Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توماس بيكيتي مدانا بالتفاؤل

لعل عالم الاقتصاد الفرنسي يذهب إلى أبعد مما نرى ونأمل ألا يحتاج العالم لموجة خراب تتيح إعادة بناء المجتمعات

يحقق البعض من خلال أتفه المهارات والمواهب ثروات خرافية بسرعات خرافية لعلها غير مسبوقة منذ عصور تسخير الجان وخروج العفاريت بالأمنيات من القناديل (أ.ب)

في حوار نشرته "نيويورك تايمز" أخيراً مع عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي قال إن المجتمعات التي نعيش فيها الآن "باتت أكثر مساواة بكثير، من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مقارنة مع ما كان الوضع عليه قبل مئة سنة أو مئتين". والحقيقة أنني لا أتصور أن يمر هذا القول على من يطالعه فيلقى منه رد فعل حيادياً أو بليداً. صحيح أن بيكيتي لم يقل إننا بلغنا من المساواة أقصاها، أو حتى ما يكفينا منها، وصحيح أن قوله لا يعدو مقارنة عصر ظالم مظلم راهن بعصر غابر أكثر ظلماً وظلاماً، لكن يبدو لي أن شعوراً ما، أدناه الدهشة وأعلاه الغضب، يجب أن يعتري القارئ لمجرد الإيحاء بأن العالم الذي نعيش فيه الآن، ونعرفه، قد بلغ قدراً من المساواة يدعونا إلى الرضا عنه أو التفاؤل بمستقبله.

مهارات تافهة وثروات خرافية

حسبنا في مواجهة هذا الزعم ما نلاحظه من تحقيق البعض من خلال أتفه المهارات والمواهب ثروات خرافية بسرعات خرافية، لعلها -أي الثروات والسرعة جميعاً- غير مسبوقة منذ عصور تسخير الجان وخروج العفاريت بالأمنيات من القناديل. وحسبنا أن نتذكر قوائم أكثر الأثرياء التي تظهر بين الحين والآخر، سواء على المستوى العالمي أو على مستوى مناطق معينة فيه، وأن نقارن بين الثروات التي لا يستطيع أغلبنا أن يقرأ أرقامها بشكل صحيح بالأرقام الهزيلة المتهافتة التي تواجهنا بها آلات الصرف كل شهر. وحسبنا ما نعرفه عن تفاوت الدخول المخزي بين أي واحد فينا ورئيس الشركة أو الجهة التي يعمل فيها. وحسبنا لكي نطمئن إلى سلامة عقولنا ووجاهة اعتراضنا أن نقرأ السؤال الذي كان أول ما طرحه ديفيد مارتشيز على توماس بيكيتي في ذلك الحوار فاستدعى منه تلك الإجابة:

"في السنوات الماضية منذ صدور كتابك (رأس المال في القرن الحادي والعشرين) [في 2013]، طرأت زيادة هائلة على عدد المليارديرات الأميركيين، إذ أضيف قرابة مئة وثلاثين إلى القائمة في ما بين 2020 و2021 فقط. وحدث هذا في سياق تنامي نقاش شعبي للتفاوت الاقتصادي ـ فضلاً عن غضب شعبي منه. فما الذي حدث بحق الجحيم؟".

طبيعي أن يزيدنا سؤال ديفيد مارتشيز سخطاً على اختلال العالم الذي نعيش فيه، لكننا بعد أن نتجاوز هذا السخط المشروع، هل ينبغي أن نجد عزاء في جواب بيكيتي؟

الحقيقة أنه ليس من الإنصاف القول إن بيكيتي قال ما قاله وهو يريد أن يمنحنا العزاء، بل إن هذا يوشك أن يكون عكس ما أراده. فالرجل حينما أبدى هذه الملاحظة إنما كان يقصد بها الإشارة إلى أن الإنسانية -في تقديره أو رصده- تسير في تقدمها عبر منحنى يتجه حتماً إلى مزيد من المساواة. وهو لا يكتفي بالتوقع، بل يشفع توقعه هذا بعلاج للتفاوت الكريه القائم حالياً في الثروات، ويساعد على التعجيل في النهاية المرجوة أي المساواة. ولعلنا نوجز علاجه هذا ـأو نختزله إن شئتمـ في "فرض الضرائب على الأثرياء".

"رأس المال" وأزمة الاقتصاد الطاحنة

يكاد يكون هذان، أي توقع المزيد من المساواة في المستقبل، وطرق التعجيل بالوصول إلى ذلك الأمل الموعود، هما الثيمتان الكبريان في كتاب توماس بيكيتي الجديد "موجز تاريخ المساواة".

توماس بيكيتي عالم اقتصاد فرنسي شهير، أصدر في عام 2013 كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" مقدماً فيه -وفقاً لتقدير كثيرين- إحدى الدراسات العميقة لاقتصادات رأس المال منذ أن نشر كارل ماركس كتابه "رأس المال" قبل مئة وخمسين سنة. صدر كتاب بيكيتي ذلك سفراً ضخماً جاوزت صفحاته في نسخته العربية الصادرة من دار التنوير بترجمة وائل جمال وسلمى حسين ستمئة وخمسين صفحة، حفلت بالتحليلات الكثيفة والعميقة، ومع ذلك حقق انتشاراً هائلاً إذ بيعت منه في شتى أرجاء العالم أكثر من مليونين ونصف المليون نسخة. غير أن الكاتب تونوك فاراداراجان يصف في مقال نشرته "وول ستريت جورنال" نجاح رأس المال بأنه كان من أبعد النجاحات احتمالاً في عالم بيع الكتب فـ"الكتاب عصيٌّ على أي شخص لا يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد، لكنه بات يعد بمثابة السلاح الذي غير قواعد اللعبة في حرب انتزاع الثروات من الأثرياء، إذ تحول الكتاب إلى طوطم للتقدميين في الغرب. غير أن الاستطلاعات تبين أن قليلاً ممن اشتروا الكتاب قد قرأوه بالفعل، بما يجعله منافسا قوياً لكتاب "موجز تاريخ الزمن" لستيفن هوكنج على لقب "أقل الكتب قراءة في التاريخ".

بعيداً من هذه السخرية المتوقعة طبعاً في "وول ستريت جورنال"، وبعيداً أيضاً من قدر ما في هذه السخرية من صدق، صدر كتاب بيكيتي في توقيت "مثالي"، إن أمكن أن يوصف بالمثالية ما كان عليه العالم غداة الأزمة المالية الساحقة في 2008-2009. في تلك الفترة انهال الهجوم ساحقاً على النخب الاقتصادية وعلى الحكومات أيضاً باعتبارها السبب في الانهيار البنكي والمالي وما نجم منه من آثار سلبية فادحة على الملايين في العالم. وكانت حركة "احتلال وول ستريت" في 2011 قد أضافت إلى هذا الغضب سعياً إلى محاولة لفهم آليات الرأسمالية، ففي تلك اللحظة ظهر كتاب بيكيتي ليعتمد عليه كثيرون في تكوين رؤية عميقة لآليات عمل الرأسمالية وتأثيرها فيهم. وإذا كان أغلب اهتمام كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" قد انصب على العالم الصناعي المتقدم في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، فقد أصدر بيكيتي بعده كتاباً آخر بعنوان "رأس المال والأيديولوجية" (2019) ليعمق تحليل الكتاب الأول ويوسع نطاقه فيتجاوز الغرب المتقدم إلى العالم كله، مع تركيز على إسهام العبودية والكولونيالية في انتصار الغرب الرأسمالي.

موجز تاريخ المساواة

وفي 2022 يصدر كتاب ثالث لتوماس بيكيتي -ترجمه إلى الإنجليزية ستيفن ريندول- عن مطبعة بيلكناب التابعة لجامعة هارفرد بعنوان "موجز تاريخ المساواة"، فيأتي الكتاب الجديد أصغر حجماً بكثير من سابقيه، إذ يتألف من مئتين وخمسين صفحة فقط، ليبدو -في رأي أليسن شريغر في استعراضه المنشور بسيتي جورنال- أقرب إلى "مانيفستو" منه إلى كتاب في الاقتصاد أو تاريخ الاقتصاد.

لا يتعلق وصف "ألمانيفستو" هذا بحجم الكتاب بقدر ما هو مجرد استهلال للطعن في أفكاره كما سيتبين لاحقاً، ومع ذلك فقد حرص غاري غريستل -في استعراضه للكتاب بـ"واشنطن بوست"- على تبرئة الكتاب من اتهام شريغر بقوله إن الكتاب "قد لا يكون مانيفستو، لكنه يقدم حججاً تدعونا إلى التفاؤل إزاء التقدم البشري"، والتقدم البشري هو "التحرك باتجاه المساواة" بحسب تعريف بيكيتي.

يرى بيكيتي أن متوسط العمر المتوقع للإنسان ازداد على مدى القرنين الماضيين من ستة وعشرين عاماً إلى اثنين وسبعين، وأن صحة الإنسان "أفضل في الوقت الراهن مما كانت عليه في أي وقت سابق، والتعليم والثقافة متاحان أكثر من ذي قبل". وعلى الرغم من التفاوتات الكبيرة التي لا تخفى على بيكيتي في رفاهية الفرد سواء داخل المجتمعات الصناعية المتقدمة أو بين شمال العالم وجنوبه، فإن قراءته لتاريخ القرن الماضي تسمح له بالذهاب إلى أن تفاوتات القرن الحالي يمكن أن تتقلص وأن الفجوة السحيقة بين أثرياء العالم وفقرائه يمكن أن تضيق، وذلك من ناحية "لأن المسيرة باتجاه المساواة بجميع أشكالها" قهرية لا يمكن صدها، ومن أخرى لأن أجيال الإصلاحيين الماضية أضاءت طريقاً لم يزل نوره ممتداً أمامنا.

 

 

التفاؤل حيال مستقبل المساواة

في معرض بحثه عن أسباب التفاؤل حيال مستقبل المساواة، يركز بيكيتي بصفة خاصة على الثورة التي قامت بها القوى الليبرالية واليسارية في الغرب الصناعي في ما بين 1910 و1980، إذ أقامت المجتمعات الغربية على مدى هذه العقود دول رفاه قوية، واستثمرت بشدة في التعليم وغيره من الخدمات العامة، وضيقت تضييقاً ملموساً ما بين الأثرياء والفقراء من تفاوت اقتصادي ـ وكل ما يترتب عليه من تفاوتات في فرص الحياة المختلفة. وهذا ما يطلق عليه بيكيتي "الثورة الأنثروبولوجية" التي تمثل في رأيه انتصاراً للديمقراطية الاشتراكية.

ويرى أن الضرائب كانت الأداة المحورية لهذه الثورة، إذ ارتفع العائد الضريبي في البلد تلو الآخر من عشرة في المئة من إجمالي الدخل الوطني سنة 1910 إلى ما بين 30 و40 في المئة بحلول العقود الوسطى من القرن العشرين. وكانت الأنظمة الضرائبية أداة شديدة التقدمية وعظيمة القدرة على إعادة توزيع الثروة، بل لقد كانت الولايات المتحدة نفسها رائدة هذا الطريق بفرضها أعلى معدل ضريبي بلغ متوسطه 81 في المئة على أصحاب الدخول العليا خلال الفترة من 1932 و1980 (يطعن أليسن شريغر في ما يقوله بيكيتي عن دور الضرائب في إعادة توزيع الثروة في الولايات المتحدة ويعتبره مثالاً فادحاً للتناقض بين بيكيتي والكثير من الأبحاث العلمية الراسخة).

ضريبة عالمية على أصحاب الثروات

اعتماداً على ما حققته الديمقراطية الاشتراكية من مكاسب في الغرب خلال القرن العشرين، يثق بيكيتي بقدرة الإنسانية على الانتقال إلى حالة جديدة من المساواة، ويضع برنامجاً شاملاً من أجل تحقيق هذا الانتقال. فمن مقترحاته في هذا البرنامج فرض ضريبة عالمية مقدارها اثنان في المئة على كل من تتجاوز ثروته عشرة ملايين يورو، وإشراك العمال في إدارة المشاريع والشركات، وإعادة النظر في المعاهدات العالمية لضمان تداول عالمي لرأس المال على نحو من شأنه أن يعزز المساعي المبذولة لتحقيق أهداف كبرى، من قبيل تقليص انبعاث غازات الاحتباس الحراري وتقليل التفاوت الاقتصادي بين شمال العالم وجنوبه. غير أن هذه المقترحات الطموحة، والنبيلة أيضاً، لا تسلم ممن ينظر إليها في غضب.

يرى أليسن شريغر أن برنامج بيكيتي يقوم على إضعاف حقوق الملكية إيماناً منه بأن التفاوت في التملك ظالم وبأنه مصدر جميع مشكلاتنا، ويسارع إلى السخرية من هذا الرأي ومن مقترحات بيكيتي في هذا الصدد بقوله إنها تبدو أقرب إلى العوالم التي تصورها روايات الدستوبيا، لكن السخرية هنا لا يمكن أن تقتصر على بيكيتي وحده بل تطاول أسماء بارزة تصعب السخرية منها ومن تأثيرها وقد سبقت إلى إبراز مآخذ على الملكية الخاصة، ولعل من أهمها جان جاك روسو وكارل ماركس، إذاً فليس من السهل استبعاد أفكار بيكيتي بدعوى إفراطها في المثالية أو التفاؤل، لأن أفكاراً حالمة أخرى سبق أن أدت إلى تغيرات مزلزلة مثل الثورتين الفرنسية والبلشفية، فمن يدري إلامَ يمكن أن تؤدي الأحلام هذه المرة أيضاً؟

ويمضي شريغر في استعراضه لبرنامج بيكيتي وتعريضه به فيقول إنه يقوم على فرض "ضرائب على أصحاب الدخول العليا تصل إلى مستوى المصادرة (إذ تتراوح بين 80 و90 في المئة) بما يسمح بدولة رفاه أضخم وأقدر على ضمان الوظائف وحد أدنى للدخول واقتصاد أكثر اخضراراً [أي مراعاة للبيئة]".

يضيف "فضلاً عن ضرائب الدخول يريد ضريبة على الثروة (على الثروات والتركات الضخمة). ففي عالمه، يحصل أكبر الوارثين على ستمئة ألف يورو وأقلهم على مئة وعشرين ألفاً". ويختتم أليسن شريغر بقوله إن بيكيتي يعترف أن هذه الأفكار قد تزعج القراء ـ لا لأنها راديكالية، ولكن لأنها غير راديكالية بالقدر الكافي، إذ "سيبقى في النهاية بعض التفاوت، ولكن كتابه هذا بحسب ما يقول ليس إلا أول الغيث".

والحق أن شريغر يوشك أن يضع يده على ما يمكنني أن أقول بقدر كبير من الطمأنينة إنه غاية أساسية من كتاب بيكيتي: التحريض، إذ يكتب في مستهل مقدمته للكتاب أن "الجزم بوجود نزعة نحو المساواة ليس من قبيل التفاخر بالنجاح، لكنه بالأحرى دعوة إلى مواصلة النضال انطلاقاً من قاعدة تاريخية صلبة"، ثم إنه يلفت النظر أيضاً إلى أن في حاضرنا ما يمكن أن يسهم في التعجيل بالمساواة فـ"ها نحن أولاء في مطلع العقد الحالي من القرن الحادي والعشرين ولم تزل حركات مثل (الحياة السوداء مهمة) و(مي تو) و(فرايدايز فور فيوتشر) تبدي قدرة مثيرة للإعجاب على حشد الناس عبر الحدود الوطنية والجيلية حول تفاوتات عرقية وجندرية ومناخية. ونظراً إلى ما في النظام الاقتصادي الراهن من تناقضات اجتماعية وبيئية، فمن المرجح أن تستمر هذه التمردات والصراعات والأزمات في القيام بدور مركزي في المستقبل، في ظل ظروف يستحيل التنبؤ بها بدقة. ونهاية التاريخ لن تقع غداً. والحركة باتجاه المساواة لم يزل أمامها طريق طويل، وبخاصة في عالم يتهيأ فيه الأكثر فقراً، وبخاصة الأكثر فقراً في البلاد الأكثر فقراً، للخضوع بمزيد من العنف لأضرار مناخية وبيئية يتسبب فيها نمط حياة الأكثر ثراء".

ثم إن بيكيتي - بحسب ما يقول غاري غيرستل محقاً - يدرك تماماً أن مقترحات برنامجه الرامي إلى التعجيل بالمساواة واستغلال حركة التاريخ باتجاه تقليص التفاوت لن تكون يسيرة التنفيذ، لكن قراءته سياسات القرن العشرين في الغرب تدعوه إلى التفاؤل. فهو يرى أن الحركات التقدمية -من قبيل مطالبة النساء بحق التصويت، ونضال العمال من أجل حقوق صناعية، ومنافسة الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية في الانتخابات، ونضال الأقليات من أجل الحقوق المدنية- قد أحدثت تحولات سياسية واسعة النطاق، ومثلما نجحت في ذلك، ربما تنجح حركات احتجاجية مماثلة ـومعدلة بحيث تتواءم مع مواطني القرن الحادي والعشرين- في تحقيق نتائج مماثلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رسم خريطة طريق للنشطاء

هذا إذاً بعض ما يرمي إليه توماس بيكيتي من كتابه هذا: أن يسهم في رسم خريطة طريق للنشطاء لكي لا تظل التظاهرات تنتقل من عاصمة إلى عاصمة وراء تجمعات قادة العالم وقممهم الكبرى مكتفية باحتجاج مبدئي على طريقة إدارة العالم، وإنما أن تنتقل من ذلك إلى مطالب محددة تستهدف فرض ضرائب معينة، أو إدخال تعديلات على معاهدات، أو الضغط من أجل إصلاحات إدارية وقانونية تلتزم بها لا الحكومات فقط وإنما شركات القطاع الخاص أيضاً، بما يسهم تدريجياً في الوصول إلى العالم الذي يتصوره بيكيتي.

لكن غاري غيرستل يلفت النظر إلى أن إيمان بيكيتي في كتابه هذا بقدرة السياسات التقدمية على إحداث التغيير جعله يتجاهل بصيرته الواقعية في كتابه الأول "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" ففي الكتاب الأول ذهب بيكيتي إلى أن انتصار الديمقراطية الاشتراكية لم ينشأ عن الحركات التقدمية وحدها، فقد أسهمت بالدرجة نفسها -أو بما يفوقها- قوة تدميرية هائلة تمثلت في حربين عالميتين، وكانت "فوضى الحربين هي التي قلصت التفاوت في القرن العشرين، والحرب -وليس العقلانية الاقتصادية أو الديمقراطية القائمة على التناغم- هي التي محت الماضي ومكنت المجتمع من البدء من جديد على نظافة".

لقد أدت الحربان العالميتان إلى مصرع قرابة مئة مليون شخص، وحطمت منشآت إنتاجية لا حصر لها، وحرمت القوى الأوروبية من مستعمراتها وما كانت تدره من دخول، وأتت في كل مكان على ثروات وأفكار النخب الاقتصادية، فمنحت كارثة الحرب للديمقراطية الاشتراكية -بحسب ما قال بيكيتي في كتابه سنة 2013- فرصة الانتصار في الغرب. إذاً فالسؤال الأساسي لكتاب بيكيتي الصادر في عام 2022 هو هذا: هل يمكن أن يتقلص التفاوت في القرن الحادي والعشرين بمثل الحجم الذي تقلص به في القرن العشرين من دون حرب كبيرة أخرى، أو وباء أفتك من الوباء الذي نعيشه الآن، أو كارثة مناخية محققة؟

يجيب غاري غيرستل عن هذا السؤال بقوله "من المؤكد أن بالمرء رغبة إلى أن يوافق بيكيتي على إمكانية حدوث ذلك، فقد وضع خطة ذكية، وعميقة، وحماسية، تقوم على قناعات سياسية رائعة، ولكن خطة من هذا النوع -مثلما أوضح بيكيتي نفسه في (رأس المال)- قد لا تكون كافية حتى لو دعمتها كتيبة حركات تقدمية، فقد كتب بيكيتي نفسه ذات يوم أن الدمار الوحشي واسع النطاق للحياة والممتلكات كان المقدمة اللازمة لانتصار الديمقراطية الاشتراكية في القرن العشرين. فلنأمل ألا يحتاج العالم في القرن الحادي والعشرين إلى موجة عاتية مماثلة من الموت والخراب واليأس تتيح عصر إعادة بناء لكل من الاقتصاد والمجتمع".

غير أنه إذا بدا أن بيكيتي قد انحرف في كتابه الجديد عن نتائج كتبه السابقة فذلك - في ما يقول بيكيتي - راجع إلى خطأ في زاوية النظر، لأن تفاؤله النسبي إنما يستند إلى أن هناك "مسيرة طويلة المدى إلى المساواة، وهذه المسيرة تتجاوز التفاصيل الدقيقة لما قد يحدث في فترة زمنية محددة". وقد تكون ترجمة ذلك هي أن بيكيتي يرى أو يحاول أن يرى إلى أبعد مما نرى، فنحن يعمينا جحيم الواقع عن رؤية فردوس المستقبل الموعود، أما هو فيستطيع أن يرى إلى البعيد، ربما لأنه يقف في أعلى ذروة الحطام الذي نعيش فيه.

المزيد من كتب