Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بكم الدولار اليوم؟" سؤال المصريين الثابت منذ نصف قرن

ارتبطت العملتان المحلية والأميركية منذ ثورة يوليو وسادت الأخيرة مع سياسة الانفتاح الاقتصادي في السبعينات وحتى اليوم

مع حال عدم الاستقرار التي ألمّت بمصر بعد ثورة يناير قفز الدولار أكبر قفزاته أمام الجنيه (أ ف ب)

لم تحظَ عملة أجنبية باهتمام المصريين مثلما حظيت العملة الأميركية، ليبقى السؤال: بكم الدولار اليوم؟ متواصلاً جيلاً بعد جيل، بحثاً عن تجارة أو ربح سريع، أو لشراء بعض الأغراض المستوردة المرتبطة حتماً بسعر العملة الخضراء.

العملة الخضراء، أو الصعبة، أو الأجنبية، كلها مرادفات للعملة الأميركية في قاموس المصريين الذين سمّوها بـ"الخضراء" تمييزاً لها عن العملات الأخرى مع مطلع القرن العشرين، وزادت أهمية العملة في خمسينيات القرن الماضي مع تخطي الدولار قيمة العملة المحلية للمرة الأولى بعد اندلاع ثورة يوليو (تموز) 1952، إذ قبل ذلك كان الجنيه المصري صاحب الكلمة العليا والمتحكم في تطور العلاقة بين العملتين.

الجنيه المصري ملكاً

في النصف الأول من القرن الماضي، لم يشعر المصريون كثيراً بأهمية الدولار الأميركي باعتبار أن الجنيه المصري آنذاك كان هو المسيطر، وكانت العلاقة بين الجنيهين المصري والاسترليني الأهم، إذ إن العملتين ارتبطتا لأن البلاد كانت تحت الاحتلال البريطاني، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، أصدر حاكم مصر آنذاك قراراً بوقف التداول بالذهب واعتماد النقد الرسمي القانوني لمصر وربطه بالجنيه الاسترليني، وكان سعر صرف الجنيه الإنجليزي 97.5 قرش مصري (الجنيه المصري يساوي 100 قرش) واستمر هذا الوضع حتى عام 1952 بعد اندلاع ثورة يوليو.

ففي 1939 وخلال فترة الحكم الملكي لمصر، لم يكُن سعر الدولار يتجاوز 0.2 جنيه، أي أن الجنيه المصري كان قادراً على شراء خمسة دولارات. وبعد مرور عشرة أعوام، لم يزِد سعر صرف الدولار مقابل الجنيه إلا بوتيرة طفيفة جداً ليصل عام 1949 إلى نحو 0.25 جنيه.

الدولار يتقزم

ولأن الدراما التلفزيونية والسينمائية أصبحت منذ نشأتها ذاكرة بصرية للشعوب وترجمة حقيقية للسان حال المجتمعات، تناول فيلم "غني حرب"، إنتاج عام 1947، من بطولة الفنان الراحل كمال الشناوي سعر العملة الخضراء في تلك الفترة. ففي أحد المشاهد، استعرض الخطيب كمال الشناوي أمام والد العروس بشارة واكيم حالته المادية، قائلاً "فتحت عيادة تكسب يومياً من أربعة إلى خمسة جنيهات"، ليقاطعه الوالد مندهشاً "يا سلام... خمسة جنيهات مرة واحدة، ده شيء جميل جداً، يعني 20 دولاراً".

قوة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، خصوصاً الدولار تخضع لاعتبارات اقتصادية عدة وأخرى سياسية، فالأولى تستند إلى سعر الفائدة وعجز الموازنة العامة والاحتياطي من النقد الأجنبي والقروض الدولية وميزان المدفوعات والتضخم ومعدل النمو الاقتصادي، بينما لا تقل العوامل السياسية تأثيراً، إذ إن الاضطرابات والحروب وتغيّر الأنظمة السياسية والاقتصادية والثورات لها تأثير كبير في قوة سعر صرف العملة المحلية وفقاً لما قاله مدير "مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية" عبدالمنعم السيد.

"الأخضر" بـ40 قرشاً

 قفزت العملة الخضراء قفزة كبيرة في الأعوام التي تلت ثورة 23 يوليو 1952 مقابل الجنيه، إذ ارتفعت من 0.25 جنيه إلى نحو 0.38، وهنا كانت السينما أيضاً حاضرة، عندما تناول فيلم "الرجل الثاني"، إنتاج عام 1959 من بطولة الفنان الراحل رشدي أباظة، مشهداً للفنانة سامية جمال في محل عملها (الكازينو) بينما تساوم أحد زبائنها على تغيير الدولارات إلى جنيهات مصرية بسعر أفضل من السوق، إذ قالت له "عندك دولارات؟ أنا علشان خاطرك ممكن أغير لك الدولارات بفلوس مصري، وبسعر أحسن من البنك، بس مش لازم حد يعرف علشان ده ممنوع، والجنيه بـ2.5 دولار"، ما يعني أن الدولار كان يعادل 40 قرشاً حتى عام 1960.

في 1961، ثبّت البنك المركزي المصري سعر الصرف الرسمي للجنيه أمام العملات الأجنبية بقوة القانون، ما منحه قبولاً في المعاملات الداخلية بديلاً عن الذهب والفضة.

بين الاشتراكية والانفتاح

استقر صرف العملة الصعبة مقابل الجنيه المصري لمدة اقتربت من 20 عاماً. فخلال الفترة من 1961 وحتى 1978، لم يزِد "الأخضر" عن حدود الـ0.40 جنيه، وهو ما أرجعه المتخصص في شؤون الاقتصاد الكلي هاني توفيق إلى النظام الاقتصادي المصري في تلك الفترة، إذ "لم يكُن منفتحاً على الاقتصاد العالمي، نظراً إلى اتباع النظام المصري آنذاك النظرية الاشتراكية في الاقتصاد، ومن أهم مميزات هذا النظام إغلاق معظم أبواب الاستيراد أمام العالم، سوى في بعض القطاعات وبعض المنتجات، على عكس فترة حكم السادات".

تغيّر النظام الاقتصادي المصري من النهج الاشتراكي إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إلى النظام الاقتصادي الحر أو اقتصاد السوق أو الانفتاح في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، مع فتح مصر أبواب الاستيراد على مصاريعها، لتبدأ طبقة جديدة في الظهور من التجار والمستوردين والمصدرين، وكانت العملة الأميركية هنا حاضرة بقوة.

نحو السوق السوداء

في الثمانينات والتسعينات، بدأت تظهر في مصر ظاهرة جديدة أطلق عليها اسم "السوق السوداء" لتشكل أسواقاً موازية للبنوك، وفقاً للخبير المصرفي ماجد فهمي، الذي أوضح أن "السوق السوداء أماكن تتم فيها عمليات تبادل تجاري للسلع والخدمات بطريقة غير رسمية وغير مرخصة، وتشمل المتاجرة في السلع أو الخدمات الشرعية مثل تجارة العملة والمواد الغذائية والبترول وغيرها".

يؤكد فهمي أن "السوق السوداء تنشأ لسببين: الأول محاولة الهروب من قيد الأسعار التي تفرضها الدولة على السلع والخدمات، والثاني الرغبة في التهرب من الضرائب المستحقة على هذه السلع والخدمات".

حقبة التسعينات كانت شاهدة على انهيار العملة المحلية مقابل الدولار الأميركي، إذ سجلت العملة الخضراء نحو 1.50 جنيه عام 1991 بنسبة ارتفاع تجاوزت 80 في المئة، ثم توالت الانهيارات إلى ثلاثة جنيهات للدولار في 1992، بنسبة 100 في المئة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع سطوع نجم الألفية الجديدة، تراجعت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار ليصل سعر الأخير إلى 3.5 جنيه قبل أن يصعد إلى 3.75 جنيه عام 2001، وهو ما رصدته السينما المصرية أيضاً، إذ جسد فيلم "بخيت وعديلة" للفنان عادل أمام والفنانة شيرين عام 1995 قصة العلاقة القوية بين العملتين الأميركية والمصرية في أحد مشاهده، عندما أخرج البطل مبلغاً من المال قائلاً "الرزمة دي 10 آلاف دولار يعني تساوي 33 ألف جنيه مصري"، ما يعني أن سعر الدولار وصل في هذا الوقت إلى 330 قرشاً.

بعد مرور العقد الأول من الألفية الجديدة، زحفت قيمة العملة الخضراء لتتخطى حدود خمسة جنيهات للمرة الأولى. وبالعودة إلى شاشة السينما، سنجد أن الفنان أحمد حلمي في مشهد من فيلم "عسل أسود"، إنتاج 2010، يعرض على الفنان لطفي لبيب أن يقدم له 50 دولاراً، أي ما يوازي 100 جنيه، لكن الفنان لطفي لبيب يصحح له المعلومة، مؤكداً أن الدولار أصبح سعره 550 قرشاً.

ثبات مؤقت وتعويم مستدام

ثبّت البنك المركزي المصري سعر العملة المحلية أمام العملة الصعبة منذ عام 2004 في ظل حكومة أحمد نظيف، وهي المرحلة التي وصِفت بأنها الأفضل في تحقيق معدلات النمو الاقتصادي لمدة 7 سنوات تقريباً حتى اندلاع ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، قبل أن يزحف إلى 6.50 جنيه في منتصف عام الثورة.

ومع حال عدم الاستقرار التي ألمّت بالدولة المصرية، قفزت العملة الخضراء أكبر قفزاتها منذ بداية العلاقة الوثيقة بين العملتين، ليصعد الدولار إلى حدود ثماني جنيهات قبل أن تلجأ الحكومة إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض مقابل إصلاح اقتصادي لمدة ثلاثة أعوام، وكان أهم قراراتها في هذا الشأن تحرير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار (قرار التعويم) في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 ليقترب "الأخضر" من حدود الـ19 جنيهاً، قبل أن يتراجع ببطء متخطياً حدود الـ15 جنيهاً بقليل.

عانت القاهرة قبل قرار "التعويم" من أزمة طاحنة في توفير العملة الأجنبية، وعادت السوق السوداء بقوة، وتحكم تجارها في العملة الصعبة، كما جرى تداول معظم تدفقات العملة الأجنبية خارج القنوات الشرعية، حتى تجاوزت الفجوة بين سعري الصرف الرسمي وغير الرسمي في الأسابيع الأخيرة التي سبقت التعويم نسبة الـ90 في المئة، إذ وصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى مستوى 16 – 17 جنيهاً، نظير 8.88 جنيه بالبنوك، في حين فقد الجنيه أكثر من 100 في المئة من قيمته بعد التعويم، ليستقر الدولار عند حدود 15 جنيهاً حتى نهاية عام 2021.

وما أشبه الليلة بالبارحة، إذ تحرك "الأخضر" رويداً رويداً مع عودة الحكومة المصرية إلى صندوق النقد الدولي من جديد ببرنامج آخر للإصلاح الاقتصادي والهيكلي والمالي، ليكسر سعر صرف الدولار الأميركي حاجز الـ19 جنيهاً من جديد مقابل الجنيه مع نهاية الأسبوع الأول من أغسطس (آب) الحالي، ولا يزال السؤال التقليدي للمصريين لدى حديثهم عن العملة الخضراء كما هو: بكم الدولار اليوم؟.

اقرأ المزيد