Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أضواء جديدة على تاريخ البشرية قبل التدوين في موسوعة "أبناء برومثيوس"

مراحل كبرى اجتازتها الحياة الإنسانية من المهارات البدائية إلى القفزة الحداثية

من تخطيطات الإنسان البدائي في كهوف لاسكو الفرنسية (صفحة لاسكو - فيسبوك)

هل يمكن القول إن البشرية هي الكائن الأكثر غموضاً ومدعاة للدرس والتقصي؟ وهل تاريخ البشرية الذي سبق لآلاف، بل لعشرات الآلاف وأكثر من الباحثين والمؤرخين والكتاب والأدباء وغيرهم، أن جربوا الخوض فيه، قد انتهوا إلى معارف نهائية حوله، أو خلصوا إلى عناوين ومثالات يمكن للبشرية، في المستقبل القريب والبعيد، العمل بها من أجل أن تتجنب الويلات والفجائع الكبرى التي حلت بنظيراتها السابقة، لو أنها ثابرت على المنوال الاحترابي السالف، وبأدوات أعظم فتكاً وأشمل تدميراً بما لا يقاس، والآيل بها إلى دمار الجنس البشري، وولادة بقايا لجماعات بشرية مجهولة المصير؟

 ولو شئنا تعداد السلاسل الكتابية المعدة لمعرفة التاريخ البشري، من كتب يوفال نوا هاراري، وديفيد غرايبر، وتالاندييه، إلى السلسلة الصادرة من اليونسكو، وجامعة لافال، وديفيد وايغرو وغيرها كثير، لما أمكننا إحصاؤها والوقوف عند مضامينها.

وفي السياق عينه، صدر حديثاً، كتاب جديد لمؤرخ وعالم آثار ألماني، يدعى هيرمان بارتزينغر (1959) بعنوان "أبناء بروميثيوس، تاريخ البشرية قبل اختراع الكتابة"، نقله إلى العربية إلياس حاجوج، وتولت دار كلمة التابعة لمركز أبوظبي للغة العربية طبعه ونشره.

موسوعة مختزلة لتاريخ طويل

ينطوي الكتاب، المعد موسوعة مختزلة للغاية، على خمسة أقسام، تحاكي المراحل الكبرى التي اجتازتها البشرية، مدعماً بخلاصات 546 مرجعاً علمياً تغطي مجمل محاور الموسوعة البحثية، من مثل الدراسات التي تتناول تطور الدماغ البشري وتبعاته الثقافية، والقفزة الكبيرة التي أحدثتها البشرية باتجاه الحداثة الثقافية، والتحول من النزاع العسكري إلى نشوء المدينة المبكرة في الشرق الأوسط، وغيرها من المحاور.  

إن أول ما يحسن بنا البدء بالكلام على الكتاب ومحتوياته، هو الإشكالية التي يعرض لها الكاتب في مقدمته ومفادها أنه لو صح اعتبار تاريخ البشرية يبدأ مع ظهور الكتابة من دون غيرها، لعد ذلك ظلماً وابتساراً، ذلك أن تاريخ البشرية، بحسبه، الذي استغرق ما لا يقل عن سبعة ملايين عام، إن هو إلا مراحل كانت البشرية تخطوها، وتسجل فيها تقدماً نوعياً تلو آخر، تقربها من النموذج الأكمل الذي صارت إليه قبيل حصول الكتابة، وكانت تكتسب في خلالها مهارات ثقافية عليا، مثل هندسة المنازل وتوفير الغذاء والأعمال الزراعية، وعبادة الآلهة، والنقش والرسوم، وتوليف الرموز والأشكال، وجعلها مادة للتداول في ما بين شعب بذاته، وربما تكوين لغة منطوقة لم يتوفر لها إمكان التشكل في حروف ولغة تامة بعد.

في المرحلة الأولى التي يسميها الكاتب "تطور الدماغ البشري وتبعاته الثقافية"، وفيه يعرض لأهم النظريات والمكتشفات الأثرية الحديثة التي دلت على أن تكوين الجمجمة البشرية لدى الإنسان مر بدوره بمراحل، فمن الإنسان الماهر (بالصيد، وتقطيع الطرائد)، إلى الإنسان المنتصب، اجتازت البشرية عدة ملايين من السنين، أمكن في خلالها الإنسان من تطوير مهاراته، التي أشرنا إليها، وابتكر لنفسه أدوات مستخرجة من المواد الخشبية تكفل له الدفاع عن نفسه، وتحسين نوعية حياته، وسكنه، وغذائه، بالتالي فقد انعكس كل ذلك على تكوينه البيولوجي، وباتت جمجمته في صورتها الأخيرة أقرب نسبياً من صورتها إبان تحوله إلى "الإنسان المفكر"، وهي الحقبة التي انتهت إليها البشرية.

أحدث النتائج

إذاً، يروي الكاتب بارتزينغر، مستنداً إلى أحدث الدراسات والخلاصات البحثية في الأنثروبولوجيا، وعلم الآثار، والتاريخ، وعلم التشريح، وغيرها، كيف كانت التغيرات المناخية القاسية عاملاً حاسماً في توسع الجماعات البشرية، ولا سيما الإنسان المنتصب، نحو أوروبا والصين، وكيف أن الإنسان النياندرتالي، الشكل الأبرز في حقبة الإنسان المنتصب، لثلاثمئة ألف عام (300000) خلت، أمكنه التأقلم مع مناخات العصر الجليدي، وأمكنه بناء أول المساكن الشبيهة بالأكواخ، وحياكة الملابس الجلدية البسيطة، إضافة إلى تمكنه من صنع أدوات لصيد الطرائد من الثدييات الصغيرة والفيلة والماموث، والطيور وغيرها.

فضلاً عن ذلك، فقد كشفت الرسوم العائدة إلى الإنسان النياندرتالي، ولا سيما في كهف بيش دو لازي، جنوب فرنسا، أن ذلك الإنسان عرف استخدام الأصبغة، ورسم بها الحيوانات التي اصطادها أو عاينها في محيط عيشه. ولم يكن مستغرباً، بنظر الكاتب والباحث بارتزينغر، أن يبلغ ذلك الإنسان درجة من التفكير في مسائل مجردة، كمعضلة الحياة والموت، وأن يتكلم وينشئ أنظمة من الرموز خاصة به، لا تزال مجهولة إلى حينه. والحال هذه، لم يكن مستغرباً أن يبدأ ببناء المدافن المستقلة، بعد أن كانت قائمة تحت المساكن، وأن ينسب إلى الموتى صفات فائقة.

أما المرحلة الثانية، التي تمثلت بقفزة الإنسان الكبيرة إلى الحداثة الثقافية، فقد شهدت نشأة الإنسان العاقل أو الإنسان الحديث، وانتقاله من أفريقيا، من 195000 سنة تقريباً، وانتشاره لاحقاً في محيط الشرق الأوسط وامتداداً إلى آسيا. ومما لا شك فيه أن هذه المرحلة كانت خصبة للغاية من الناحية الثقافية والاجتماعية، إذ شهدت بروز النقوش والتماثيل التي تجسد وعي الإنسان للجنس، وللقوة، والأشكال الهندسية. وقد حفلت الرسوم المتروكة في المغاور (لاسكو، مثلاً) بالرسوم الملونة لأكثر الحيوانات حضوراً في حياة راسميها، كما شهدت ظهور الفنون، في مدى زمني يقرب من 30000 سنة، وتؤيد ذلك اكتشافات حديثة لناي مصنوع من عظام الحيوانات ومن الخشب المجوف لاحقاً.

المدينة المبكرة

وفي المقابل، تعتبر المرحلة الثالثة، التي عنونها الكاتب "من المعسكر إلى المدينة المبكرة في الشرق الأوسط"، والتي تمتد من الألف العاشر قبل الميلاد إلى ما قبل الحضارة المصرية، حاسمة في إحداث تحولات فارقة في حياة الشعوب، وبروز الحضارات في حوض الشرق المتوسط، إذ يربط الكاتب، وبناء على دراسات في المكان، بين حدوث انقلابات مناخية متمثلة في فيض من الأمطار متواصل وحال من الرطوبة عالية، ونشأة فكرة المدينة المجاورة للنهر، أو لمصدر مياه لا ينضب، وتوطيد أركانها، سواء في الهلال الخصيب ذي الطابع الزراعي الطاغي، وفي مستوطنات الأناضول، أو في وادي النيل. وهذا ما أدى، برأيه، إلى نشوء الحضارات في كل من هذه المواقع، ما يعني أن أشكالاً من التعابير الفكرية والفنية وعبادات ومعتقدات خاصة بكل من هذه الحضارات رأت النور، إلى جانب بروز مواد للتكوين والتشكيل مثل الفخار تصنع به الرقم والتماثيل وأدوات الزينة، وأدوات الطعام، والتذكارات وغيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أن المرحلتين الباقيتين، وهما على التوالي بعنوانين: وادي النيل قبل الحضارة المصرية القديمة، والتطورات المعوقة جنوب الصحراء، كانتا مقدمتين تأسيسيتين لبروز الحضارة المصرية القديمة، على أربعة أركان كبرى: الزراعة وتنميتها والعناية بمحاصيلها وحفظها، والعناية بالصيد البحري وتحسين وسائله، والعبادات وما يتصل بها ومن يضع لها تراتبيات وشعائر وطقوساً، وحكم قادر على إدارة شؤون المستوطنين وسكان المدن والأرياف على السواء.

مما لا شك فيه أن القارئ المتنبه سيدرك في نهاية المطاف أن الشعوب والحضارات الإنسانية الذاهبة في أصالتها وتاريخها العريق لعشرات آلاف السنوات كانت حقاً تملك من الأنظمة الرمزية ومن الكلام (الشفوي) ما يتيح لها التواصل في ما بين أفرادها، وما كان ينقصها سوى ألفين أو أقل من السنوات ليستخلص مفكروها لغات من كلامهم المتداول.

لكن في الكتاب ما لا يمكن إحصاؤه من المعارف عن شعوب وسكان وحضارات، عاشت، وخبرت، وصادت، وابتكرت، وانتظرت طويلاً حتى بلغ الإنسان فيها نضجه الأخير، فهلا نستزيد منه؟

المزيد من كتب