Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سوريا مسرح حروب شمالا وجنوبا امتدادا لأوكرانيا

أردوغان يستغل موقفه الوسطي بين كييف وموسكو وتوسع إيران ينتج صراعاً عربياً وأميركياً صامتاً معها

مخاوف تركية من تمدد "قوات سوريا الديمقراطية" ذات الغالبية الكردية (أ ب)

يعود الوضع الأمني في سوريا إلى الواجهة بقوة جراء تطورات الأسبوعين الماضيين، وتعود بلاد الشام مسرحاً لأعمال عسكرية قد تقحمها في مستوى جديد من اللااستقرار، هي نتاج التدخلات الخارجية التي لا تتوقف دينامياتها عن خلق التوترات الناجمة عن صراع النفوذ على مساحة البلد المدمر عمرانياً واقتصادياً وسياسياً.

وإذا كانت المخاطر تتهدد الشمال السوري بعد إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أواخر مايو (أيار) الماضي، نية القوات التركية تنفيذ عملية عسكرية من أجل "إنشاء منطقة آمنة على عمق 30 كيلو متراً شمال سوريا، وتطهير منطقتي تل رفعت ومنبج من الإرهابيين"، فإن التحركات السياسية والدبلوماسية والميدانية في هذا الشأن، تطغى على واقع أمني آخر، متفجر، أخذ يطل برأسه في الجنوب السوري واللاعبون فيه دول وقوى عدة، جراء تمكن القوات الموالية لـ"الحرس الثور الإيراني" من تعزيز وجودها في هذه المنطقة، ما زاد استنفار إسرائيل والأردن ودول عربية معنية بمحاربة توسع النفوذ الإيراني في سوريا.
وتنذر عمليات التسخين في المنطقتين بعودة تقاسم النفوذ بين اللاعبين الإقليميين في سوريا إلى التسبب بحروب صغيرة فيها، وسط استمرار انسداد أفق الحل السياسي الذي يمكن إذا ما حصل تقدم فيه، أن يضع أسس جمع الأشلاء السورية الموزعة بين مناطق نفوذ تركية وأميركية وروسية وإسرائيلية وإيرانية.

المشروع التركي القديم الجديد

العملية التركية المزمعة في شمال سوريا، وتحت ذريعة إقامة منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً على طول الحدود التركية السورية، هي مشروع قديم جديد منذ عام 2019، حال دون استكمالها بعد التوغل العسكري التركي في حينها توافق روسي- أميركي على وقف الهجوم التركي عند حدود متعرجة، لمنع تركيا من السيطرة على ما يفوق 9 آلاف كيلومتر مربع من سوريا. وكسبت أنقرة في حينها مقابل وقف الهجوم بعد ضغط كل من واشنطن وموسكو عليها اشتراكها في آليات "خفض التوتر" في المناطق السورية في إطار "صيغة أستانا" التنسيقية بين روسيا وإيران وتركيا، مقابل أخذ مخاوف الأخيرة من تمدد "وحدات حماية الشعب" الكردية التي هي عماد "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ اندلاع الحرب السورية بالاعتبار. وأنتجت صيغة أستانا اتفاق "سوتشي" بين الجانبين التركي والروسي لوقف العملية العسكرية. فأنقرة تعتبر "وحدات حماية الشعب" امتداداً لـ"حزب العمال الكردستاني" المحظور من قبلها إذ تعتبره منظمة إرهابية. واعتمد الجانب التركي في تمدده في الشمال بعمق يقارب العشرة كيلومترات على تشكيل "الجيش الوطني السوري" الذي أشرفت على تشكيله من قوات المعارضة السورية ومن ضباط منشقين عن الجيش النظامي السوري. واحتفظت تركيا في ذلك الوقت بدور أساسي وباعتراف من روسيا وإيران في منع تقدم قوات النظام السوري نحو محافظة إدلب حيث يتجمع آلاف المقاتلين المعارضين السوريين ومن "هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) المنسحبين من مناطق سيطر عليها النظام. وتولت القوات التركية مراكز مراقبة حول إدلب لضبط وقف النار، فباتت منطقة تتمتع بما يشبه الحماية التركية.

اتصالات كردية سورية وتركية مع دمشق

حدد أردوغان ووزير دفاعه، خلوصي أكار، هدفاً إضافياً لمواجهة جيشه هجمات الميليشيات الكردية على قواته المتمركزة في الشمال: نقل مليون من النازحين السوريين في تركيا إلى المنطقة الآمنة بعد بناء بنى تحتية ومساكن لهؤلاء.

وفي وقت يُنقل عن معارضين للنظام السوري موجودين في تركيا تقديرات بأن قرار العملية العسكرية التركية متخَذ وسينفَذ عاجلاً أم آجلاً، فإن الجانب التركي يأمل بحسب هؤلاء، الحصول على تمويل من الدول المانحة ومنها دول عربية، من أجل بناء البنى التحتية لإعادة النازحين إلى المنطقة الآمنة. وبين الإعلان عن نية القيام بالعملية العسكرية وتنفيذها، فتحت خطوط تواصل في اتجاهات متعارضة، أولها بين ممثلي الأكراد ودمشق من أجل التعاون في مواجهة العمل العسكري التركي المرتقب، باعتبار أن الفريقين يواجهان "عدواً واحداً". وزار وفد من "وحدات حماية الشعب" الكردية دمشق لهذا الغرض، ثم عاد بموازاة الاتصالات الأميركية - التركية إلى تجميد العملية لبضعة أيام، وبعد أن قامت وحدات روسية بمشاركة الجيش السوري في حشد قوات باتجاه الشمال إزاء احتمال تنفيذ أردوغان تهديده وشمل ذلك إرسال معدات عسكرية روسية متطورة ورادارات إلى مناطق تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية"، لكن الأهم أن الميليشيات الموالية لإيران عززت بالاشتراك مع قوات النظام السوري من وجودها في مناطق في ريف حلب الشمالي، حيث عمل "الحرس الثوري" في السنوات الماضية على إيجاد ركائز لوجوده في تلك المناطق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكانت قنوات التواصل فُتحت بين أنقرة ودمشق تحت عنوان "التنسيق في مواجهة التنظيمات الكردية" الموجودة بقوة في الشمال السوري وإمكان تسلم الجيش النظامي السوري مناطق تشمل آباراً للنفط تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية". إلا أن القيادة السورية شددت على الانسحاب التركي من عديد من المناطق ولم يتوصل الطرفان إلى أي اتفاق.

تتعدد أبعاد التوظيف السياسي للتهيؤ التركي للسيطرة على المناطق الكردية في شمال سوريا. فأنقرة الدولة المحورية في المشهد الجيوسياسي تستفيد من الانشغال الدولي بالحرب في أوكرانيا من أجل الحصول على تأييد دول "الناتو" لتعزيز دورها في سوريا، وهي اتخذت موقفاً وسطياً بين موسكو وكييف على الرغم من عضويتها في "الناتو". وقامت بحملة ضد المكون الكردي في شمال سوريا، في وقت طلبت السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وتحتاجان إلى تصويت أنقرة إلى جانب هذا الطلب، فيما أثار ذلك حفيظة أردوغان، لأنهما من أكثر الدول دعماً للأكراد.
وفي المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أنقرة في 8 يونيو (حزيران)، كان التركيز على فتح ممرات الإمداد بالغذاء من روسيا وأوكرانيا، والدور التركي في ذلك. وجاء العنوان السوري في مرتبة ثانية على جدول الأعمال.

حرب أوكرانيا في شمال سوريا

وحاذر لافروف الإمعان في توصيف الخلاف مع نظيره التركي حول نية أنقرة القيام بالعملية العسكرية في الشمال السوري أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقداه خلال زيارته أنقرة، فاكتفى بالتذكير باتفاق سوتشي الذي تم التوصل إليه في عام 2019، القاضي بترتيبات ميدانية أدت إلى وقف الحملة العسكرية للجيش التركي آنذاك، فيما ذكّر نظيره تشاويش أوغلو بأن من بين موجبات هذا الاتفاق، انسحاب "قوات سوريا الديمقراطية" من مناطق حدودية، وهو ما لم يتم تنفيذه. إلا أن لافروف ألقى اللائمة على دعم الولايات المتحدة انتشار "قوات سوريا الديمقراطية". وفسّر مراقبون ذلك بأن موقف موسكو هو امتداد لحربها مع الجانب الأميركي في أوكرانيا، في لعبة الصراع بين الدول الكبرى بنسختها الجديدة التي أطلقتها تلك الحرب. فما يهم الجانب الروسي بالدرجة الأولى، استمرار تمايز تركيا عن الموقف الأميركي حيال الحرب في أوكرانيا. وبموازاة ذلك عززت واشنطن من تسليح قواتها في منطقة شرق الفرات حيث يتمركز زهاء 900 جندي من الوحدات الخاصة إلى جانب "قوات سوريا الديمقراطية". ويلفت مراقبون إلى ظهور صواريخ "تاو" في يد قوات المعارضة في منطقة إدلب حين جرى استخدام هذا النوع من السلاح في مواجهة محاولات تقدم الجيش السوري المدعوم بميليشيات إيرانية بعد قصف جوي روسي، قبل أسابيع، فكان إشارة إلى أن واشنطن مستعدة لتزويد المعارضين للنظام بإمكانات ضد محاولات سيطرة الجيش السوري على مزيد من المناطق.
ويسود ترقب حول ما إذا كانت موسكو، على الرغم من تعزيز قواتها في الشمال، ستكتفي بالتمركز في مواقع لا تحول دون التوسع التركي، فيتم تقاسم المنطقة الشمالية مرة أخرى، على أن يدخل العنصر الإيراني عاملاً جديداً إليها هذه المرة. وفي هذه الحال، فإن خلط الأوراق في الشمال يستهدف قوى عسكرية تستند إلى الأكراد ومدعومة من الولايات المتحدة. وبهذا المعنى، فإن خريطة التطورات العسكرية في الشمال السوري ستكون امتداداً لحرب أوكرانيا والتعقيدات الناجمة عن انسداد أفق محادثات فيينا بين طهران وواشنطن.

التوتر والفوضى الأمنية جنوباً

لا يقتصر انتقال سوريا إلى مسرح يختصر الكثير من التناقضات الدولية الراهنة بفعل حرب أوكرانيا وتعقيدات مفاوضات فيينا، على الشمال السوري. فالمنطقة الجنوبية تشهد منذ أشهر غلياناً أمنياً كبيراً يضاف إلى استمرار الضربات العسكرية الإسرائيلية في ريف دمشق الجنوبي ومحافظة القنيطرة حيث سعت طهران للإفادة من انسحابات روسية جزئية بعد حرب أوكرانيا للسيطرة على بعض المواقع، واستخدام قواعد مشتركة مع الجيش النظامي والفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد من أجل تخزين صواريخ قريبة من حدود الجولان السوري المحتل، يمكن إطلاقها ضد إسرائيل.

وتشكل الفوضى الأمنية التي تشهدها محافظة درعا الجنوبية الحدودية مع الأردن أرضاً خصبة للتغلغل الإيراني الذي تطور في الأشهر الماضية، وسط انتشار عصابات السرقة والقتل وتهريب المخدرات وفرض الخوات على المساحة الممتدة من محافظة السويداء وصولاً إلى درعا. فالأوساط السورية المعارضة تتحدث عن مساهمة إيران في خلق مجموعات مسلحة تستظل بنفوذها تمارس شتى أنواع التشبيح والتهريب على أنواعه، لا سيما المخدرات عبر الحدود الأردنية. وهي مجموعات متنافسة تخدم مبدأ "فرق تسد"، ما يجعل عمليات الخطف والخوات والصدامات وجرائم القتل أحياناً، بين عصابات نشأت في منطقة السويداء ذات الغالبية الدرزية وأخرى في البادية السورية في درعا، سبباً لتنامي حساسيات وصدامات طائفية. وشهدت الأسابيع الماضية مصالحات عشائرية بين أعيان من الدروز ومشايخ عشائر البدو بتشجيع من جهات عربية لتفادي هذه الصدامات، وسادت الاجتماعات لهذا الغرض أجواء بوجوب التنبه إلى ما يقوم به المتعاونون مع الميليشيات الإيرانية واستخبارات النظام، وعدم الانجرار إلى الفتنة بين المنطقتين.

وتشير معطيات بعض المراقبين إلى أن الوضع في جنوب سوريا بات تحت المراقبة المباشرة من الأردن ومجموعة من الدول العربية والولايات المتحدة نتيجة هاجس التغلغل الإيراني بحيث تحول إلى مسرح لحرب متنوعة الوسائل مع هذا النفوذ. ويلفت هؤلاء إلى تصاعد عمليات الاغتيال لرموز لها علاقة بجماعات إيران في المنطقة، لكن الوضع في الجنوب عرضة لشتى أنواع المفاجآت. وما قاله العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في مايو الماضي، عن أن "الوجود الروسي في جنوب سوريا كان "مصدر تهدئة"، ولكن مع انشغال موسكو في أوكرانيا، فإن الأردن يتوقع "تصعيداً في المشكلات على الحدود"، ينبئ بتوقعات متشائمة. وتحدث عن "تحديات أمنية إذ نشهد هجمات حدودية بشكل منتظم ونعرف مَن يقف وراء ذلك".

المزيد من تحلیل