Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجوهر السياسي وهموم البحث عن العدالة في "ثلاثية أوريستيا" لإسخيلوس

يوم كان في الإمكان سبر أغوار الشؤون العامة في ثنايا المسرح الإغريقي

من تقديم معاصر للثلاثية (موقع المسرحية)

حتى وإن كان الباحثون والمؤرخون قد أضفوا على مجمل نتاجات المسرح الإغريقي، سواء أكان تراجيديا أو كوميديا، معاني سياسية وفكرية تجعله رديفاً للفكر الفلسفي اليوناني في خلق ما سيسمى لاحقاً "المعجزة اليونانية"، فإن هناك عملاً مسرحياً يمكن التوقف عنده بشكل محدد هو "الأوريستيا" كما كتبها بخاصة يوريبيدس وإسخيلوس، ولا سيما هذا الأخير من خلال تلك الثلاثية التي دائماً ما أثارت اهتمام الباحثين في التاريخ السياسي للمسرح الإغريقي، إلى درجة أن مؤلفي الكتاب المرجعي الضخم عن "الفكر السياسي عند اليونان والرومان" تحت إشراف كريستوفر روي ومالكولم سكوفيلد، ضمن سلسلة جامعة كامبريدج عن التاريخ، قد أفردوا له فصولاً عديدة، ليس بخاصة بوصفه عملاً فنيا، بل بوصفه سجلاً موثوقاً لمرحلة معينة من تاريخ الفكر والممارسة السياسيين لدى الإغريق. ولكونه قادراً بأكثر مما تفعل كتابات فلسفية أو سياسية أو حتى تاريخية أخرى، على وضع القارئ في مجابهة مباشرة مع الفكر السياسي لتلك المنطقة من العالم وعلى تفسير جزء من الجانب العقلاني لتلك المعجزة التي أشرنا إليها. ونعرف طبعاً أن يوريبيدس وإسخيلوس لم يكونا الوحيدين اللذين اشتغلا على ذلك الموضوع، لكن عمليهما كانا، ولا يزالان، الأكثر ارتباطاً بحركة الفكر السياسي بقدر ارتباطهما بالمجد الذي طبع المسرح الإغريقي.

العائد من الحرب

والحال أن الباحثين، وكما يفعل كتاب الصفحات التي أشرنا إليها في موسوعة كامبريدج التاريخية، حتى وإن وازنّا بين نتاج الكاتبين الإغريقيين بالنسبة إلى معالجة "أوريستيا" فإنهم خصوا عمل إسخيلوس بالقدر الأكبر من الاهتمام، وربما لكون ثلاثيته كانت العمل الوحيد الذي وصل إلينا كاملاً عبر التاريخ ولم يكف عن مداعبة خيال الباحثين لكماله، وكذلك لبهائه. وليس فقط لتوغله في الكشف عن دلالاته السياسية. ولنشر منذ البداية أن هذه الثلاثية التي كانت آخر ما قدم للكاتب قبل موته في أثينا وأول عمل تراجيدي يفوز بجائزتها الكبرى، تتألف من ثلاثة أقسام يحدث كثيراً أن يقدم كل قسم منها على حدة كما جرت العادة بالنسبة إلى عديد من الثلاثيات المسرحية التي انتشرت في ذلك الزمن. وتحمل الأجزاء الثلاثة العناوين التالية تباعاً: "آغاممنون" و"حاملات القرابين" و"الصافحات"، ومن الطبيعي القول هنا أن هذا التقسيم الثلاثي لا وجود له في العمل نفسه الذي قدمه يوريبيدس بعد سنوات من كتابة إسخيلوس ثلاثيته، وكذلك القول إن ثمة فروقاً عديدة وتاريخية حتى بين العملين. ومن هنا سنكتفي بالحديث عن "أورستيا" إسخيلوس التي ظلت لها على الدوام أهمية سياسية على حدة.

قبل هاملت بزمن طويل

بدأ إسخيلوس كتابة ثلاثيته عام 458 قبل الميلاد – وهو أتم المسرحية بأقسامها كلها في العام نفسه على أية حال - بالقسم الأول "آغاممنون" الذي ينطلق فيه بمشهد يمكنه أن يكون البنية الدرامية المدهشة التي سيبني عليها شكسبير بعد ذلك بما يقرب من ألفي عام، المشهد الافتتاحي في تحفته الخالدة "هاملت". فهنا أيضاً وقبل دخولنا عالم الأحداث التاريخية، لدينا حارس على سطح قصر ملكي منيف يترقب أخباراً من المتوقع وصولها من حرب طروادة، وتدور من حول عودة مأمولة للملك آغاممنون الذي ذهب هناك لخوض الحرب. ولدينا في داخل القصر امرأة رهيبة هي الملكة كليتمنسترا التي تتآمر مع عشيقها إيغستوس للقضاء على زوجها آغاممنون إن عاد حقاً حياً من الحرب، وهي الآن في منتهى التشوق في انتظار إشارة من الحرس، وذلك ضمن إطار معرفتها ومعرفتنا باللعنة الأبدية التي تحل عادة على آل آتريوس الذين تغرق سلالتهم في الدماء والخيانات والنهايات الفجائعية. ونحن نعرف أيضاً أن آغاممنون كان قد وضع قيد التضحية كقربان للنجاة من ذلك المصير، ابنته إيفجينيا، لكن زيوس لم يرضَ عن ذلك. إنه يريد من الملك أن يذعن لمصير يتطابق مع الآلام الدامية التي وعدت بها سلالته. وهكذا فيما يكون آغاممنون داخلاً إلى قصره بعد عودته ماشياً بكل خيلاء و... اطمئنان فوق السجادة الحمراء، ها هو يقتل بفعل تآمر امرأته عليه، بالتالي بات من الحتمي الآن، وقد استردت اللعنة دورانها أن تقتل كليمننسترا بدورها.

التصاق بالسياسة

وسيكون قتل الملكة على يد ابنها أوريست، ولكن بعد زمن من أحداث القسم الأول الذي يفوق زمن عرضه زمني عرض القسم الثاني والقسم الثالث مجتمعين. فأوريست الذي سيتبين له على الرغم من وعد أبولون له بالحماية، أنه مدموغ باللعنة نفسها التي دمغت بها الأقدار سلالته كلها، سينتقم لأبيه بالفعل بعد أن يبلغ الثامنة عشرة، وهو الذي كان طفلاً يوم قتل الأب، وها هو اليوم بعد أن قام بحصته من اللعنة متكلا على وعد آبولون بتخليصه من اللعنة، يجد نفسه ملاحقاً من قبل "الغاضبات" اللاتي ينتمين إلى طائفة قديمة، بل أقدم من زيوس وتقوم مهمتهن في الثأر لكل جريمة ترتكب في حق أم من الأمهات. ومن هنا يلاحقن أورست الذي يلتجئ إلى ضريح يخص آبولون في معبد دلفى. وبوصول أورست إلى داخل المعبد يتوقف القسم الثاني من المسرحية تاركاً المجال في القسم الثالث لمحاكمة أوريست المضطر الآن إلى مواجهة الغاضبات. ومن هنا ينطلق القسم من داخل معبد دلفى، ولكن مع ملاحظة أن الأحداث التالية تشير إلى أن المكان بات الآن أثينا نفسها، وأن الموضوع يتعلق بالصفح، أي بتدخل الآلهة في السياسات العامة لطبع المحاكمة نفسها بطابع سياسي هو الذي يمكننا القول إنه أعطى للثلاثية كلها تلك المسحة السياسية، بل حتى القانونية العميقة التي جعلتها، وعلى الأقل بالنسبة إلى كاتبي الفصل الخاص بها في موسوعة كامبردج التاريخية التي أشرنا إليها، واحدة من أكثر نتاجات المسرح اليوناني التصاقاً بالسياسة. وتحديداً بالسياسة المدنية المتعلقة بقضايا الحكم والمواطنة والقانون. والحال أننا هنا نجدنا جد بعيدين عن البدايات "الأسطورية" أو لنقل "الهوميرية" – نسبة إلى هوميروس الذي انبنت الثلاثية أصلاً منطلقة من ملحمتيه الطرواديتين - للعمل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

البحث عن أسئلة

فبالنسبة إلى مؤرخي الفكر السياسي اليوناني ليست "الأوريستيا" فقط العمل الدرامي الذي ترك أكبر الأثر في التراجيديا الإغريقية اللاحقة، وإنما هي كذلك "النص الذي أثبت أكثر من أي نص آخر محوريته في الجدال الدائر حول القوة السياسية للتراجيديا من منطلق بؤر اهتماماتها الموضوعية، وكذلك لارتباطها بالسياسة المعاصرة" ومن هنا إذا كان ثمة من ينكر على هذه المسرحية، عن صواب إلى حد ما "أنها عمل من أعمال النظرية السياسية" على اعتبار أن إسخيلوس "ليس معنياً بتقديم عمل تحليلي جدالي يتعلق بمفهوم العدالة على النمط الذي قدمه أفلاطون في كتابه "الجمهورية" مع أن ثمة لدى كاتبنا المسرحي تركيزاً على أفكار تتعلق بموضوعات سياسية، فإن ثمة في مقابل الذين يرون هذا الرأي، من يرى أن لإسخيلوس ريادة مؤكدة في مجال البحث عن أسئلة سياسية للوصول إلى أجوبة محتملة عليها معتبرين إياها "أموراً رمزية غير مباشرة وضمنية تلميحية، مستنتجين أنها قد لا تبلغ مستوى التحليل ولا الطرح السجالي. ومع ذلك فإن "عملية الانتقال والتحول إلى الديمقراطية في إيتاكا لم يتم أبداً إدراكها بمثل هذا الوضوح الذي نتلمسه عند إسخيلوس. لقد كانت الأوريستيا، بالتالي نقطة تحول أساسية في تاريخ الفكر السياسي" ما ينتج عنه أن "المحتوى السياسي الحقيقي لهذه التراجيديا، ينتمي إلى منطقة من الفكر السياسي تسمو كثيراً على التجمعات الحزبية المؤقتة". واستطراداً، بات من المحتم اعتبار المسرحي معلماً في مجال السياسة "لكنه معلم لا يقوم بحل المشكلات بقدر ما يعمق فهمنا لها". وهكذا يصار في النهاية إلى الاستنتاج بأن القضية لا تكمن هنا في ما إذا كانت "الأورستية" (واستطراداً التراجيديا اليونانية بصورة عامة) معنية بأمور السياسة بقدر ما يمكن لنا أن نتوقع منها أن تحتوي على مزيج من فكر تنظيري و"فكر سياسي متماسك".

7 تحف لعمر بأكمله

ويبقى أن إيسخيلوس الذي عاش بين عام 525 و456 قبل الميلاد يعتبر الأب الشرعي الكبير للمسرح التراجيدي الإغريقي بعمل دؤوب تواصل نحو أربعين عاماً مكنه كما أشرنا من أن يفوز، وتحديداً عبر ثلاثية "الأوريستيا" بأول جائزة مسرحية كبرى منحت في أثينا. ومع ذلك لم يبقَ لنا من مؤلفات إسخيلوس سوى سبع مسرحيات، أي أربعة أخرى غير تلك التي تتألف منه المسرحية التي نحن في صددها، وهي "الفرس" و"السبعة ضد طيبا" و"المتضرعات" و"بروميثيوس مقيداً".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة