Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العُماني سلطان العزري يسرد تحولات المكان مجازياً

مجموعته القصصية "قبل أن نسقط في البحر" متنوعة المصادر

مشهد من مدينة مسقط (موقع مدينة مسقط على فيسبوك)

على الرغم من قلة أعمال العُماني سلطان العزري الأدبية، فإنك تستشعر أصالة صوته السردى وامتلاكه الواضح لأدواته على نحو ما يظهر في عمله الثالث "قبل أن نسقط في البحر" (سلسلة كتاب "نزوى") والذي يضم ثماني قصص متوسطة الطول باستثناء القصة الأخيرة التي تحمل عنوان "الأغنام". والحقيقة أن هذه المجموعة تتميز بالتنوع الشديد في ثيماتها الموضوعية وشخصياتها وأماكنها التي تهتم بوصفها على نحو لافت، ففي قصة "الرائحة" يبدأ السارد بوصف مطول للمكان وهو وصف يتداخل فيه الواقعي والمجازي، "انتصبت قامات مبان بيض طويلة وعريضة في وجهها عيون كثيرة يدخل ويخرج من فمها البشر. عندما يفتح الصباح فاه تمخر أكداس من العربات المكان، تفتح المدينة عينيها على شمس حارقة"، وهى كلها استعارات كنائية تحاول تشخيص المكان من دون أن تثقل حركة السرد، على أن أهم ما يتوقف السارد أمامه هو تلك الرائحة التي ظهرت في الليل وتستمر أياماً ثم تختفي. ووصف هذه الرائحة بالعفن يمنحها إمكان الإيحاء بالفساد الذي يحاول الجميع الهرب منه، فأحكم الرجال أطراف عمائمهم أمام أنوفهم وانتشرت عادة اللثام الليلي، فهى رائحة ترتبط بالظلمة مما يؤكد الإيحاء السابق، وقد بدت وكأنها تطارد الناس ليشعروا بها "ففي الأيام الأولى عندما اندست الرائحة في الظلمة أخذت السيارات تغير مساراتها لتجنبها. كانت هي أيضاً تغير أماكنها".

وفي مقابل هذه المطاردة وهذا الانتشار "حاول كثيرون ملء بيوتهم وحياتهم وأماكن عملهم بالإضاءة". ويزداد الإيحاء وضوحاً حين يطلق الناس على المدينة أسماء متعددة من قبيل "مدينة الرائحة العفنة" و"مدينة الظلمة الفاسدة" و"مدينة الروائح الكريهة"، وهكذا حتى يصل سكان المدينة إلى التعود عليها والالتصاق بها، "فأصبحت تتمتع بنهارات متلألئة على شاطىء البحر، تقدم مع أطباق الكافيار كوجبة راقية لوجوه اعتادتها، التصقت بثيابها".

ولا شك في أن الاعتياد هو آخر مراحل السيطرة واكتمال دورة الفساد الذي هرب الناس منه في البداية ثم بدوا كأنهم يحتفون به في النهاية.

حكي شعبي

وفي قصة "خيل شنون" نجد أنفسنا أمام موضوع آخر وهو تمرد الإنسان على وضعيته والتشبث الواهي بوضعية أخرى، فقد فوجئ الناس بـ "شنون" هذا الفقير ذو الأصول الأفريقية وهو يدخل السوق راكباً حصاناً، وقد ظلوا على اندهاشهم على الرغم من كونه "حصاناً هزيلاً سقط بعض ضروسه"، فهو من الخيول التي تستغنى البلدية عنها. وإلى هنا لم تظهر أزمة القصة التي تبدأ حين يهمل "شنون" صنعته القديمة ويبدأ يهتم بمظهره، فلم تعد ثيابه بالية أو متسخة.

واجه الناس هذه التغيرات الشخصية بالدعابات القاسية على الرجل "الذي تنكّر لأصله، الحدّاد الحالم بأن يصبح فارساً لزمانه على خيل سقطت ثلة من أسنانها الأمامية"، وظل الأطفال يلاحقون "شنون" وخيله بالحصى حتى أقسم بأغلظ الأيمان بأنه سيرد بالرصاص، "فانتاب الناس القلق والخوف من حال التوحد بالخيل لدى شنون"، وتوقف الأطفال عن الملاحقة غير أن بعضهم فكر في خطة خبيثة لإيذائه حين قلدوا صوته واتصلوا بخاله "ناصر" وطلبوا منه أكياس سردين مجفف على أساس أنه يمتلك بقرة، وعندما يتصل بخاله مستنكراً الأكياس التي أرسلها يدرك ما دُبر له، بخاصة أن بعضهم ردد خلفه تهكماً "بقرة شنون تاكل عومة". وهكذا حتى دوّت بعد دقائق طلقة رصاص من بيت "شنون".

هي قصة تقترب من الحكي الشعبى الذى يحمل مغزى محدداً ويسعى إلى استهجان بعض السلوكيات من خلال العبرة المستوحاة من بنائه الفني، فقد انتهى حال "شنون" إلى ما يشبه الجنون وأصبح العداء مستحكماً بينه وبين المجتمع الذي كان يعيش فيه آمناً على رزقه وحياته.

الحس الكوميدي

وتقترب شخصية "سالم الطرف" في قصة "أجازة حقيبة" من شخصية "شنون"، غير أن أحلام "سالم" بسيطة لا تزيد عن ترتيب رحلة سنوية إلى بلد آخر ينسى فيه متاعب العمل وروتينيته، حيث يكون بعد هجرته في "عالم مختلف ينشر فيه حياته كلحاف على الملأ من دون أن يخجل أو يخاف".

ولنلاحظ حرص السارد دائماً على هذه التشبيهات في محاولة لتقريب ما يسعى إليه من دلالة توحي بحريته في البلد المهاجر إليه. هذه الحرية التي يفتقدها في وطنه، غير أن هذا الحلم البسيط سرعان ما يتم إحباطه حين يذهب "سالم" إلى مقر عمله بحقيبة سفره التي حشرها أسفل طاولة الاستقبال الضخمة، ثم تحدث المفاجأة حين ينطلق جهاز الإنذار في المبنى، وبعد ساعات تبث قناة تلفزيونية عالمية أن الحقيبة التي ظنها الناس مفخخة كانت تحتوي على ملابس داخلية وواقيات ذكرية. ويستمر هذا الحس الكوميدي في قصة "قبل أن نسقط في البحر" عندما يخرج السارد وصاحبه الساعة الثالثة صباحاً فيتفاجآن بقطيع من الكلاب مختلفة الألوان، ينبح ويتقافز حول السيارة، وبعد أن يتخلص السارد وصاحبه من الكلاب ويفتحان صندوقي عشاءيهما يفاجآن بأضواء قوية مسلطة عليهما. إنها أضواء عربات الشرطة لأنهما يجلسان في منطقة يكثر فيها تجار المخدرات، وبعد ذهابهما إلى مكان آخر يخرج رجل ملتح قصير من إحدى السيارات ماداً يديه إليهما بكتيبات وأشرطة قائلاً "خذوها، تعلّموا أمور دينكم، بارك الله فيكم"، لكنهما يفقدان توازنهما قبل أن يسقطا في البحر، أي أنهما خرجا من أمواج البشر والكلاب إلى أمواج البحر المتلاطمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتجسد الحس الكوميدي في أننا أمام مواطنين لايستطيعان السير أو الجلوس في مكان آمن لتناول عشاءيهما على الرغم من اتساع المدينة أمامهما، وفي غرقهما الحقيقى بعد هذا الغرق المجازي بين أمواج البشر والكلاب، وهي حال تؤدي أحياناً إلى المرض النفسي، كما في قصة "قصيدة الكورنيش" التي تصور شخصاً يعيش وسط تهيؤاته الخاصة بين الشهيق الذي يتخيل فيه "غباراً ضاغطاً، متفجرات ومخارط وثعابين"، ويزفر متخيلاً "نوارس تحلق حول الشاطىء المتلألئ"، محاولاً خلق صورة إيجابية كما حدد له ذلك الأخصائي النفسي.

الصورة التشبيهية

وتمتاز هذه القصة بما يمكن أن نسميه الصورة التشبيهية الممتدة كما يبدو في قوله "تموج الشارع كثعبان جائع يبحث عن وجبة إفطار بعينين غطاهما قذى الليالي الفائتة"، ويستمر في وصف هذا الثعبان المشبّه به وكأنه هو الطرف المقصود من التشبيه.

وفي قصة "اهتراء" تنتقل الأحداث إلى مكان آخر وتتبدل طبيعة الشخصيات، وهذا من قبيل التنوع الذي أشرت إليه، حيث نجد أنفسنا في حجرة ضيقة تسكنها مجموعة من الصحافيين في أقسام مختلفة: السارد "ناصر" في قسم المحليات و"علي" في القسم السياسي و"حمدان" في القسم الفني، والوحيد الذي ينتمي إلى أيديولوجية محددة هو "علي" الذي يعتنق مبادىء الماركسية اللينينية، ويبشر بثورة جياع، وكثيراً ما يعود للنوم وهو يبكي كفتاة خانها حبيبها. يظل يبكي "غياب العدالة والمساواة والنزاهة والأخلاق في مجتمع رأسمالى أصولي".

أما "حمدان" فكثيراً ما يتحدث عن الفنانين والحانات والسيارات، وهما بذلك يمثلان طرفي نقيض ويعكسان صورة لقاع المجتمع وقمته، بينما يظل "ناصر" غير مدرك دهاليز المحليات وخباياها.

وتنقلنا قصة "غياب" إلى أجواء مغايرة حين تتحدث عن "عائشة" العجوز التي فقدت زوجها، وأغلب الأحداث تتم داخل حافلة استقلتها هذه العجوز في عودتها من أحد المستشفيات، وبهذا فإن الحافلة مكان متحرك كأنه يصل بين عالمين: عالم الأحياء وعالم الموتى.

خصوصية المجتمع العُماني

 وقد بدا من اهتمام السائق بالعجوز أنه يعرفها، وقد تأكد إحساسها بذلك حين سألها عن ابنيها محمد ومياء وعن صحتها وأحوالها الشخصية، وعندما سألته عن قيمة الأجرة المستحقة رفض أخذها مما زاد دهشتها، وتهرب من ذكر اسمه وهو يحرك الحافلة ليذهب تاركاً سلامه لـ "محمد" و "مياء"، وعندما سألت "مياء" أمها عن سر وجومها قالت "إنه أبوك يسلم عليك وعلى أخيك محمد".

لقد أحست كأن هذا السائق هو زوجها الراحل أو بضعة منه، ولهذا يتداخل عنوان القصة مع ذلك الحضور الروحي المهيمن.

أما قصة "الأغنام" فهي تطوف بنا في حكايات كثيرة حول صراعات الرعاة الذين يتركون أغنامهم تعيث فساداً في ضواحي القرى من دون أن تردعهم الغرامات المالية، وذات يوم يتفاجأ السارد بمجموعة كبيرة من الأغنام ترعى في ضاحيته فيظل يبحث عن صاحبها حتى يعرفه والذى أكد أنها مكيدة للإيقاع بينهما، وهي قصة تعكس خصوصية المجتمع العُماني.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة