Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أعمالهم الناقصة تدل عليهم

من كافكا إلى تولكين وتشارلز ديكنز وموزارت وشوبيرت وهيتشكوك وبولانسكي... رحلوا قبل إنجاز إبداعاتهم أو تخلوا عنها لعجزهم عن الوصول إلى نهاية مرضية

كثيرة هي الأعمال التي بدأها بعض عمالقة الأدب والفن في العالم ولم تصل إلى نهاية بأيديهم. وتتعدد الأسباب في هذا الوضع لكن الأغلب هو وفاة الكاتب أو الفنان قبل إكمال عمله، أو لعجزه عن الوصول به إلى نهاية ترضيه، أو لظروف خارج نطاق سيطرته كما هو الحال الغالب في الأعمال السينمائية. ويخطئ من ظن أن العمل الناقص يموت فقط لأنه لم يصل -في الأقل- إلى النهاية التي أرادها مبدعه. فمعظم تلك الأعمال اكتسب هالة إضافية واكتسب شهرة مدوية لهذا السبب نفسه... وإليك هنا قليلاً من كثير من الأمثلة*:

القصة والرواية

ربما كان المثال الأسطع في هذا الصدد هو الكاتب المولود في بوهيميا (جمهورية التشيك الآن) والناطق بالألمانية، فرانتز كافكا وأشهر روايته "المحاكمة". فلدى وفاته المبكرة (1924) وهو في سن الأربعين، كان قد ترك عديداً من الأعمال الكاملة والناقصة مع وصية تنص على إحراقها (بما فيها "أميركا" و"القلعة" وهما أشهر رواياته الناقصة)، لكن هذا لم يحدث لأن صديقه ووصيه الأدبي، ماكس برود، تجاهل هذه الرغبة ونشرها جميعاً. فاعتبرت بين أبرز تيارات الخلق الأدبي في القرن العشرين (والحادي والعشرين) وصارت "الكافكائية" تياراً أدبياً رئيساً ووعاء لكل الأعمال اللاحقة التي يواجه فيها بطل الرواية ظروفاً خارجة عن المعقول.

وثمة أعمال ظلت ناقصة لعجز صاحبها عن الوصول بها إلى نهاية مقنعة بالنسبة إليه. وخذ مثلاً أن الكاتب الأميركي مارك توين كتب، على مدى عشرين سنة، ثلاث مسودات لروايته "الغريب الغامض" من دون أن ينحاز في نهاية المطاف إلى إحداها وينجزها كاملة. فتولى وصيه الأدبي وكاتب سيرته، ألبرت بين، مهمة تحرير المسودات الثلاث ليوحدها في رواية نشرها بالعنوان نفسه بعد ستة أعوام على وفاة توين.

وهناك ج. ر. ر. تولكين (مؤلف "سيد الخواتم") الذي ظل يعمل على إنجاز مجموعة قصصه شبه الميثولوجية "سيليمارليون" طيلة عمره ككاتب، ومع ذلك ظل يعدل فيها حتى مماته في 1973. عندها دعا ابنه، كريستوفر، كاتب الفنتازيات الكندي، غاي غافرييل كاي، لتولي مهمة إكمالها مع رخصة له بالتعديل حيثما رأى، لتنشر في 1977. ولم يقتصر الأمر على تلك المجموعة إذ مضى الابن لينشر في 1988 مجموعة قصصية أخرى لأبيه بعنوان مناسب حقاً وهو "قصص ناقصة". وبين 1982 و1996 نشر 12 جزءاً من مؤلف أبيه الضخم "تاريخ الأرض الوسطى" وكان قسم كبير منها مسودات غير مكتملة. ومثلما فعل مع مجموعة "سيليمارليون"، نشر في 2007 قصة بعنوان "أطفال هورين" جمعها من مسودات مختلفة وعديدة سطرها أبوه في شبابه الباكر.

وتبعاً لسيرة تشارلز دكينز في موسوعة "ويكيبيديا" فقد توفي هذا الكاتب الإنجليزي الشهير بعد أن نشر ست حلقات (من 12) من روايته البوليسية "لغز إدوين برود" عن جريمة قتل صاحب الاسم في العنوان. وبوفاة دكينز يظل القاتل مجهول الهوية إلى الأبد، لكن هذا لم يمنع عرض الرواية على شاشة السينما وخشبة المسرح في الأزمنة الحديثة، بل إن الذين خلقوا منها مسرحية موسيقية لجأوا إلى تكتيك غير معتاد وهو الطلب إلى المتفرجين التصويت لتحديد هوية القاتل.

على أن مسألة نشر الأعمال الناقصة بعد وفاة مؤلفها -سواء أكملت بيد أخرى أو خرجت كما هي- ظلت على الدوام واقعة تحت مجهرين، أولهما القانوني المتعلق بحقوق الملكية (بين الأمم التي تحترمها). وحتى في حال تجاوز هذه العقبة، فهناك المجهر الثاني وهو الأخلاقي المستند إلى أن المؤلف وحده هو القادر على إكمال عمله وأن تدخل يد أخرى فيه عمل باطل ما كان المؤلف ليسمح به لو كان على قيد الحياة. والمثال على هذا روايات الكاتب الأميركي أرنست همنغواي الناقصة المنشورة بعد وفاته، فقد ساق عدد كبير من النقاد أن أقاربه وناشريه لا يتمتعون بالحق القانوني أو الأخلاقي على السواء لنشرها على الجمهور العريض.

وبين أشهر الكتاب الآخرين الذين تركوا وراءهم أعمالاً نشرت بعد وفاتهم إما كاملة أو ناقصة وأتممتها يد أخرى، الإنجليزي كريستوفر مارلو (هيرو وليندر)، ومواطنته جين أوستن (سانديتون)، والفرنسي غوستاف فلوبير (بوفار وبيكوشيه). وبين الكتاب الروس ليو تولستوي (الجثة الحية)، ونيكولاي غوغول (أرواح ميتة)، ومكسيم غوركي (حياة كليم سامجين). ومن الأميركيين ترومان كابوتي (صلوات مستجابة)، وسكوت فيتزجيرالد (الثري الأخير). وربما كان الاسم الأشهر وسط العرب هو أبو القاسم الشابي الذي لم يرَ آخر دواوينه "أغاني الحياة" النور إلا بعد مماته عن 25 عاماً. ويرجح البعض أن هذا الديوان لم يحوِ كثيراً من قصائده الأخيرة، وعلى هذا الأساس يمكن أن يعتبر عملاً غير مكتمل.

الموسيقى الكلاسيكية

ربما كان "القداس" و"المرثية" لولفغانغ أمادياس موزارت هما العملان الموسيقيان الأشهران بين سائر الأشكال الموسيقية الكلاسيكية غير المكتملة. وقد تضافرت ثلاثة عوامل لإضافة هالة غير عادية على هذين العملين الناقصين. الأول هو الديني الذي يضمن الرضاء المجتمعي، والثاني هو ضخامة كل من العملين وملحميته، والثالث هو الدراما المتعلقة بكونهما ناقصين لأن موزارت أسلم الروح قبل إكماله.

وهناك سيمفونية لودفيغ فان بيتهوفن العاشرة الناقصة التي أكملها مؤلفون آخرون من بينهم روبرت ليفين وبنجامين – غانر كورز. والاعتقاد الأغلب حول هذا العمل هو أن بيتهوفن، عندما بدأ تأليفها، لم يقصد لها أن تكون سيمفونية في المقام الأول وإنما كونشيرتو للرباعية الوترية. وحتى هذه دونها في شكل قطع متناثرة، ولكن ساد الرأي وسط معاصريه من الأصدقاء والنقاد أنها تحمل كل علائم السيمفونية ولذا اعتبرت، لدى إكمالها بعد وفاته، سيمفونيته العاشرة.

ومن أشهر الأعمال أيضاً ما تسمى "السيمفونية الناقصة" (الثامنة) التي أنجز منها مؤلفها فرانتز شوبيرت حركتين (أي نصفها) ثم هجرها من دون سبب ظاهر حتى مماته بعد ذلك بست سنوات. وفي الآونة الحديثة عكف المؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا الإنجليزي برايان نيوبولد على إكمالها وكان ذلك بحد ذاته سبباً في توسيع دائرة شهرته أضعاف المرات.

ولا يكتمل الحديث عن المؤلفات الكلاسيكية العظيمة الناقصة إلا بذكر السيمفونية السادسة التي كتب مخطوطها الأول بيوتر الييتش تشايكوفسكي، لكنه أزاحها جانباً، كسيمفونية، وحول حركتها الأولى إلى "كونشيرتو البيانو الثالث" الذي لم يجد طريقه للنور إلا بعد مماته في 1895. على أن مواطنه المؤلف سميون بوغاتيريف أخذ هذا العمل وأضاف إليه الحركتين الأوليين، ثم أضاف من عنده الحركة الرابعة ونشر هذا العمل كله وسماه سيمفونية تشايكوفسكي السابعة.

السينما

بين الأعمال السينمائية التي ظلت مجرد فكرة، كوميدياً تشارلي تشابلن "المسخ" عن فتاة أميركية جنوبية ينمو لها جناحان فجأة. فتختطف إلى لندن حيث يعرضها خاطفوها على أنها ملاك سعياً للثراء من ورائها. وفعلاً بدأ تشابلن التصوير في 1969 مع ابنته فكتوريا في دور الفتاة - الملاك، لكنها انسحبت من الفيلم بسبب زواجها. وفي الوقت نفسه أسهم تقدم السن في تلكؤ تشابلن نفسه عن إيجاد بديل لها وهكذا مات الفيلم مع موته في 1977.

تقدم السن كان أيضاً السبب في توقف العمل في فيلمين لألفريد هتشكوك أولهما "كلايدوسكوب" (المشكال - 1967) والآخر "الليلة القصيرة" (1979 - 1980). وعلى الرغم من أن مناظر عديدة من كل من الفيلمين صورت فعلاً، فقد كان تدهور صحة المخرج الإنجليزي الشهير وراء تعطل العمل، ولم يكمل أياً منهما حتى وفاته في 1980. وبالفعل تمت محاولات لإكمال "الليلة القصيرة" في الأقل، لكنها باءت بالفشل ربما كان أهمها العجز عن تقليد أسلوب هتشكوك السينمائي المتميز.

ومن الأفلام التي أكملت بعد وفاة شخصيتها الرئيسة "لعبة الموت" المعروف بشكل أفضل باسم "دخول التنين" بطولة نجم الكاراتيه بروس لي الذي كتب القصة والسيناريو أيضاً. وخلال تصوير بعض مناظر الفيلم في هونغ كونغ، أصيب لي بوعكة صحية مفاجئة بعد تناوله حبة مسكنة للألم، تسببت في تورم دماغه ثم موته وهو في سن الثانية والثلاثين. وبالتشاور مع أقاربه ووصيه الفني تولى آخرون إكمال الفيلم بعد الاستعانة بعدد من الممثلين أشباه لي.

في 1996 بدأ المخرج البولندي/ الفرنسي رومان بولانسكي العمل على فيلمه "الشبيه"، بطولة جون ترافولتا وإيزابيل أدجاني. وكان مقرراً تصوير الفيلم في فرنسا وليس الولايات المتحدة لأن بولانسكي هارب من عدالتها بعد إدانته باغتصاب قاصر في سن 13 سنة 1977. وكان ترافولتا وقتها أسطع نجوم هوليوود، فنال عن دوره 17 مليون دولار (مبلغ قياسي في ذلك الوقت)، لكنه سرعان ما اصطدم بأسلوب بولانسكي ونفض يده عن العمل، وتبعته أدجاني بعيد ذلك، مما حدا ببولانسكي نفسه للتخلي عن فيلمه. وظل الفيلم مجرد فكرة إلى أن أخرجه البريطاني - النيجيري - النرويجي الموهوب رتشارد ايووادي بعد 17 سنة لاحقة (بطولة جيسي آيزنبرغ) وحصل على ثناء الجمهور والنقاد على السواء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفنون التشكيلية

أشهر الأعمال الفنية التشكيلية يعود إلى ليوناردو دا فينشي، وهو لوحته "تمجيد المجوس (للطفل عيسى بن مريم)" Adorazione dei Magi. وهذه لوحة بدأها فنان النهضة الإيطالي المعروف في شبابه الباكر بتكليف من رهبان أوغسطا في فلورنسا عام 1481، لكنه اضطر إلى الرحيل في العام التالي إلى ميلانو قبل إكمالها ولم يعد إلى العمل في تلك اللوحة حتى مماته. وظلت غاليري أوفيتسي الفلورنسية تعرض هذه اللوحة الناقصة منذ عام 1670 ولا تزال إلى اليوم.

وهناك "حلم دكينز". هذه لوحة بألوان الماء بدأها الفنان روبرت ويليام باس وتظهر الكاتب الإنجليزي الشهير تشارلز دكينز جالساً على كرسيه ومحاطاً بمختلف شخصياته التي ابتدعها خلال إنتاجه الأدبي الوفير. وكان ناشرو دكينز قد كلفوا باس بهذا العمل بعيد وفاة الكاتب الكبير، غير أن الرسومات الأولية لم تعجبهم فاستعانوا بفنان آخر بدلاً منه، لكن باس مضى في ما بدأه، ومع ذلك فلم يكمله إذ توفي هو أيضاً. وتعرض هذه اللوحة الآن في متحف تشارلز دكينز بلندن.

من اللوحات الشهيرة الناقصة أيضاً بورتريه للرئيس الأميركي الثاني والثلاثين فرانكلين د. روزفلت، وسبب شهرتها أنه كان يجلس أمام رسامتها الروسية – الأميركية إليزابيث شوماتوف في داره الصيفية المسماة "البيت الأبيض الصغير" بولاية جورجيا عندما وافته المنية. وكانت عشيقته، لوسي ميرسر رذافورد، هي التي رتبت أمر هذه اللوحة مع شوماتوف. وأثناء جلوسه أمامها شعر الرئيس بآلام مبرحة في مؤخرة رأسه وطلب بعض الراحة في سريره، لكنه أسلم الروح. وصارت هذه اللوحة الناقصة، التي تعرض اليوم في دار الرئيس نفسها، السبب في شهرة عالمية حصلت عليها شوماتوف التي ظلت حتى ذلك الوقت غير معروفة إلا على نطاق أصدقائها ومعارفها.

 

* مجمعة من عدة مصادر ورقية وإلكترونية.

المزيد من ثقافة