Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 المعلم ماتيس والرسام هوكني يلتقيان في معرض مشترك

اللقاء المثير يبيّن ما حفظه البريطاني الأشهر من أمثولات العبقري الفرنسي

مشهد من المعرض المشترك بين ماتيس وهوكني (الخدمة الإعلامية)

ضمن إطار برنامجه الجديد الذي يطمح إلى التأمل في عبقرية الرسام الفرنسي هنري ماتيس (1869 ــ 1954) عبر تتبّع آثارها داخل عمل رسامين معاصرين له أو أتوا بعده، يقترح حالياً المتحف الذي يحمل اسمه في مدينة نيس الفرنسية حواراً مثيراً بينه وبين أشهر رسام بريطاني حيّ، دايفيد هوكني. حوار عن طريق مختارات واسعة من لوحات كل منهما، تبيّن مدى تأثّر هوكني بأمثولات ماتيس ومكامن هذه التأثيرات داخل عمله.

وفعلاً، تُظهِر المقابلة المقترَحة بين أعمال هذين الرسامَين أصداءً مدهشة تستحضر هواجس وعوالم وموضوعات مشتركة بينهما، لا سيما تلك الاستمرارية الملموسة بين فضاء المرسَم وأشيائه، كإطار ذهني للإبداع، وخارجه، أي المناظر المرسومة التي تقرّب مدينة نيس، حيث عاش ماتيس، من مدينة لوس أنجلس، حيث يعيش هوكني منذ 1967، من طريق موضوعات المسبَح والنافذة والحديقة الغَضِرة.

وبالنتيجة، يستنتج زوار المعرض، من صالة إلى صالة، أن عمل هوكني لا يبتعد إطلاقاً عن عمل ماتيس، سواء في رسومه ذات الخطوط المصفّاة، أو في مَشاهده المسكونة بالحركة وجسد الفنان، أو في طبيعة علاقته بالموديل، وعموماً، في عزمه على معانقة الواقع، ونظرته المتطلّبة التي تتأمل في فعل الإدراك الحسّي وتستكشف مختلف إمكانياته، وشغفه بالألوان كركيزة لاستعادة فردوس ضائع وتجسيده.

ومثل كل الرسامين الكبار، مارس هوكني فعل الرسم بشكل استحواذي. وحول هذه النقطة، يقول: "كانت دائماً حقب أنجزتُ فيها بولع رسوماً أكاديمية، ولا أظن أنني سأتغيّر. إنه تمرين ضروري لمن يمارس الرسم. مهما كان ما نريد تمثيله، علينا أن نمرّ به. إنه مثل تمرين على كيفية النظر إلى الأشياء وتفحّصها". ويتابع قوله بالإشارة إلى الرسوم المفصّلة التي كان ماتيس ينجزها بقلم الفحم "بغية اكتشاف موضوعه من خلالها".

موضوعات وتنويعات

وفعلاً، أصدر ماتيس خلال الحرب العالمية الثانية ألبوماً من الرسوم المستنسخة بعنوان "رسوم: موضوعات وتنويعات" يتجلى فيه منهج عمله. هنالك أولاً الرسم الدراسي بالفحم، وهو رسم واعٍ ومدروس لشحذ نظرته، تتراكم فيه المحاولات المتتالية على الورقة نفسها. بعد ذلك، وإثر حفظ الموديل أو الشيء المرسوم عن ظهر قلب، يأتي الرسم "المُلهَم"، بحسب وصفه. رسمٌ بخطّ واحد ومستمرّ، لا تعديل فيه أو عودة إلى الوراء، منفَّذ وفقاً لاندفاع داخلي. وحول هذه الممارسة، صرّح مرةً: "حين أنجز هذه الرسوم، يشبه المسارُ الذي يسلكه قلمي على الورقة حركةَ رجلٍ يبحث عن طريقه داخل العتمة. ما أعنيه هو أن لا تخطيط مسبق يتحكّم بِسَيري، فأنا لا أقود، بل أُقتاد".

ويتقاطع هذا التصريح مع ما قاله هوكني في حوار عام 1973: "يحصل أن أدخل في حالة انخطاف مثل ماتيس حين كان يرسم". وفي سلسلة رسومه المطبوعة "سيليا وآن" (1979 ــ 1980)، طوّر مفردات تشكيلية استوحاها من ماتيس، وأيضاً من فان غوخ. أعمال استبدل فيها الرسم الجاف الذي ميّز إنتاج السنوات السابقة برسم تحيي خطوطه المتنوعة، بمفاعيلها واتجاهاتها، فضاء الورقة وتمنحها كل طابعها النيِّر. ومثل ماتيس، تقرّب من موديله، لا سيما عبر الطريقة التي أسقط فيها وجه الموديل وقامته داخل الفضاء المذكور.

ودائماً مثل ماتيس، شغف هوكني في تمثيل الأشياء التي تحيط به وتشكّل بيئته المألوفة. أشياء قليلة الأهمية في حد ذاتها، لكنها تحضر كركيزة لإطلاق أحلام يقظة داخله، وتغذية خياله، وتثبيته في مركز هذا العالم الذي يعي أنه إسقاط ذهني. وفي هذا السياق، يظهر المرسَم كموضوع في عمله منذ الثمانينيات، حين سجّل قطيعة مع الأسلوب الطبيعي الموضوعي وذهب في اتجاه تجربة حسّية تميل إلى إدراج جسده الخاص داخل الفضاء الذهني لعملية التمثيل. وعلى هذا الصعيد، شكّل المرسم المكان المثالي له، لكونه مصدر أحاسيس لا تحصى. من هنا تلك الوحدة التي تنامت على مرّ السنين بينه وبين إطار عمله.

الكرسي المشترك

ومن بين الأشياء البسيطة التي ثمّنها الرسامان على حد سواء، لدينا الكرسي. ففي لوحة ماتيس "الكرسي المزخرف" (1946)، الحاضرة في المعرض، لا يلفت الكرسي المرسوم انتباهنا فقط بمظهره الواقعي الذي يمنح اللوحة جانبها الزخرفي (rococo)، بل أيضاً بحجمه وقوة حضوره. إذ يظهر جليلاً، كشخصية مغناطيسية حيّة. وبذلك، يستحضر لوحة ماتيس الأخرى، "القروي الجالس" (1912) التي استوحاها من شخصيات القديسين في الأيقونات البيزنطية.

في المقابل، يبدو الكرسي في عمل هوكني أقل قدسية، ولكن ذاتياً بالقدر نفسه، نظراً إلى إيحائه بحضور بشري، وإن بقي خفياً. وفي هذا السياق، يظهر في بعض لوحاته كشخصية تأخذ أحياناً مظهراً غريباً مضحكاً. وفي لوحات أخرى كركيزة لتشييد الفضاء بطريقة غير معهودة، وفقاً لمنظور مقلوب. ظهورٌ يعزز وقعَه وقرابته من المتأمل فيه، حتى يبدو وكأنه يرغب في الخروج من فضاء اللوحة للتفاعل معنا، كما في "كرسي مكتب" (1988) التي نرى فيها كرسياً على عجلات، مبتذلاً، تمكن هوكني من جعله شديد الحضور عبر إضفاء عليه طابعاً مألوفاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن قيمة المقابلة التي يجريها المعرض بين الرسامَين تتجلى خصوصاً لدى مشاهدة سلسلة الزهور الأخيرة التي رسمها هوكني على جهاز الـ "آيباد" (iPad)، في جوار نماذج من اللوحات التي رصدها ماتيس للموضوع نفسه، مثل "فضاء داخلي مع سرخسٍ أسود" (1948) أو "زنبق ومحار على خلفية سوداء" (1943)، كي لا نذكر غيرهما. أعمال تبيّن استكشاف الفنانَين بالطريقة نفسها قدرة الزهور على إحياء الفضاء الذي تحضر فيه، والأشياء التي تسكنه، وهندسته، وعلاقته بالفضاء الداخلي أو الخارجي، وفقاً إلى مكان حضورها، وبالنتيجة، على توفيرها للفنان، برسمه إياها، فرصةً فريدة لإدراك الواقع ككلّ.

يبقى أن نشير إلى أن هوكني لم يكتف بمشاهدة من بعيد عملية تحضير هذا المعرض المهم، بل شارك شخصياً في تصوّر مشروعه وطريقة إنجازه، فحضر إلى متحف ماتيس وتأمل ملياً في الأعمال الحاضرة فيه، قبل أن يفتح لأمينته، كلودين غرامون، أبواب مجموعته الخاصة ومرسمه، ويرضخ للعبة المقابلات العديدة التي أجرتها معه بغية تشييد هذا الحوار المدهش بين عمله وعمل ماتيس. وهو ما يمنح المعرض قيمة إضافية أكيدة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة