"عند كل انهيار للحِجَج، يردّ الشاعر برشقِ مستقبلٍ"، كتب الشاعر الفرنسي رينيه شار في أحد نصوص "أوراق هيبنوس" (1946) التي خطّها أثناء الحرب العالمية الثانية. وهذا ما يفعله الفنان التشكيلي اللبناني مارون الحكيم في لوحاته ومنحوتاته، منذ أن انزلق وطنه داخل دائرة العنف الأعمى والظلام الدامس، أي الشهادة على مأساته المزمنة، وفي الوقت نفسه، فتح نافذة أمل في سمائه الملبّدة بالغيوم.
"ضوء من قلب الركام" هو عنوان واحدة من لوحات الفنان المعروضة حالياً في غاليري "آرت أون th56" (بيروت)، ويصلح لأن يكون عنواناً لمعرضه ككُل، لكونه يُشكّل خير تعريفٍ بالمسعى الذي تحكّم بعمله خلال المرحلة الأخيرة من مسيرته الإبداعية الطويلة. مسعى يقوم على استثمار الحكيم موهبته الفنية ومختلف تقنياته التشكيلية والنحتية التي بلورها على مرّ السنين، لبلوغ غايةٍ واحدة: تبشير أبناء وطنه، وأبناء بيروت المنكوبة تحديداً، من داخل الفاجعة، بقيامة ممكنة من تحت أنقاضها، مستعيناً في ذلك بريشته البليغة ونشوة ألوانه الباهرة.
ومن هذا المنطلق، تشكّل أعمال الفنان المعروضة، للمتأمّل فيها، تجربة حسّية فريدة من نوعها. فمن جهة، لدينا لوحات مشهدية تخطف البصر والبصيرة معاً، بجمالياتها الأخاذة وحيوية مفرداتها التشكيلية، خطوطاً وألواناً. ومن جهة أخرى، لدينا لوحات يُسقطنا موضوعها القاتم داخل بيروت بعد الانفجار الذي وقع في مرفأها حديثاً، وحوّل أحياءً كاملة منها إلى ركام، موقعاً آلاف الضحايا بين قتيلٍ وجريح. بيروت التي تشكّل بنكبتها خير استعارة لحال لبنان اليوم، على جميع الأصعدة.
داخل الفاجعة وخارجها
لكن لا تضارُب في تجاوُر هاتين السلسلتين، بل محاولة ناجحة من قبل الفنان لقول الفاجعة وتجاوُزها في آنٍ واحد، وأحياناً بواسطة عناصر تصويرها بالذات. وفي هذا السياق، تخلّف الحركة المتموّجة العمودية للخطوط والأبنية المرسومة في بعض لوحاته المرصودة إلى نكبة بيروت، والتدرّج المتصاعد لألوانها من المعتم إلى النيّر، شعوراً بارتقاء، بقيامة في طور الحدوث، كما في "ضوء من قلب الركام"، و"عندما تتساقط السماء على المدينة"، وخصوصاً في "مدينة تسترجع روحها" و"حرّاس المدينة".
وفي اللوحات التي لا تحضر دخلها هذه الحركة التصاعدية، والتي يكتفي الحكيم فيها بتصوير مأساة بيروت، تؤدّي الألوان دورَين: شحن عملية التمثيل بالانفعالات المؤلمة المختلفة التي اختبرها، وتشاركها مع أبناء وطنه، إثر وقوع المأساة، وتعزيم هذه الانفعالات بسلطتها الجمالية العلاجية، كما في "مدينة الرماد"، و"مدينة ترقد على جمرها، و"ثلج الموت"، وخصوصاً "غريقة الدم" و"البحر الجريح".
وفي معرض وصفه هذه الأعمال، كتب الفنان في مدخل كاتالوغ معرضه: "أركزّ على البعثرة في الأبنية وما تحتويه، على مساحات تضيق وتعتصر ذواتها بألوانٍ كامدة ينخرها تبعثُر فتحات الأبواب والشبابيك والتحطّمات، موحيةً بالخراب والتشظي. لكأن وراء كل ثقب منها عيناً لبشري يشهد على الفجيعة وأهوالها".
وضمن السياق التعزيمي نفسه لهذه الفجيعة ونتائجها، ارتأى الحكيم مقابلة المشهد المديني المدمَّر لبيروت، الذي يحضر بلا مواربة، لكن بلا مباشَرة أيضاً، في لوحاته الأخيرة، بمشاهد فردوسية من طبيعة لبنان رسمها قبل المأساة، كما في "مساحات النور والمدى"، و"غيمة صيف"، و"ملعب الشمس"، و"في مرآة الصيف"، و"حوار بين أرضٍ وسماء". لوحات تفتننا، في عملية تشكيلها ومناخاتها الحارّة الموحية، وبخيمياء ألوانها التي تعزّم بدورها الألم، وترمّم الأمل، كما في "قطاف الزيتون"، وقرميد يساكن الربيع"، و"موسم الحصاد"، و"في أحضان الجبال"، و"بيوت تجاور حقول القمح"، و"جبال تحرس السهول"...
تحولات الفصول
وحول هذه الأعمال، كتبت الشاعرة والناقدة سمر الحكيم في كاتالوغ المعرض: "تحفّز الطبيعة قلب الفنان ويده ضمن اندفاع من الثقة والأمل. تزهر التلال والسهول وحتى الماء، وتتكثّف الانفعالات، داخل مسطّحات لونية صافية تفعّل إيقاع اللوحة. يلجأ مارون الحكيم دائماً إلى أحضان الطبيعة. تشعّ ذاكرته بالرقّة والتواطؤ المتناغم. تُمدِّد الطبيعة المُلهِمة أحلام يقظته وتحوّلها إلى مناظر بليغة تحفظ كل عفوية فعله الخلقي ونضارته".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف: "يتناوب الربيع، الصيف، الخريف والشتاء لإثراء التعبير الفني داخل لغة مكثّفة، بسيطة ومحرِّضة. تلِجُ نظرة المتأمِّل الفضاء الذي يأخذ أبعاد حلم يقظته الحميم أمام عناصر الطبيعة المختزلة بلمسات ماهرة وتعجين مبهِج، غني بتدرّجات لونية حارّة وباردة تتجاور ضمن تضاربات مدهشة أو تناغمات عذبة رقيقة، وتفضي إلى توازن ساحر وبنية معبِّرة بقدرة ما هي أخّاذة".
أما منحوتات الحكيم الحاضرة في المعرض، والتي لجأ لإنجازها إلى مواد حجرية مختلفة، كالرخام الأبيض أو الأسوَد أو الأخضر، والمرمر الشرقي (أونيكس) وحجر الشفق، فتتميّز بسطوح وتضاريس ملساء، وتتراوح بين أعمال تجريدية، كمنحوتيّ "قصيدة" و"حوار"، وأخرى تصويرية لقامات بشرية فردية أو مزدوجة، تحضر بلا ملامح محددة، مثل "عُشق" و"كالشّهد أذوب حناناً" و"العاشقان"، وتتحلى أحياناً بجانب إروسي مثير، مثل "ارتعاشات مولِّدة"، و"سيمفونية الأنثى والطير"، و"أقطف رغبتي"، وتلال العسل".
وسواء في عمله بالإزميل على الحجر أو في لمسات ريشته على القماش أو الورق، يُثبِت الفنان عن مهارات تقنية تمنح أعماله المعروضة كل فتنتها وقيمتها التشكيلية.