بالقطاع الحكومي، إنها تقترض بشكل دائم في موسم بدء المدارس لتغطية كلفة الاشتراكات وأعباء الدراسة من أقاربها في الطبقة الأغنى. وتضيف، "السلف دوامة كبيرة لا تنتهي، وأحياناً أضطر إلى الاقتراض لسداد مبالغ سابقة، وأنتظر بفارغ الصبر انتهاء أبنائي من دراستهم".

في المقابل، يرفض محمد مختار، موظف بالقطاع الخاص، مبدأ الاقتراض والسلف، معتبراً إياه بئراً عميقة ليس لها نهاية. ويقول، "أدبر كلفة المناسبات الكبرى والأعباء الدراسية وكلفة شراء الملابس الصيفية والشتوية عبر الجمعيات التي أخطط لها لتوافق مواعيد تلك المناسبات وأرفض تماماً الاقتراض من الغير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وما بين الدول لا يختلف كثيراً عن الذي بين الأفراد، فالاقتراض بين الحكومات والدول لم يرصد بشكل منظم سوى في العصر الحديث، إذ بدأت الدول في الاستدانة من بعضها البعض، أو عبر مؤسسات مالية أخرى على استحياء مع تأسيس أول بنك تجاري عام 1517 بمدينة البندقية في إيطاليا، ولاحقاً أسس بنك في مدينة أمستردام بهولندا عام 1609، ومن ثم انتشرت البنوك في جميع دول العالم.

وتوسعت فكرة البنوك والاقتراض بشكل كبير في النصف الأخير من القرن الثامن عشر حتى القرن التاسع عشر، وقت اندلاع الثورة الصناعية في أوروبا، وتحديداً في بريطانيا العظمى خلال الفترة بين عامي (1760-1840) بسبب دخولها عصر الإنتاج الذي احتاج إلى كثير من المال، فظهرت الحاجة إلى وجود بنوك تشبه الشركات المساهمة التي انتشرت أعمالها بشكل كبير، مما دفعها إلى افتتاح فروع لها، كما شهدت هذه الفترة ظهور بنوك متخصصة في التمويل الصناعي والزراعي والعقاري.

آلية الاقتراض في الشبكات الاجتماعية

بدأت فكرة استخدام المدخرات في الإقراض عبر الشبكات الاجتماعية، وكانت وثيقة الصلة بتنفيذ الأعمال التجارية في الأعوام الأولى لحقبة الثورة الصناعية، كما أشار المؤرخ الاقتصادي الفرنسي بول بيروش قائلاً، "كان التمويل الذاتي هو الشكل المهيمن، وتقريباً الحصري، بداية من الجمعيـات الصـديقة البريطانية في نهاية القرن 18، وصولاً إلى الحركـة الألمانية الأولى للاتحاد الائتماني المرتبط (هيرمـان شولز ديلتش) في عام 1850 و(فريدريش ريفسين) فـي عام 1864، وحتى أنظمة ادخار البريد بدأت في تلك الحقبة".

ومع تفشي الكساد العالمي عام 1930 اضطربت اقتصادات الدول والأفراد بالشكل الذي دفع بتغيير كامل في نظم التمويل والادخار والإقراض، إذ بدأت الشركات والمؤسسات بالتوسع والتركيز على نشاط آخر يتوافق والتطورات العالمية في محاولات لبناء الشركات ومعالجة ارتفاع معدلات الإفلاس التي خلفتها فترة الكساد العظيم، وهو ما دفعها لإعادة تنظيم المنشآت وسيولتها وتنظيم الأسواق المالية بشكل عالمي.

دور البنوك وتأسيس صندوق النقد الدولي

تقبل البنوك الودائع وتقدم قروضاً وتحقق ربحاً من الفرق في أسعار الفائدة المدفوعة وتحمل على المودعين والمقترضين على التوالي، وتعرف العملية التي تأخذ فيها البنوك أموالاً من المودع ثم تمنحها للمقترض باسم الوساطة المالية، ثم جاءت فكرة تأسيس صندوق النقد والبنك الدوليين بإيعاز من منظمة الأمم المتحدة، بعد الدمار الذي خلفته الحربان العالميتان الأولى والثانية.

سريعاً ما تأسس صندوق النقد الدولي بعد أشهر قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939–1945) تنفيذاً لتوصيات المؤتمر النقدي والمالي للأمم المتحدة الذي انعقد في "بريتون وودذ" بولاية "نيوها مبشير" بالولايات المتحدة الأميركية في 22 يوليو (تموز) 1944، ودخل الاتفاق حيز التنفيذ في 27 ديسمبر (كانون الأول) عام 1954.

وارتكز تأسيس الصندوق الدولي في بادئ الأمر على أهداف عدة، جاء في مطلعها تشجيع التعاون النقدي الدولي عن طريق هيئة دائمة تهيئ سبل التشاور والتعاون في شأن المشكلات النقدية الدولية، كما استهدفت التيسير والتوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولية بما يسهم في زيادة فرص العمل ورفع مستوى الدخل الحقيقي بصفة مستمرة وتنمية الموارد الإنتاجية لجميع البلدان الأعضاء.

محفظة البنك الدولي

في غضون ذلك، تأسس البنك الدولي للإنشاء والتعمير في 1944، ثم أطلق عليه فيما بعد مجموعة البنك الدولي، إذ يضم خمس مؤسسات إنمائية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإعادة بناء البلدان التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، وبمرور الوقت تحول محور تركيز البنك الدولي من إعادة الأعمار إلى التنمية، مع التركيز على البنية التحتية مثل السدود وشبكات الكهرباء وشبكات الري والطرق.

 ومع إنشاء مؤسسة التمويل الدولية في 1956، أصبحت مجموعة البنك الدولي قادرة على تقديم القروض لشركات القطاع الخاص والمؤسسات المالية في البلدان النامية، وجاء مع إنشاء المؤسسة الدولية للتنمية في 1960 مزيد من التركيز على البلدان الأشد فقراً، وفقاً لأهدافها عند التدشين، إذ تعد استئصال شأفة الفقر هو الهدف الرئيس لمجموعة البنك، ثم أطلقت المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، والوكالة الدولية لضمان الاستثمار لإثراء قدرات المجموعة على ربط الموارد المالية العالمية باحتياجات البلدان النامية.

وبعد مرور أول ثلاث سنوات من التأسيس، قدمت مجموعة البنك الدولي أربعة قروض بقيمة إجمالية بلغت 497 مليون دولار في 1947، قبل أن يتطور الأمر بعد 75 عاماً لتصل محفظة البنك في عام 2021 أكثر من 400 قرض بقيمة إجمالية بلغت 85 مليار دولار، وبزيادة قدرها 15 في المئة عن عام الجائحة 2020 وفقاً للقوائم المالية للمجموعة.

ولم تحظَ أهداف تأسيس صندوق النقد الدولي برضا الجميع، فبينما يرفضها البعض، يرى آخرون أن التعامل مع تلك المؤسسات قادر على انتشال اقتصادات الدول الهشة من عثرتها، ومع عودة القاهرة إلى الصندوق للحصول على قرض جديد، بررت الحكومة المصرية ذلك بقولها ببيان رسمي في مارس (آذار) الماضي، إنها "تستهدف خلال هذه المرحلة بالتعاون مع صندوق النقد استمرار جهود تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية الضرورية لضمان الحفاظ على مسار النمو الاقتصادي القوى والمتوازن والمستدام، وبما يضمن تحقيق التنمية الشاملة، مع استهداف زيادة مساهمة القطاع الخاص في جميع أوجه الأنشطة الاقتصادية".

من جهته، يقول المحاضر بالجامعة الأميركية هاني جنينة لـ"اندبندنت عربية"، إن "القاهرة لا ترغب بالعودة للصندوق الدولي بغرض الحصول على مليارات الدولارات فحسب"، موضحاً أن "الغرض الأساسي هو الحصول على دعم معنوي بجانب المادي أمام المؤسسات المالية الدولية ومؤسسات التصنيف الائتماني للحصول على شهادات جديدة لجذب مستثمري الخارج، ومن ثم ضخ استثمارات جديدة".

"سم ناقع"

لكن في المقابل، يزعم آخرون أن الصندوق الدولي فرصة لتركيع الدول، إذ يقول عالم الاقتصاد الأميركي جون بيركنز في كتابه "الاغتيال الاقتصادي للأمم"، إن "صندوق النقد الدولي من أهم الوسائل التي تساعد قراصنة الاقتصاد الذين يخدمون المصالح الأميركية على إتمام مهامهم، عبر تكبيل الدول بسلاسل من ديون وقروض لا تنتهي فوائدها".

ووصف العالم الأميركي في لقاءات إعلامية صندوق النقد الدولي لأكثر من مرة بـ"السم الناقع"، زاعماً في إحداها أنه "يقدم المساعدة للدول، لا من أجل إنقاذها، بل لزيادة معاناتها وإغراقها في التبعية لخدمة المصالح التجارية الأميركية".

الانتكاسة الاقتصادية التي عرفتها بلدان آسيا عام 1997، لم تنفع معها اقتراحات صندوق النقد وثبت فشلها عقب تطبيقها في إندونيسيا وتايلاند اللتين رضختا لسياسة التقشف.

ولم يفلت الصندوق الدولي من سهام النقد في مصر، إذ يقول وزير التموين الأسبق جودة عبدالخالق في تصريحات صحافية، إن "الإصلاح الاقتصادي عبر توجيهات صندوق النقد والبنك الدوليين معناه إفساد اقتصادي، وليس إصلاحاً، ولعل انخفاض قيمة الجنيه المصري في مواجهة الدولار خير شاهد".

ولم تكن تجارب دول أكثرها يعاني فقراً ناجحة مع صندوق النقد الدولي، إذ إن الأرجنتين تتعاون مع الصندوق منذ 64 عاماً بعد أن وقعت أول اتفاق ائتماني في عام 1958 لتتوالى البرامج حتى وصلت إلى 22 برنامجاً للإصلاح كان آخرها في مطلع الشهر الحالي، ولم تكن جارتها البرازيل أحسن حالاً، إذ احتاجت لـ12 عاماً لسداد قرض حصلت عليه من الصندوق في ثمانينيات القرن الماضي، بينما كانت اليونان إحدى دول الاتحاد الأوروبي (اليورو) ضحية الديون منذ عام 2008، وفشلت في سداد مديونيتها حتى تخطت 175 في المئة من الناتج المحلي لأثينا، وارتفعت معدلات البطالة إلى حدود الـ25 في المئة.

وبغض الطرف عن السلف والتلف الذي يقود للخسارة، وفقاً للمورث الشعبي، لا تزال عملية الاقتراض في مصر بين مطرقة الاحتياج وسندان التحريم، إذ إن الجدل الديني حول فوائد البنوك لا يزال حاضراً في 2022، ففي الوقت الذي تعد فيه يسرية خليل (ربة منزل) الاقتراض عبر البنوك حراماً شرعاً، تفضل الاقتراض عند الاحتياج من الأقارب أو الجيران بعيداً من البنوك والمصارف. وفي المقابل، تؤكد دار الإفتاء المصرية عبر صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن "هناك فرقاً بين أخذ قرض شخصي دون حاجة، وبين أخذ قرض من البنك تحت اسم التمويل، الذي يحتاج إليه لعمل فارق في حياته".

وأوضحت أن "التعامل مع البنوك بالاقتراض يكون جائزاً إذا كان للتمويل، سواء أكان تمويلاً لشراء منزل للسكن، أو لشراء سلعة أو سيارة، فيكون في هذه الحالة تمويلاً مباحاً شرعاً، بينما يكون محرماً إذا كان القرض للاستهلاك، فيكون محرماً إلا للضرورة".