توثق مجموعتا القاص والمسرحي السعودي عبد العزيز عسيري "باتجاه الجنوب" و"أيام الشِّيح الأخيرة" (دار الانتشار العربي ونادي الطائف الأدبي) لمدينة الطائف وناسها بطابع رومانطيقي يتغنى بالطبيعة ويؤنسن المادة ويجنح إلى الفنتازيا والخيال واللغة الشاعرية. يستحضر في قصته الأولى من مجموعة "باتجاه الجنوب"، المعنونة بـ "وجه أمي" أسماء أعلام وأماكن وألعاب شعبية في مدينة الطائف. وفي قصته "أيام الشيح الأخيرة"، يترجم بصورة رمزية مكثفة للشاعر السعودي محمد الثبيتي (1952- 2011) الذي يصفه بابن القريتين - أي مكة والطائف- حيث عاش الشاعر طفولته في إحدى قرى بلاد بني سعد، جنوب مدينة الطائف، وبعدها انتقل إلى العيش مع عمه في مكة المكرمة. واتخذ له القاص اسم نبات تشتهر به الطائف "الشيح" راجياً ألا يتركه ويتوجه إلى مكة، بينما الشاعر المسكون بالترحال يتخذ طريقاً مملوءًا بالحكايات والأحداث التاريخية بداية من وادي "وج"، أحد أشهر أودية الطائف الذي يُروى أن نوحاً بنى سفينته فيه، ومنه إلى طريق "المثناة"، ويحيل إلى ما حدث للنبي في رحلة عودته من الطائف إلى مكة.
إحالات تاريخية
يمر الشاعر في رحلته على أمية بن الصلت، الشاعر المشهور وأخته فارعة الصاحبية والأديبة والشاعرة التي عرفت بجمال الهيئة ورجاحة العقل. إلا أن أمية لا يلتفت إلى شاعرنا الذي يواصل رحلته، هابطاً إلى مكة ليجلس في إحدى أغوارها ملتمساً النور، فتضع حمامة بيضة في حجره. في طريقه، يستوقفه جن ويطلبون منه أن يلقي عليهم شعراً، فيسمعهم ما يشاؤون حتى يتفرقوا عنه. وكما استقبل المطعم بن عدي النبي وأجار النبي بعد رجوعه من الطائف، عندما رفضت قريش دخوله إلى مكة، يجد الثبيتي من يستقبله عند شعب علي، ويدخله مكة من باب السلام ليطوف بالكعبة ويختم القرآن وينام في رحابها. فهذه القصة مملوءة بالإحالات التاريخية ورحلة الإنسان من الشك إلى اليقين، ومن المعاناة والعذاب إلى الراحة والسلام، بلغة تخلو من المباشرة، توحي ولا تصرح، تاركة للمتلقي حق ملء الفراغات بين الأسطر، خصوصاً في ما يتعلق بتاريخ الطائف في صدر الإسلام.
طرب أصيل
ويرصد في مشهد مكثف قصة أحد المغنين الشعبيين في الطائف في قصته "يوسف محمد... أسمر وحليوة" في جلسة من جلسات الغناء والسمر الخاصة في أحد بساتين "المثناة" في الطائف، التي يحضرها كبار المغنين والشعراء في السعودية مثل الزعيم طارق عبد الحكيم (1918- 2012) ملحن السلام الوطني السعودي، سيد مجلس الغناء، ومن حوله طلال مداح الذي يحيل عنوان القصة إلى أغنية من أغانيه، والملحن المطرب عبدالله محمد (1930- 1998)، والفنان محمد علي سندي الذي اشتهر بفن الدانة المكية، والشاعر الغنائي إبراهيم خفاجي (1926- 2017) مؤلف النشيد الوطني السعودي وغيرهم، أقلهم ذيوعاً وشهرة كان يوسف محمد، صاحب الصوت الشجي والعفوي الذي تختتم أدوار الغناء بأغنيته "جبال الكحل تفنيها المراود". ثم ينفض المجلس فلا طرب بعد يوسف. تلك الأيام والجلسات التي سيحن إليها يوسف الذي تسيطر عليه الشيخوخة وضيق ذات اليد والسعال الذي لا ينقطع إلا إذا غنى.
ومن شخصيات الطائف التي يستحضرها في مجموعته القصصية "ردة" الذي من المحتمل أن يكون هو والد الكاتب المسرحي السعودي فهد ردة الحارثي الذي يهديه المؤلف مجموعته القصصية "باتجاه الجنوب". ويحضر ردة في المجموعتين القصصيتين بطابع أسطوري متناغم مع الطبيعة، تضبط الشمس مواعيد شروقها بمواقيته، يوقظها كل صباح، يتهمه الناس بالكسل لأنه يرفض أن ينقل بسيارته الأجرة الركاب إلى مدينة جدة، بدلاً من مكة لزيادة دخله. وليرفع تهمة الكسل عن نفسه، يوافق على نقل الركاب إلى جدة، لكنه لم يستطِع العودة في المساء إلى الطائف كما كان يفعل عندما كانت رحلته إلى مكة، ليتفاجأ الناس باستيقاظ الشمس متأخرة في ذلك اليوم لأنها لم تجد من يوقظها. وهو السبب أيضاً في توهج نجوم سماء الطائف.
النقاء والطبيعة
وفي مجموعته الثانية "أيام الشيح الأخيرة"، يستحضر ثلاث قصص أخرى عن ردة بالروح ذاتها بعنوان رئيس "ما تبقى من حكايات ردة- الحكاية الحادية عشرة". وتحكي تلك القصة عن ردة بوصفه حارس عالم المحبة والطهارة. ففي أثناء جلوسه على جبال الطائف، يتمكن من الإمساك بالأدعية المرسلة إلى السماء، يفتحها ثم يطلقها، ليمر على أصحاب الأدعية ليطلب منهم العفو عن الآخرين. لكن عندما غاب ردة، عمت الكراهية في المدينة. تلك الطهارة التي تنشغل بها قصص كثيرة لعسيري التي تندد بفساد العالم مثل قصته القصيرة "سعال" التي يقول فيها: "مدينتي أصابها السعال هذا المساء... حملتُ لها زجاجة دواء منتهية الصلاحية" ص38. وفي قصة "الباب الشرقي" بمجموعة "اتجاه الجنوب"، يطالب المدينة بأن تتطهر من دنسها.
وفي قصته "الالتصاق" في المجموعة ذاتها، يتناول فكرة تطهير القلب وتوحده مع الطبيعة والعصافير: "فجأة هويت على الأرض نازفاً طيناً أسود، إذ بأغصاني تنشطر، تتدفق منها عصافير بيضاء، التفت حولي حملتني فارتفعت وارتفعت، رأيت المدينة الصدئة تنز قيحاً تتلحف عفونة، أشحت بوجهي فأشرق الضباب، نزلت في سحابة فاغتسلت وعندما هبطت كانت العصافير تحيط بي، مرددة نغماً كانت تنشده أمي عندما آوي إلى حضنها" ص28. وتحكي قصة "ما تبقى من حكايات ردة – الحكاية التسعون" عن الاغتراب النفسي الذي عاشه ردة في آخر حياته بسبب تبدل العالم من حوله، ليغلق الباب على نفسه مختاراً حياة العزلة عن العالم الذي لا يعرفه. والاغتراب النفسي والمكاني من السمات التي تتردد في ثنايا عدد من قصص المجموعتين مثل قصة "عيال عبد القوي" في مجموعة "باتجاه الجنوب" التي تروي قصة العجوز التي تفرق عنها بنينها وبناتها بحثاً عن الرزق، فتردد في ثنايا القصة كثيراً: "الله أكبر يا عيال عبد القوي تفرقتم" ص13.
مهدي الجريبي
ومن مجموعة "باتجاه الجنوب"، يهدي الكاتب قصتي "جدل 1"، و"جدل 2" إلى الفنان التجريبي مهدي الجريبي المولود في مكة عام 1969، ويحكي فيهما عن ذلك الرسام الذي يمنح العالم البهجة بألوانه الزاهية التي تستلهم عالم الطفولة وبراءته وتغريد الطيور وحلوى الأطفال وخيالهم الخصب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتسرد قصصه حكايات عادية من الطائف مثلما هي الحال في قصة "انتحار" التي تبحث فيها الأم والأخ الأكبر للراوي عن فتاة تصلح زوجة له من دون أخذ رأيه. فالأخ تزوج من فتاة دميمة، فيبحث لأخيه عن فتاة أحلامه ليزوجها له، والأم تريد تحسين نسل العائلة. وتنتهي هذه القصة بمفارقة، إذ يرفض الفتى تسليعه ويطلب الزواج من امرأة عجوز نكاية بهما: "خرج من المنزل، وما زال العرض مستمراً، طرق أول باب، خرجت له امرأة عجوز قال لها: تتزوجينني؟" ص 16.
ومن القصص ذات الطابع الفنتازي، قصة "وجه أمي" في مجموعة "باتجاه الجنوب"، إذ يتحول السارد إلى فراشة، تطير إلى أعلى المنزل. وعندما تصعد أمه لإيقاظه في الصباح، تجده قد تحول إلى وعاء طيني مملوء بالزهور والفراشات.
الجانب الرومانسي
ويغلب على قصص عبد العزيز عسيري، بخاصة في مجموعته الثانية "أيام الشيح الأخيرة" الجانب الرومانسي. تتناول قصة "نافذة" حياة أسرة سعيدة، وفي "أصابع متشابكة"، يأتي الحب في صورته الحسية الجسدية. وفي قصة "القطار"، يتحدث عن الحب من طرف واحد. ويستعين بالتراث الشعري العربي في صياغة مثل هذه القصص التي لا تتجاوز السطر الواحد أو السطرين. في قصته/ القصيدة، يقول: "سقط النصيف ولم تتقنا بيدها فوأد الشاعر القصيدة" ص52. وهو يحيل بذلك إلى قصيدة النابغة الذبياني التي يقول فيها: "سَقَطَ النَصيفُ وَلَم تُرِد إِسقاطَهُ/ فَتَناوَلَتهُ وَاِتَّقَتنا بِاليَدِ/ بِمُخَضَّبٍ رَخصٍ كَأَنَّ بَنانَهُ/ عَنَمٌ يَكادُ مِنَ اللَطافَةِ يُعقَدِ/ نَظَرَت إِلَيكَ بِحاجَةٍ لَم تَقضِها/ نَظَرَ السَقيمِ إِلى وُجوهِ العُوَّدِ". أما قصة "أذان": "كلما صدح المؤذن توضأت يممت وجهي شطرها" ص70، فتنقلنا مباشرة إلى قول مجنون ليلى: "أراني إذا صليتُ يممتُ نحوها/ بوجهي وإن كان المُصلّى ورائِيا/ وما بي إِشراكٌ ولَكنَّ حُبها/ وعُظم الجَوى أَعيا الطبيبَ المُداويا".
أسلوبان قصصيان
يختلف أسلوب القصص في المجموعتين، فهناك قصص قصيرة غلب عليها التكثيف الشديد كما في "باتجاه الجنوب" والثلث الأول من "أيام الشيح الأخيرة". أما الأسلوب الثاني، فهو قصة الومضة فقد تكون القصة سطراً فقط ولا يزيد أطولها على عشرين كلمة.
ومن النماذج على الأسلوب الأول قصة "الذواق" التي تحكي عن رجل يشتري من المحال أكثر بكثير مما يحتاجه، ليشعر نفسه بشعور من لديه أسرة وأولاد: "... توجه إلى منزله فتح باب شقته، وضع الأكياس في الصالة، دخل غرفة النوم، ثم تمدد على السرير، تخيل أن له زوجة وأطفالاً" ص30. أو عن ذلك السجين في قصة "صرير" الذي أصبح كل أمله في السجن أن يبدل قيده بقيد جديد: "البارحة أرسل استرحاماً إلى إدارة السجن منوهاً أن القيد أصبح أسيره فلم يستبدل منذ دخوله السجن، ويرغب في منحه قيداً جديداً بمناسبة عيد ميلاده، جاءه الرد مصحوباً بأمطار بلعومية من الحارس..." ص17.
وتعتمد القصص على الإحالة إلى معنى من دون التصريح به وترك مساحة للمتلقي ليسد الثغرات كما في قصة "ورقة توت" التي تترك مساحات واسعة من الحكي فارغة: "لماذا قالها بتلك النبرة! هاه، لماذا قالها أصلاً، أتذكر أني ابتسمت فصفعني ثم ركلني ثم قالها" ص21. وتستمر القصة في ترداد هذه الأسئلة داخل ذهن ساردها الذي يقف وحده، محاولاً فهم الموقف الذي حدث له، فيستعيده ويشكك في بعض أحداثه من دون أن نعرف أي تفاصيل.