Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بحثاً عن حال إنسان ما بعد الآلة: هل ينصفه العلم؟

الاختراعات الحديثة يجب ألا تمس الحياة البشرية... والأدب والفكر في وجه الروبوتية

الفنان مايك أغليولو يبدل لوحة دافينتشي المعروفة (صفحة الفنان على فيسبوك)

قد يكون فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن العام (1936) من الإشارات الفنية الكبرى الدالة على وعي البشرية الأزمة التي خلفتها الثورة الصناعية في أميركا والعالم، وانعكاسها الكارثي على العمال وسائر المرافق الاجتماعية الفاعلة. والحال أن تنامي الصناعة المهول أوائل القرن الـ 21 واعتماد الإنسانية المتزايد على التقنيات والأنظمة الآلية في مقابل تضاؤل دور الكائن البشري في مجالات كثيرة، دفعت بالعديد من المفكرين إلى التساؤل عن مصير الإنسان بعد اكتشافه الآلة، وحتى ليمكن الكلام، بحسب ما أوردته الباحثة الإيطالية روزي بريدوتي في كتابها "ما بعد الإنسان" على مصطلحات واصفة من مثل "لا- إنساني" و "ما بعد إنساني" وغيرهما من التعريفات التي تبين واحداً من الأبعاد أو المجالات التي يختص بها علم الروبوتات وتكنولوجيا الأعضاء الصناعية وعلم الأعصاب والهندسة الوراثية وغيرها.

ولكن الحلم بالآلة المسيرة ذاتياً، بل الكائن الشبيه بالإنسان وليس مولوداً منه، كان حلماً قديماً للغاية ويمتد إلى زمن ما قبل المسيح، لما ابتدع اليونانيون أساطير عن كائنات شبيهة بالإنسان صنعها الأخير أو تخيلها وجعل لها حضوراً في سياق فني وجمالي وأدبي معين، شأن النحات اليوناني الشهير بيغماليون وحكاية نحته امرأة غاية في الجمال أحبها حباً عارماً دفعه إلى الاقتران بها بحضور الآلهة وإنجاب ولدين منها.

ثم كانت أسطورة بروميثيوس اليونانية وحكاية الكائن سارق النار المقدسة وواهبها للبشر، وما رتبه ذلك من حكم الإله زيوس عليه بالانفراد على جبال القوقاز والتهام النسور كبده نهاراً ومعافاته ليلاً.

رجل آلي قديم

وظلت البشرية تحلم بأن يصير للإنسان عديل آلي من صنعه حتى القرن الـ 16 لما ابتدع الكاتب الصيني لاو تشي حكاية رجل حرفي وماهر في التقانة، كان قادراً على صنع رجل آلي يغني ويرقص في حضرة الملك، وإذ رآه الأخير دهش من الفروق غير الظاهرة بين الرجل الآلي وصاحبه. والجدير ذكره هنا هو أن كتاب يانشي يعد كتاباً كلاسيكياً في باب الحكمة الطاوية التي كان لاو تشي رائداً فيها.

ثم كان للإنسانية موعد آخر مع تنامي هذا الحلم في القرن الـ 18 بالغرب الذي كان حافلاً باختراع الآلات المسيرة ذاتياً والتي أثارت أخبارها الرعب في نفوس الناس، وزادت فئة العلماء منهم حافزاً للابتكار بغية استثمارها في الحركة الصناعية التي شهدت اندفاعتها الكبرى أواخر ذلك القرن. وكان من تلك الروبوتات كنار حديدي قادر على الأكل وهضمه، ولاعب آلي للشطرنج كان الكاتب إدغار ألن بو قد استلهم منه إحدى قصصه، والروبوت القادر على كتابة نص كامل.

ولا يخفى أن هذه الآلات المسيرة ذاتياً أو ميكانيكياً لطالما أثارت كثيراً من الرعدة في نفوس العامة، بمثل ما فتنتهم الاختراعات الحديثة التي توالت فصولاً على امتداد القرن الـ 19 بالتوازي مع تنامي الثورة الصناعية في الغرب، ومنه إلى العالم كله، حتى كان العام 1886 حين شهد ولادة رواية الكاتب الفرنسي أوغوست دوفيلييه بعنوان "حواء المستقبل"، وفيها يروي كيف أن مهندساً يدعى إديسون أمكن له أن يخترع إنساناً آليا جعله امرأة وصورها على أنها نظير حواء مولودة من ضلع الرجل، ولما كانت هذه المرأة الآلية جميلة للغاية فقد وقع في غرامها، غير أنها لطبيعتها المصنوعة لم تبادله مشاعر الحب، إذ لم يكن لها قلب. ولئن كانت هذه الرواية تعالج ثيمة الحب المستحيل، فإنها طرحت من جديد مسألة إمكان خلق إنسان آلي يكون في خدمة الإنسان، صانعه، ولا يتمرد عليه.

شروط روبوتية

من هذه النقطة سوف ينطلق إسحاق عظيموف، الكاتب الروسي - الأميركي (1920-1992) الذي يعد عن جدارة أباً للأدب الروبوتي، إذ له ما يقارب الـ 500 كتاب بين رواية ومجموعة قصصية وروايات للفتيان. وإن كان عظيموف قد استبق بتصوراته وخياله العلمي بعض التطورات التكنولوجية والصناعية المتقدمة الحاصلة فعلياً ما بين الأربعينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فإن له الفضل الأكبر في وضع خطوط حمراء للإنسان الآلي (الروبوت) ينبغي له ألا يتخطاها، وقد اختصرها في ثلاثة قوانين هي:

  أولاً لا يجوز لأي روبوت أن يصيب أي كائن بشري بأذى أو أن يعرض الكائن البشري للأذى.

ثانياً يتعين على أي روبوت أن يخضع للأوامر المعطاة له من قبل الكائن البشري إلا في حال كانت هذه الأوامر تتنافى مع القانون الأول.

ثالثاً ينبغي لأي روبوت أن يدافع عن ذاته ما دام دفاعه لا يتعارض مع القانونين الأول والثاني.

بالطبع، لن يكون للشخص الآلي أو الروبوت ذلك الكيان العقلاني والعاطفي والجسماني المستقل تماماً عن صانعه الإنسان، على ما تخيله عظيموف، إلا أن ابتكار مجالات وصور ووظائف للروبوت في ما يتجاوز الأرض إلى ارتياد الفضاء واستيطان كواكب بعيدة من الكرة الأرضية إنما كان لحدسٍ منه لا يخطئ في أن للروبوت دوراً متعاظماً في مسار البشرية العلمي وفي سعيها الدؤوب إلى أن "تتسلط على الأرض"(سفر التكوين 8/22-9/14)، وعلى غيرها من الكواكب.

الروبوت غير البشري

اليوم وقد شارفت البشرية على العقد الثالث من القرن الـ 21، لا يسع المواطن النابه أن يلاحظ اتساع نطاق الروبوت غير البشري (غير الشبيه بالبشر) سواء في الصناعات الثقيلة والخفيفة والمعقدة وفي المفاعلات النووية ذات الأخطار العالية على كل العاملين فيها، بحيث تقدر أثمان الروبوتات هذه في أوروبا وأميركا والصين بحوالى 21 مليار دولار في العام 2011، كما بات الاعتماد على الروبوت في عمليات الطب المتناهية الدقة و صناعة اللقاحات والاختبارات، واقعاً يستحيل التراجع عنه، لا سيما في ظل التحديات التي عصفت بالبشرية وما زالت، من خلال جائحة كورونا الأخيرة ومتحوراتها، وما نجم عنها من وفاة أربعة ملايين شخص حول العالم، بحسب منظمة الصحة العالمية.

ولكن الإفراط في استخدام الروبوتات وأتمتة الصناعات وعمليات الإنتاج في كل ميدان، وما نجم عنهما من تراجع لليد العاملة واستغناء عن البشر على نحو متزايد، دفع بالعديد من المفكرين إلى طرح مسألة ما بعد الإنسان، على ما اقترحه بيتر سلوترجيك، لاعتباره أن الهندسة الوراثية باتت قاب قوسين من التحكم بمسار التاريخ البشري إلى الأبد. وفي السياق نفسه أشار الباحث شارل بيسنر إلى تعاظم آثار التقدم العلمي على تكوين الكائن البشري على نحو عصي على الارتداد، ومن دلائل ذلك التحول ما شهده العالم من ظواهر علمية لم تعاينها البشرية من قبل، وأخطرها ظاهرة الاستنساخ وما تثيره من إشكالات وموانع أخلاقية ودينية واجتماعية وقانونية وظاهرة الروبوتات غير البشرية والبشرية، على حد سواء، وظاهرة التغير المناخي وما تحدثه من تغييرات دراماتيكية على البيئة والمجتمعات والأفراد، وكل ذلك بسبب تدخل العلم ومنجزات الحداثة والمعاصرة في ميادين الحياة عبر العالم أجمع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غير أن المسألة بنظر روزي بريدوتي لا تجد لها مخرجاً بمجرد تعيين المصطلحات المتنوعة، من مثل اللاإنساني وغير البشري وما بعد الإنساني وغيرها، وإنما من خلال معاودة التفكير في الروابط العلائقية بين البشر والطبيعة وبين البشر وأجناس الحيوان، ومن خلال إجراء نقد ذاتي لرؤية أحادية السيطرة البشرية على العالم بره وبحره وسمائه ومخلوقاته والثروات في باطنه وفي ثناياه، واعتبارها ملكاً له (للإنسان ذي السلطة والمال) مطلق الصلاحية في التصرف بها ولو على حساب التوازن البيئي وبقاء النوع البشري.

وفي هذا تتلاقى نظرة بريدوتي مع العديد من مفكري الجندرية والنسوية العلمانية والفلاسفة المؤيدين للبيئة و"الإنسانويين الجدد" ومنظري النقد ما بعد الإنساني من مثل فرانز فانون وإيمي سيزير ودلوز وغيرهم.

"ما بعد الإنسان" هو مصطلح بمثابة محطة تتيح للمرء التفكير المتأني والعميق في ما يصنع دوام بقائه وبقاء النوع البشري وحفظ انسجام الكائنات جميعها، من دون إغفاله محاسن العلم والتقدم العلمي الذي وفر له كل أسباب الرفاهية والرخاء، أما الأدب والفنون فلهما حسنات كثيرة ليس آخرها اكتشاف الإنسان أبعاداً خافية وآفاقاً جديدة وواعدة، نظير ما فعل جول فيرن وأوغست دوفيلييه وإسحاق عظيموف ولاو شي وغيرهم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة